د.عبدالرزاق محمد جعفر
ثورة الثامن مـن شــباط 1963 :
بعد فترة قصيرة من نجاح تنظيم الضباط الأحرارفي الإطاحة بالنظام الملكي في الرابع عشر من تموز(July) عام 1958, نـَمت بذرة الخلافات بين الضباط "الأحرار" بزعامة العقيد عبدالسلام عارف وحزب البعث, المنادي بالوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة,.. وفي المقابل حاول الحزب الشـيوعي غيرالراغب لفكرة الوحدة الفورية,.. إلى طرح فكرة التعاون في مجالات أخرى بدلاً من الوحدة الشاملة.
*** وهكذا ساءت علاقات الزعيم عبدالكريم قاسم مع بعض زملائه من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار ثم تعكرت علاقته مع التيارات الوحدوية والقومية, التي لعبت دورا فاعلا في دعم ثورة الرابع عـشـرمن تموز 1958,.. أما جماهيرالحزب الشيوعي , فقد كانت طامحة لعقد تحالف مع الزعيم عبدالكريم قاسم , ألا أنه أرتاب من الشيوعيين , حيث أصبحوا قاب قوســين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم , وخاصة بعد الشعارالذي كان يردده الكثيرمنهم في مسـيراتهم,..مـرددين: "عاش الزعيم عبد الكريم,.. حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم!",.. ومنذ ذلك اليوم صـمم عبدالكريم قاسم على تحجيم التيارالشيوعي خوفاً من قلبه لنظام الحكم!, فقلم أظافره,.. وسـحب السلاح من ميليشياته واعتقل معظم قادته, إلا أنه أبقى على التيارالموالي له,.. وكان من قياداته العميد الطيار" جلال الأوقاتي", قائد القوة الجوية,والمقدم "فاضل المهداوي", ابن خالة الزعيم.
***وفي تلك الحقبة الحرجة,..اســتلم عبدالكريم قاســم تقريراً من شبكة الأعلام الخاصة به , تحذره من وجود مُؤامرة , مما حدى به الى أصدارأوامره بتوقيف اعضاء بارزين من حـزب البعث, وعلى اية حال , لم ينفع ذلك الأجراء من توخي ما لا تـُحمد عقباه, ونفذ القائمون الذين أنيطت بهم مهمة ثورة الثامن من شـباط , واغتالوا اللواء جلال الأوقاتي (قائد القوة الجوية),.. وهاجموا القاعدة العسـكرية في معسـكرالرشـيد , وفي نفــس الوقت توجهت وحداتهم العسكرية نحو بغداد, ثم اذاعت الحكومة المركزية في بغداد عـبر تلفزيون بغداد نبأ الأنقلاب!
***هاجت الجماهيرالغفيرة من الشـعب , وحرك الحزب الشــيوعي الآلاف من كوادره , للدفاع عن نظام ثورة الرابع عشــرمن تموز 1958 بقيادة عبدالكريم قاســم.
شاهدعيان لنهاية ثورة 14تموز1958,وبداية ثورة 8 شباط 1963:
*** من الصـدف النادرة التي حدثت معي , ان اكون صــباح يوم الثامن من شـباط شاهد عيان للحظات الأولى في تفجر ثورة الثامن من شباط (فبراير) 1963 ,.. حيث كنت احد المغادرين جواً من بغداد الى موسـكو, بعد قضاء العطلة الربيعية في ربوع الوطن!,..ففي مساء ذلك اليوم
شـارع السعدون في بغداد
توجهت الى منطقة السعدون لشـراء تذكرة طيران من شـركة امريكية اسـمها " بان امريكان", فقال لي مديرالمبيعات العراقي : ان الطيارة التي ســتقلك ســتصل صــباحا في حدود الســاعة التاســعة مـن طهران, ولربما ســتتأخر, عندئذ نسـفرك على طائرة خطوط جوية اخرى,.. ولم أعـر تلك الملاحظة اهمية, واعتبرتها امراً اعتيادياً,..أو قـُل من باب الأحتراس!
***وفي صباح يوم الثامن من شباط, توجهت مُبكراً بصحبة أخي بسيارته الخاصة الى مطار المثنى, ثم تعرف الموظف المسؤل عن أجراءات السفرعلى أخي المحاسب في الخطوط الجوية العراقية,وبسرعة اكمل لنا كافة اجراءات السفر, وبدات بمصافحة المودعين, وفي تمام الساعة التاسعة,.. سمعنا مكبرالصوت في صالة الأنتظاربالمطار, يعلن عن غلق أبواب المطار فوراً, وقرأ الأمربمنع تحليق اي طائرة في سـماء بغداد!,..وقد سـمعت فيما بعد أن طائرة قد غادرت قبل دقائق مطار بغداد,..فأتصلوا بها,.. وأجبرت على العودة والهبوط في مطار بغداد!
** أمتثل المسافـرون الى الأمر, وبدأ المسؤلون والأمن في المطار, بحـَثون الأهالي على مغادرة المطار فوراً, وتمكنتُ من اسـترجاع حقائبي بسـرعة,والكل يتسائل عن السـبب؟!, وسـمعت من يقول,انقلاب عسكري!, ومنهم من يقول : قـُتلَ عبدالكريم قاسـم !
البوابة الرئيسـية لبناية وزارة الدفاع العراقية
وما ان خرجنا من بناية المطارحتى شاهدنا في سماء بغداد, وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً, طائرة عسكرية تحوم فوق وزارة الدفاع,.. المقرالرئيس لعمل وســكن الزعيم عبدالكريم قاسـم, وتلى ذلك انفجارمدوي , ولذا لم يبقى امامنا ســوى الأبتعاد عن المكان بســرعة !,...خوفاً من قصـف المطارالواقع بالقرب وفي الجهة المواجهة لوزارة الدفاع!
*** وفي طريق العودة الذي يخترق الأعظمية,..وبالقرب من الجسرالحديدي , .. اعترضـتنا مظاهرة من الشــباب,بأيديهم أسلحة خفيفة,..ويرددون هتافات مدوية, ضـد نظام قاســم, وكانت وجهتهم نحو وزارة الدفاع الواقعة في باب المعظم.
الجســر الحديدي
*** وعلى أية حال كنا نرتجف خوفاً, وما أن وصلنا الدار حتى هـرعنا نحو الصالون لنـشاهـد ونسـتمع الى ما يبثه تلفزيون بغداد, وبدأنا نسـتوعب كل ما حدث ويحدث سـاعة بسـاعة,..وقد علمنا ان الزعيم عبدالكريم قاسـم ما زال حيا لغاية نهاية يوم الجمعة 8 شباط 1963!,..وسمعنا بعد وقت قصـيرمن اندلاع الثورة, عن خروج معظم اتباع النظام القاسمي, والحماية الشخصية للزعيم عبدالكريم قاسـم والفلاحين والعمال والحرفيين, في مظاهرة صاخبة, ينادون بالمواجهة والقتال من اجل حماية الزعيم قاســم.
***وفي يوم الســبت الموافق,9 شــباط (فبراير),1963 , وعند الســاعة 12.30 بعد الظهر, كان قد القي القبـض على الزعيم عبدالكريم قاسـم وكافة المسـؤلين في نظامه, واقتيدوا الى دار التلفزيون الحكومي في بغداد / الصالحية , وادخلوا الى قاعة الموسـيقى , وخضعوا لمحاكمة ســريعة,..وحكموا على عبدالكريم قاســم ورفاقه بالموت,..
وقد شـاهد العراقيون منظر القادة وهم مقيدين على الكراســي,...وقد فارقوا الحياة!
*** تكون نظام الحكم الجديد, من المجلس الوطني لقيادة الثورة,.. وتوزعت السـلطة فيه بين العسـكريين وقيادة حزب البعث العربي الأشتراكي , وتم التوافق على تعيين العقيد عبدالسـلام عارف رئيــساً للجمهورية, واحمد حــسن البكررئيــسأً للوزراء.
*** وبعد أسـتتباب الوضـع الجديد, تكونت لجان خاصة تضـم شـباب البعثيين في منطقة الأعظمية, اطلق عليها اســم "الحرس القومي", من اجل الدفاع عن النظام الجديد ضـد اي احتمال لتهديده , وبحدود بضـعة اســابيع تم القضـاء على اعداد من المؤيدين للنظام الســابق والمعارضين ممن يشــكلون تهديداً للنظام الجديد.
*** انقســم حزب البعث الى عدة تيارات, منها اليســاري واليميني,.. وتيارثالث ترأسـه احمد حســن البكر,.. مع زمرة من رفاقه!
*** الصراع بين قاسم وأعضاء تنظيم الضباط "الأحرار" والشخصيات السياسية الفاعلة في الساحة السياسية من مختلف التيارات, يعزى لأسباب عديدة نوقشت بأطناب من قبل المختصين, ولاأريد الخوض فيها,وسـأذكربعضها كما جاء في بعض المصادر, مثل الإجراءات التي اتخذها عبدالكريم قاسم لتفرده في السلطة والتغاضي عن هيمنة الحزب الشيوعي على السياسة العراقية ومَنح صلاحيات واسعة للتيارات المعارضة لتطبيق الأحكام الإسلامية في القانون العراقي!,...
وأضافة الى ذلك ابتعاده عن الميثاق الوطني لتنظيم الضباط الوطنيين لانضمام العراق للاتحاد العربي الموسوم:" بالجمهورية العربية المتحدة " ولذاتشـنجت العلائق مع أغلب الدول العربية خصوصا المحيطة بالعراق,.. وتوج اجرائاته بالغاء عضوية العراق من الجامعة العربية, وكذلك الاضطرابات التي حدثت ابان أعدامه لبعض قادة تنظيم الضباط الوطنيين, وانتفاضة الأكراد في أيلول عام1961,..وضربهم بقسـاوة, مما أدى إلى إضعاف هيمنته على حكم العراق وزاد الطين بلة طلبه لضم الكويت للعراق سنة 1961.
*** كما واجه انتقادات من المراجع الدينية التي أعترضت على القرارات التي كانت تعتبرها تغيرات نحو العلمانية في دولة متمسـكة بالعرف الديني والعشـائري , ومن أشهرتلك القرارات قانون الأحوال الشخصية التي ضمنت للمرأة حقوقاً بعيدة عن التـشـريع الإســلامي , ومستوحاة من الفكرالماركسي, وكذلك قانون الإصلاح الزراعي,والذي بموجبه انتزعت الأراضي العقارية
من الملاكين وشيوخ العشائروالاقطاعيين,.. وتم توزيعها على الفلاحين.
حركة 18 نوفمبر / تشرين الثاني 1963:
***بعد تسعة أشهر من الأطاحة بحقبة ثورة الرابع عشر من تموز في 8 شباط (فبراير), بدأت بوادر الاختلاف على الزعامة تلوح في الأفق , وتطورإلى انقسام بين التيارات, سُمي بالانشقاق,
وكان رئيس الجمهورية عبد السلام عارف يراقب باستياء الوضع مع زملاءه من قيادة الجيـش وأعضاء المجلس الوطني لقيادة الثورة,... فاتفق معهم على خطة تنفذها آمرية بغداد العسكرية للسيطرة على النظام,.. حيث اتفق مع أعضاء المجلــس الوطني لقيادة الثورة والقيادة العامة وموقع بغداد بالتحرك لتنفيذ خطته بإقصاء حزب البعث بتياريه المتصارعين.
*** ففي 18 نوفمبر(تشرين ثاني) 1963 صدرت الاوامر العسكرية بتحرك الجيش للسيطرة على بغداد, وتم اعتقال المتسببين بالفوضى وأعمال العنف وقيادات ما تبقى من تيارات الحزب واصدر عبد السلام عارف مرسوما باعفاء أحمد حسن البكرمن منصبه وحدده بالإقامة الجبرية ثم أصدر مرسوما بتعيينه سفيرا في وزارة الخارجية!,..كما قامت مجموعة من ضباط الجيــش, مع بعض البعثيين المتمردين على الحزب, تصـحبهم الدبابات لحراســة المناطق الأســتراتيجية في بغداد, ثم اطلقوا الصواريخ بأتجاه مركز قيادة الحرس القومي التابع لحزب البعث,وصدرت الأوامر للجنود لتطويق المقر, وألقاء القبض على قادة حزب البعث, وهكذا تمكنت تلك الحركة العسكرية الى اقصــاء البعثيين من الحكومة, وصارالنظام الجديد تحت حكم عبدالسلام عارف!
***بدأ التفكيرعند القادة الجدد بصـدد الوحدة مع العالم العربي, وهل من الأفضل اعلانه الآن, ام وضــعه جانباً في الوقت الحاضــر,... الا ان هشــاشـة النظام الجديد وضعفه, اوحى الى البعثيين في ايلول (سـبتمبر), 1964, بمهاجمة موطن القوة للنظام في عملية انقلابية اخرى,.. حيث تأجج الخلاف العقائدي بين عبدالسـلام عارف وبين قادة حزب البعث, ادى الى التصــادم المســلح بينهما, وقد اســفر ذلك التناحرالى زعزة النظام الجديد, وهكذا نشــطت المعارضة من القوى المناؤة التي كانت تســاند نظام عبدالكريم قاسـتم, وتوحدت مع بعض الأحزاب التقدمية للأطاحة بالنظام العارفي!
للراغبين الأطلاع على الحلقة الخامسة:
http://algardenia.com/maqalat/22058-2016-02-28-08-57-31.html
980 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع