أ.د. بشرى البستاني
العراق
تدور آراء كثيرة حول الأدب الذي تكتبه المرأة منذ انبثاق حركات تحررها ونهوض النسوية باشتراطاتهاومرجعياتها المتنوعة ، كما تدور حوارات عدة حول حقوقها والأدوار التي تقوم بها وما يتوجب لمواهبها ونتاجها الأدبي والفني من كشف وإضاءات ، وحول موضوعات كان من المحرم الخوض فيها كالجسد وما يتعلق به من تجليات ، ومع بزوغ عصر الرواية خطت المرأة خطوات مهمة ومتواترة في كتابة هذا الجنس الأدبي . وصار كثير من النقاد يرون أن الروائية العربية أكثر جرأة في بلوغ المناطق المحظورة والتعبير عنها من الشاعرة ... وأنها قالت في الايروتيك في أقلَّ من قرن ما لم تقله الشاعرة في قرون ، متناسين أنّ القضية ليست قضية جرأة بقدر ما هي قضية رؤية إبداعية لكل جنس وماهيته وطبيعة تشكيله وموقفه من القيم الجمالية وكيفية الكشف عنها أولا ، وهي قضية اختلاف في طبيعة اللغة وفي طرائق التعبير بكل فن من هذين الفنين ، فاللغة الشعرية لغة كينونة بينما لغة الرواية على الأغلب لغة صيرورة ، والأولى ليست متوالية لفظية تمنحنا معنىً مباشراً ، بل هي الاستعمال غير الدارج وغير المألوف ، وهي المنزاح عن الاعتيادي . والعلاقة الجدلية بين دوالها ومدلولاتها تُنتج دلالات ذات طاقة جمالية هي ناتج الطاقة الفنية الكامنة في التشكيل النصي ذي القدرة على بثِّ قراءات عدة ، وعليه فما قيمة النص الآيروتيكي إن وصف لنا غرف النوم وما يجري فيها من فعل بين الأزواج أو الأحبة بأشكال مباشرة ولغة إباحية طينية ماجنة ، وهل في هذا الوصف ما يثير الدهشة اليوم بعد أن امتلأت البيوت ومؤسسات الإعلام والهواتف بصور العري والجنس في الأفلام والمسلسلات والصحف والمجلات والأغاني حتى فقدت الأغنية وظيفتها الأساسية في منح متعة سمعية والتأمل بدلالتها حين تحولت لمشهد بصري عارم بالإغراء والإغواء والملاحقة دون أن نعرف من يغوي من ولماذا ..؟ أما بالنسبة لشيوع الرواية وتفوقها قرائياً على الشعر ، فيمكن القول إن هذا الرأي مأخوذٌ عموما بسهولة قراءة الرواية بلغة الصيرورة المسترسلة بسردها بعيدا عن كينونة الشعر وكثافته وترميز لغته الشعرية والوقوف بتأنٍ بحثا عن معانيه ، فالروائية على الأغلب تبوح أفقيا مما يجعل بوحها واضحا ، يصل المتلقي بيسر ، بينما لا يبوح الشعر الأصيل إلا بلغة شعرية تَتخفّى وتُخفي ، وتحجب أكثر مما تظهر كونها لغة الترميز والغياب ، وقد تحجب أسرارها حتى عن مبدعها أحيانا ، مما يجعل قراءة الشعر بحاجة لتذوق وفهم خاصين ، و لمعارف وجهد قرائي يبحث ويتأمل ويؤوِّل ليفكَّ التشكيلات والترميزات التي تحيل على مقاصد النص ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإننا نجد نموذجا آخر من شعر الايروتيك يبوح بصراحة حسية تمنح المتلقي كل دلالاتها دون عناء ، وقد صار لهذا الشعر وحسيّته وكشفه مواقع ومنتديات ومشاهد على النت ، لكن النقد أحيانا يستسلم لأحكام جاهزة تجعله يغادر عناء البحث عن الحقيقة في قراءة النصوص والتنقيب في الدواوين الشعرية والعمل على الحفر في الرمز والأسطورة وفي التشكيلات الاستعارية التي يكتنفها الغموض ، وفي التناص وستراتيجيات خفائه كذلك ، وقد يجده في الشعر الصوفي الذي كتبته وتكتبه الشاعرة العربية متوسلة بالحسي الى الروحي ، ولأني مع منْ يرفضون الكشف والعري أقول ، لا يمكن للأدب وقيمته الفنية أن ينزلق في مادية جسدية مطلقة بعيدا عن محور ارتكازه الروحي ، إن رحلة التعري الجسدي الذي رافق الفهم الخاطئ لمفهوم الحرية في الغرب ، صاحبها نوبة تعرٍ وتسطيح للكتابة لأن التعري يعني المباشرة ، والمباشرة تستلب النص طاقته الإيحائية وتوقف تعدد الصور التي ترسمها المخيلة بتأثير الإشارات التي يرسلها النص الكثيف ، فإذا كفَّ النص عن إرسال رمز أو تشكيل شعري ذي مستويات عدة كفت المخيلة عن الإيحاء ، والإيحاءُ جوهر الأدب وروحه النابضة ، وحين شعر الأديبُ الغربي بما آلت إليه الحرية المطلقة وعريها من خسارة التخيل والتطلع والدهشة والتوقع حين انكشف أمامه كل شيء ، عاد إلى السترابتيس (قطعة قماش لتغطية مناطق خاصة من الجسد) وأدرك أهمية الحجب الذي يبعث على الإيحاء والإثارة وتلوين النص جماليا ، ومن ثم إلى متعة التخيل والحلم ونقل النص الأدبي من المستوى التفسيري إلى المستوى التأويلي . ففي الحجب تغييب وغموضٌ يعمل على تشكيل طاقة تأويلية ، وفيه تطلعٌ نحو الكشف لإشباع رغبة المعرفة ، وهذه كلها من متطلبات الشعر والفنون .. تُرى ، هل في ذلك الكشف الحسي المقصود والإباحي المباشر في نماذج من الروايات العربية ومنها ما كتبته المرأة موقف فني إنساني ذو مقاصد أبعد من الحسية ، وهل في ذلك التعبير الماجن خيار توجيهي ومهمات مجتمعية تربوية ، أم هو لغة الهبوط بالأدب والمباشرة وإشعال الغرائز وافتقاد القيم وفي طليعتها القيم الجمالية ، ومن ابتكر هذه اللغة المكشوفة ،؟ هل ابتكرها الرجال لإشباع حاجاتهم ، وتناولتها الأنثى لإيقاع الرجل بها ، أم ابتكرتها المرأة ثأراً من سلطة الرجل ومن عصور الكبت والحجر والحرمان لتسقط معها في مهاوي الإفراط والتفريط ، ففي بعض أعمال الروائية العربية لا يمكن لأي قارئ جاد مواصلة قراءة الرواية ، لأنه لم يجد في أي رواية عالمية قرأها ما يجده في العربية من إسفاف ومجون وسقوط ، ولأنه لا يجد في بعض هذه الأخيرة أدبا أو قيما ولا مشاعر أو معاناة إنسانية ولا فضاء روائيا ولا حركة شخصيات ، بل يجد رجلا متهافتاً أو امرأة تعاني من هستريا غريزة جنسية همجية مجنونة ، تركض وراء رجل ما إن تلقاه حتى تخلع ثيابها دون مقدمة ولا حوار ولا سيمياء . وليس المهم هنا تسمية الكاتبات وأعمالهن في هذا المجال ، لأنَّ الأهم هو تأشير قضية موضوعية تجعل الجنس جزءا واحدا من كل ، وهذا الكلّ هو الحياة السليمة التي يسعى الأدب والفنون من أجل توازنها وتشكيل الانسجامات وسعادة الانسان فيها . ولا يسعني هنا إلا الاستشهاد بمقولة قيمة للمستشار الرئاسي الأمريكي باتريك جيه بوكانن بعد أن استهجن مجون الشعب الأمريكي وسقوطه الأخلاقي والعلاقات الجنسية خارج الزواج ، وبعد إدلائه بإحصائيات عن معدلات الخصوبة وتناقص السكان يوم قال مؤكداً : (إن هذه الاحصائيات هي إحصاءات مجتمع منحط وحضارة تموت، وإن الموت الأخلاقي هو صانع الموت البايولوجي ، وأن بلدا مثل هذا لا يمكن أن يكون حراً فلا وجود للحرية دون فضيلة، ولا وجود للفضيلة بغياب الإيمان )، فماذا سنقول نحن العرب أهل الفضيلة ودعاة الإيمان ..
1131 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع