د. محمد عياش الكبيسي
بصورة مفاجئة دخلت روسيا، وبصورة مفاجئة أيضا خرجت روسيا! هذا هو دأب كل الأنظمة البوليسية التي يتحكم فيها مزاج الحاكم ونزواته الشخصية، والتي تميل دائما إلى استعراض القوى وجلب الأنظار.
لا شك أن روسيا لم تكن تنوي احتلال سوريا ولا البقاء فيها إلى ما لا نهاية، وهي مهما أبدت من قوة وقابلية على الحركة تبقى أضعف من أن تدخل في حرب ساخنة ولا حتى باردة مع الناتو، وهذا يعني أنها إن لم تخرج اليوم فإنها ستخرج غدا أو بعد غد، كما أنه ينبغي استبعاد فكرة (الهزيمة) أمام الثوّار السوريين، مع تقديرنا للجهد الاستثنائي الذي يقدمونه، لأنهم في وضعهم الحالي أضعف من أن يجبروا دولة بحجم روسيا على الانسحاب.
على الأرض يمكن القول إن الروس قد حققوا عددا من أهدافهم السريعة ومنها:
أولا: استعراض قوتهم العسكرية في محاولة لإثبات الوجود إزاء أي ترتيبات أو تفاهمات جديدة في المنطقة، وقد أثمر هذا نشاطا دبلوماسيا ملحوظا حتى مع الدول المعارضة لهذا التدخل كالسعودية والبحرين.
ثانيا: تحجيم الدور التركي بشكل عام، ومحاولة عزله وتطويقه من خلال تقوية العصابات الكردية المسلحة والتي لها امتداداتها المؤذية والمزعجة داخل العمق التركي.
ثالثا: إضعاف الفصائل المعتدلة في الثورة السورية لصالح العصابات الأسدية، ولصالح (داعش) أيضا الذي تمدد في بعض المناطق تحت الغطاء الجوي الروسي، وهذا لوحده من شأنه أن يقوّي الوضع التفاوضي لبشار، حيث سيبدو أنه أهون الشرّين بالنسبة للمجتمع الدولي، وهذا رهان معروف للنظام الأسدي ومنذ وقت مبكر.
بعد تحقق هذه الأهداف لم يبق لهذا التدخل أي ضرورة خاصة مع شعور الروس أن حالة من الغضب والاستياء الشعبي تجاههم قد عمّت المنطقة بأسرها.
لقد أثبت الروس دائما أنهم ليسوا أصحاب مبادئ، ولا يلتزمون حتى مع أقرب حلفائهم، وهم لا يتورّعون عن الدناءات السياسية والمتاجرات الرخيصة، والابتزاز المفضوح الذي لا يتناسب مع الدول المحترمة فضلا عن كونها (دولة عظمى)، فلا يبعد أن يتراجعوا بأسرع مما يتوقع إذا كان هناك شيء ما يدخل في جيوبهم، وهذه السيرة ينبغي أن لا تغيب في أي محاولة لتحليل المواقف الروسية المضطربة والمفاجئة.
في المشهد الأوسع جاء الانسحاب الروسي متزامنا مع سلسلة من التغيّرات التي تنذر كلها أو تبشّر بصورة جديدة لوضع جديد قد تشهده المنطقة كلها في غضون الأيام والأشهر القادمة، ومن ذلك على سبيل المثال؛ التغيرات التي تشهدها الساحتان العراقية واليمنية، ففي العراق هناك ظهور قوي لعشائر الأنبار التي أسهمت بشكل سريع وفعّال في طرد داعش وهزيمتها في أكثر من مدينة، مع تحجيم واضح لدور الميليشيات في المحافظة، وانقسام حاد داخل (البيت الشيعي)، وفي اليمن هناك تقدّم كبير للمقاومة وتراجع لعصابات الحوثي، يضاف إلى ذلك الحلف العسكري الكبير الذي تقوده السعودية والذي قدّم مناورات هي الأكبر والأهم في تاريخ المنطقة كلها.
المهم إذاً ليس لماذا انسحب الروس، المهم ما الدور الذي يجب أن تتهيأ له دول الحلف العربي والإسلامي في ملء الفراغ، والتأثير الفعّال في رسم الصورة الجديدة لهذه المنطقة؟
1116 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع