خبير في الشؤون العسكرية
البعض من زعماء أقطار العرب والإسلام والعالم وقادتها وكبار مسؤوليها أمسوا يخشون إختلال موازينهم وتوازنهم، كونَهم يعلمون جيداً أن طبقات عديدة من شعوبهم تعاني الفقر والبطالة والجوع والمرض بعد أن تضاءلت الطبقة الوسطى وأمست الفوارق بين الأثرياء المُتخَمين حيال الطبقات المعدومة تشكّل نسبة مُرعـِبةً تنذر بالفَوَران في أقرب فرصة تُتاح لهم وسط ظروف قد تُتاح، ناهيك عن سوء إدارة أصحاب السلطة لأمورهم، وعدم مراعاتهم لحقوق الإنسان الأساسية ومطالب مجتمعاتهم.
إلاّ أن قادة ((العراق الجديد)) يبدون وكأنهم يرون أنفسهم بمنأى عن مُجريات أحداث ووقائع ومظاهرات تمخضت عنها ((إعتصامات)) شبيهة إكتسحت عام (2011) نظامَي حكم كانا مستقرين أعظم بكثير من النظام في "العراق الراهن"، فلم يَدُرْ ببال أفضل إستراتيجيي العالم وخبرائه ومُنَظِّريه أن يسقطا بين عشيّة وضُحاها وينهزم رئيس أولاها -من دون خجل أو إستحياء- خلال أسبوع واحد، بينما تَرَنَّح الثاني (18) يوماً تحت ضغط الجماهير المحتشّدة في أكثر من ميدان وسط كبريات المدن المصرية، حتى أُجبِرَ على التنحّي عن منصبه وتخلّى عن مسؤولياته...
وكي لا نطيل الحديث كثيراً فَلْنُجرِ مقارنةً -ولو سطحيّة- بين "العراق ومصر" فحسب... إذْ نَتوَصّـل إلى أن العراقيين منكوبون إلى ((درجة اليأس)) جراء أوضاع معيشتهم المتردّية وآمالهم المقطوعة حيال أي تحسّن قد يطرأ على واقعهم المرير بعد إنقضاء (13) عاماً على إنهيار نظامهم السياسي السابق والموصوف بـ"الدكتاتوري-الشمولي-الفاشل-الظالم-الغادر-الجائر-الهادر لأموال البلد-الخائض للحروب"... ومما يجدر ذكره أن ((اليأس)) -فضلاً عن الجوع والحرمان وإنتشار الفساد- أُعتُبـِرَ في كل التأريخ من أخطر الدوافع لإشعال الثورات، بل وفي مقدّمتها.
فعلى عكس "العراق الجديد" فقد عُرِفَت "مصر" في عهد الرئيس "مبارك" بـ((إستقرار سياسي وأمني وإقتصادي وثقافي)) ملحوظ، وتمتّع الرئيس بالقـِدح المُعَـلّى والسيطـرة التامة على جميع مقاليد الأمور بشكل لم يكن بإقتدار أحد من أعضاء السلطة التنفيذية ورؤساء مؤسساتها وربما السلطة القضائية وقبلهم جميعاً القادة الأمنيين والعسكريين وكل مرؤوسيهم الخروج على كلمته وعن أوامره، على عكس (180) درجة لما هو قائم في ((العراق الراهن السائب في دولته-المتقطع في أوصاله-المشتت في كل تفاصيله))... ولكن رغم ذلك وقعت في "مصر" ثورة شعبية عارمة أودت بنظامه عاجلاً وليس آجلاً.
و((الأمـن)) في بقاع "أرض الكنانة" كان مُستتبّـاً أعظم بكثير من معظم أقطار العرب والإسلام، حيث لا مفخّخات وأحزمة ناسفة وعبوات متفجّرة ولا ذبح على الهوية، أو إغتيالات مسؤولين وضباط شرطة وجيش وأجهزة أمنية وأفرادها وهجمات على البيوت وأهليها في وضح النهار بأسلحة كاتمة للصوت أو تفجيرها على رؤوس أصحابها... كما لم نسمع عن لجوء الملايين من المصريين خارج بلادهم و(4) ملايين مُضافين تركوا منازلهم ليعيشوا في مخيّمات داخل وطنهم...
ولذلك كانت ((السياحة)) على قدم وساق، وزيارات الأجانب بأمان مشهود وبواقع الملايين على مدار السنة وبمعدّلات يومية ظلّت سائرة يتمتّعون بوافر الخدمات وسط منتجعاتها بلا مُعـضـِلات تُذكَر...
فيما إمتلكت ((الشرطة والأجهزة الأمنية المصرية)) هيبةً ذات سطوة ورَهبة داخل المجتمع، ولم يَبْـدُ عليها في يوم من الأيام أنها عاجزة عن حماية ممتلكات الدولة ومباني وزاراتها ومؤسساتها والشركات الإستثمارية ومصارفها ومفاصلها و"البنك المركزي" ناهيك عن شخوص قادة الأحزاب وكبار مسؤولي الدولة المصرية سواءً في قلب عاصمتها أو أرجاء البلاد كافةً... وبقيت ((القوات المسلّحة المصرية)) وأجهزتها الإستخباراتية غير مُسَيَّسةً ولم تأتمر سوى بأوامر قادتها وتوجيهاتهم، وحُسِبَ لإمكاناتها إستراتيجياً في عموم المنطقة ألف حساب، وجُهِّـزت بأسلحة ثقيلة ممتازة ومعدّات محترمة من مصانع ذات صيت، كما إشتهرت ((المباحث والأمن العام والمخابرات العامة)) بإمكاناتها وعُرِفَت بأدائها... ولكن كل ذلك لم يَحُـلْ دون إنتفاضة الشعب المصري المعروف تأريخياً بهدوئه وحسن ثقافته ومزاحه، بل حتى برضوخه في العديد من الوقائع أمام حكّامه وأجهزة دولته.
وظلّت ((علاقات مصر)) مع دول الجوار وخصوصاً "إسرائيل"-مدلّلة واشنطن والغرب- ومع الدول العظمى ومعظم أقطار العالم ممتازة يُشار لها بالبَـنان طيلة ما يزيد على (3) عقود، وكان معظم قادة الشرق والغرب والشمال والجنوب يحاولون الحفاظ على نظام "القاهرة" السياسي كي لا يصيبه سوء... ولكن كل ذلك لم يمنع الشعب من الثورة.
ولا شك أن ((الديقراطية والتعددية وحرية الرأي والصحافة)) في عهد الرئيس "مبارك" كانت متوفـّرة بشكل أفضل بكثير من معظم أوطان العرب والإسلام والعديد من بلدان العالمَين الثالث والثاني، ليس على شكل شعارات ومزاعم وإدعاءات، بل كنا نتلمّسها -ولو عن بعد- بواقع "مصر" وأحزابها وتصريحات قادتها وإعلاميّيها والوسائل المتنوعة المُتاحة... ورغم ذلك سار الشعب ثائراً على النظام الحاكم.
أما ((الفراغ السياسي)) فلم يسمع به المصريون طوال تأريخهم المعاصر، ولم يحدث أن بقي بلدهم (11) شهراً بعد إجراء أية إنتخابات عامة من دون حكومة، بل وحتى أسبوعاً واحداً، أو تَـلَمّسَ المواطن ((فراغاً أمنياً)) لم تستطع أجهزة الدولة ومؤسساتها إملاءَه طوال (13) عاماً، إذْ كانت "القاهرة" فضلاً عن "الإسكندرية، السويس، الإسماعيلية، شرم الشيخ، طابا" ومعظم الموانئ لا تذق طعم النوم طيلة (24) ساعة ساهرة لخدمة سائحي "مصر" وزائري آثارها العظيمة ورواد مطاعمها ومقاهيها وملاهيها... ورغم ذلك لم يَرْضَ الشعب عن أداء نظام حكمه فثار عليه.
و((الخـِدمات)) بدت حسنة ومقبولة في أغلبية أرجاء "مصر" الشاسعة، ولم يَتَـشَـكَّ أحد -من مجموع ما يربو على (80) مليون مواطن- من شبه إنعدام للكهرباء وعن شحّة ماء وتراكم النفايات والأنقاض والأزبال وتكسّر الشوارع وإنعدام الأرصفة وطفح مياه المجاري العامة في أرقى أحياء العاصمة وكبريات المدن، ومحدودية الخدمات الصحية ورداءة المستشفيات ولجوء الملايين من مواطنيها إلى الخارج طلباً للأمان المفقود وهروب الأساتذة والعلماء وذوي العقول والطيارين والضباط الأقدمين إبتغاء سلامة شخوصهم وأفراد عائلاتهم تخلّصاً من الإغتيالات والإختطافات، وتدنّي مستويات المدارس والمعاهد والجامعات في قلب العاصمة والمدن الكبرى والموانئ والمنتجعات المصرية... ولكن ((الإيجابيات النسبية)) تلك لم تَحُـلْ دون غضب المصريين على مسؤوليهم.
وعلى قدر متابعتنا لأمور "مصر" ومشاهداتنا وزياراتنا المتكررة لبقاعها الجميلة في مرات عديدة، فمظاهر ((الفساد الإداري والمالي والمحسوبيات)) كانت مُتاحةً في دوائرها منذ عهد الرئيس الراحل "جمال عبدالناصر" على أقل تقدير، وقد سجِّلَت وقائع إختلاس للمال العام وإرتشاء وسرقات لأموال الشعب... ولكن الدولة المصرية لم تُدرَج في يوم ما وسط تقارير وإستفتاءات وإحصائيات عالمية ضمن ((أفسد رابع دولة)) ولا حتى من ((أفسد خمسين دولة)) في العالم، ولم تُسجَّـلْ في ربوعها إختلاسات وتلاعبات على مستوى الوزراء والقادة والساسة ورجال الدين بواقع عشرات المليارات من الدولارات، وُصِفَتْ بتقارير لمنظمات عالمية مرموقة كونها ((أعظم السرقات في التأريخ))،... وعلى الرغم من ذلك ثار الشعب لإزاحة حكّامه.
وفي كل العهود المعاصرة التي عاشتها "مصر"، لم يحدث أن ((إختـبـأ)) أحد من وزرائها ووكلاء وزاراتها وزعماء أحزابها وقادتها العسكريين والأمنيين في غير بيوتهم، وهيّـأ كلّ واحد منهم لذاته ((ديواناً فارهاً)) و((مكاتب خاصة)) و((مساكن عامرة)) تتوسّط بقاعاً محدّدة ومحصَّـنة تسمّى "المنطقة الخضراء أو البيضاء أو الصفراء"، حيث يقضي دوامه الرسمي فيها، ويتمتع بباقي يومه بأشياء وأشياء لا نرى داعياً لسردها، ولا يعرف ما يجري في البلد وما يعانيه مواطنوه من ضنك العيش، كي لا يتعرّض ((معاليه)) أو ((فخامته)) أو (سعادته)) لأخطار الطريق... وكذلك لم يُسكـِن عائلته في فيلاّت خاصة وسط منطقة محدّدة، أو في قصور تركها رئيس راحل أو أقرباؤه وكبار مسؤولي النظام ((الفاسد؟؟؟!!!) السابق... ورغم ذلك لم يَرْضَ عنهم الشعب، فثار عليهم.
ولربما لم يحدث كذلك أن إنتقل عضو واحد من ((أعضاء مجلسَي الشعب والشورى)) المصريّين -فور أدائه اليمين الدستورية- إلى ((فندق)) عامر بـ"منطقة خضراء"، أو إستأجر مسكناً فارهاً على حساب ميزانية أحد المجلسَين ببقعة محصّـنة، قبل أن يغلق هواتفه أو يتعمّد بإستبدال أرقامها بلا إستحياء، ويحيط شخصه بعشرات من أفراد الحماية والسيارات المصفحة على نفقة الدولة ومن أموال شعب مسكين ومكفوخ ومغلوب على أمره، كي لا يصل إليه أحد ولا يتواصل مع أحد... كما لم يستحصل أحدهم راتباً ومخصّصات دائمة قدرها (31.000) دولار أمريكي في الشهر، وتعادل (100) راتب ممّا يتقاضاه موظف عراقي يحمل شهادة "بكالوريوس"، وجواز سفر دبلوماسياً لشخصه وجميع أفراد عائلته مدى العمر... وكذلك لم يتسلّم نائب مصري بعد إنقضاء ولايته راتباً تقاعدياً مدى العمر يبلغ (80%) من مجموع ما كان يتقاضاه أثناء كونه نائباً بالمجلس... وعلى العموم لم ينقطع أولئك النواب عن الشعب متجاهلين آلامه ومتناسين أوجاعه ولابسين بالحذاء إرهاصاته ومعيشته الضنكاء وجوعه وفقره وبطالته والملايين من ثـكالاه ومَـكلوميه وأيتامه... وقلّما نسَوا أفضال أولئك ((المخدوعين)) الذين صَوَّتوا لهم فأوصَـلوهم -على عـِلاّتـهم وتواضع إمكاناتهم وشهاداتهم الدراسية- إلى كرسي النيابة لِيُحسَبوا بمثابة ((شخصيات مُعتَبَرة!!!)) بالبلد... أو هـُم نَقَـلوا أفراد عائلاتهم خارج الوطن ليكونوا في مأمن من كل المخاطر، وهيّأوا لهم من السحت الحرام -إضافة إلى شبه الحلال- ما يكفيهم في مستقبلهم المنظور... ورغم ذلك ثار الشعب المصري على ممثـّليه بـ((مجلس الشعب-المُنتَخَب ديمقراطياً)) و((مجلس الشورى-المعيّن دستورياً))، قاذفاً بهم إلى مزبلة التأريخ.
ولا نعتقد بشكل مطلق أن ((الإنـفاق الحكومي)) قد بلغ في "مصر" (80%) من ميزانية الدولة تغطي رواتب الرئاسات الثلاث وقادة القوات المسلحة وعموم الأجهزة الأمنية ومخصصاتهم وحماياتهم الخاصة والمساكن المستأجرة للذوات والشخصيات ودفع تخصيصات الأحزاب والكتل السياسية الكبيرة فقط، إذْ لا يبقى سوى (20%) من الميزانية العامة للخدمات (10%) منها يسرقها صغار المسؤولين والمقاولين بالإتفاق مع أصحاب العقود والمبايعات وموظفي المشتريات عَياناً وأمام أنظار معظم الوزراء وكبار موظفيهم وبعلمهم ومعرفتهم بما يجري في أروقة دوائرهم، فيبقى (10%) من عموم الميزانية لتُصرَفَ لـ((الترفيه عن الشعب وتحقيق حوائجه وتحقيق أفضل الخدمات لأبنائه وتأمين مستقبله المشرق!!!؟؟؟))... وعلى الرغم من ذلك لم يَرْضَ الشعب المصري وإعتبر مؤسسات دولته تلك فاسدةً، فطفح كَيلُه فثار عليها وأسقط القائمين على إدارتها.
وقد نحسب ما سردناه من حقائق وآلام ومواجع وإرهاصات غيضاً من فيض ممّا هو واقع الأمور بوطننا، فما خفي أعظم وأنكى وأمَـرّ... لذلك فعلى القائمين على حكم ((العراق الراهن-المنكوب-المدمر-المخرب-المغلوب على أمره)) وأعضاء مجلس نوابه الفاسد وقُضاته وقادة أحزابه وكبار موظّفيه، أن لا يُبقـوا رؤوسهم مغروسةً في الرمال ويضحوا كالنعام لا يرون شيئاً مُعتقـِدين أن الآخرين لا يَرونَهم، وأن لا يتشبّـثوا بشعارات ((الديقراطية-التعددية-الحرية-الشفافية-النزاهة-الأجندات)) و((ضرورات الحفاظ على العملية السياسية)) التي يتبجّحون بها، وليتيقّنوا أن شعب العراق قد مَـلَّ من إجترارهم لتلك ((الترهات))... هذا الشعب الذي إذا غضب، وقد بدت أوائله وتوضّحَت معالمه منذ أشهر، فهو -على عكس شَعبَي ذلكما القطرَين المُسالِـمَين- سيحرقهم ومعهم الأخضر واليابس، وسيكون مصيرهم -إن إقتدروا على الخلاص من أيدي الشعب الغاضب، وجميعهم بإعتقادنا قد خطّطَوا لذلك- في مزبلة التأريخ، وسيكون "الإنتربول" وأجهزة القضاء والشرطة لدى الحكومات المانحة لهم ولأفراد أُسَرِهـِم جنسيات ثانية وثالثةً في ملاحقتهم إبتغاء مثولهم أمام القضاء في أواخر سنيّ أعمارهم، وسيندمون ساعة لا يفيدهم الندم...
إذاً فليتّعظوا وليمسكوا زمام الحكم ويفرضوا الأمن والأمان، ليس بالقوة المسلّحة وبالآلاف من نقاط التفتيش والسيطرة والدوريات المُرابطة وزج المناوئين بالسجون والمحاجر وفق "المادة/4/إرهاب" وشماعة "داعش والقاعدة" وأعمال التعذيب والقسر والظلم فحسب، بل عليهم أن يكفّوا عن السـِحت الحرام والطوائفيات والمذاهبيات والأعراقيات والمحسوبيات والمحاصصات التي مَـقَـتَها شعب الرافدَين وكرهها، وأن يكتفوا برواتبهم ومخصّصاتهم الضخمة ويخفّضوها بشكل يُرضي الشعب، فهي تكفيهم وأولادهم بل وحتى أحفادهم، ويديروا ظهرهم عن أموال الدولة التي تحت أيديهم وضمن صلاحياتهم ليضعوا أنفسهم في خدمة المواطن العراقي المنكوب الذي حمل روحه على كفّيه ليجلسهم على كراسي الحكم والتشريع والقضاء، فالعراقيون أهلٌ بأن يُخدَموا في أغنى بلدان العالم القائم وبأحضان وطنهم الطافح على بحار من النفط ومستودعات من الغاز والمعادن وأرض خصبة غير مستغلّة يخترقها نهران عظيمان و(3) كبيرات ومن الروافد والنُهَيرات والجداول غير المستثمَرة بالعشرات....
فإشهد لي يا إلهي فإني بلّغتُ، وقد أعذر من أنذر.
705 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع