د.عبد القادر القيسي
لا مهنةْ على الارض، مجرَدَةٌ من الأخْلاقياتْ، بل يوجدُ مهنيونَ دونَ أخلاق، وسمة المحاماة الأولى هي الوقار، فإن فقد المحامي وقاره، فقد موكله، وفقد قضيته، وفقد قاضيه، وفقد نفسه.
المحاماة لمن يعشقها، وهي إن أعطت فهي لا تعطي إلا لمن عشقها وسار في دروبها وتمكن من الوصول إلى فنها وأسرارها.
لقد منحتني المحاماة والقانون وبعضا من السياسة، صلابة الموقف وبعدالة قضايا كثيرة، وجعلتني أتبوأ عرش الدفاع وسلحتني بالقانون، والشعر والقصة تمنح الإلهام للمحام.
وفي تجوالٍ على قواعد السلوك المهني لعام 1987 ( قلما وجدت محام يعرفها)نجدها نظامِ متكامل لآداب مهنةِ المحاماةِ ومناقبِ المحامين ومكمِّل لقانونِ المحاماة منظم عمل المهنة، وهذا النظامَ ركز وعالجَ علاقةَ المحامي مع زملائه وبدقة وعلى أساسِ المناصرة والصدقِ والثقةِ والاحترام، وحظّرَ الذمَّ والتجريحْ، فالمحامون أمامَ القوس، متنافسون لا متخاصمون، منحازون كلٌّ لموكلِه، ثائرون دفاعاً عن وكالتِهم، لكنّهم في النهاية مسافرون في مركبٍ واحدْ هو مركبُ القانون، فالمحاماةُ لم تكنْ يوماً ولن تكونَ تحتَ وصايةِ السياسة وأهلِها، بل ان بَيتَ المحامي هو صرحٌ للقضايا الوطنية، تتكسرُ عند أبوابِه الحساباتُ السياسية.
عندما كنت في دورة لمدة شهر في كوريا الجنوبية في عام 2007 وكانت بدعم من مركز دولي قانوني، كانت معنا محامية من لبنان، كنا نجلس في فترة الغذاء نتحاور في أمور عديدة، وروت لي وقائع دعوى قليلة الحدوث، توكلت فيها محدثتي تتعلق برجل اعلامي تاجر كبير، تعاقد مع احدى النساء المحاميات، التي ادعت انها(اديبة وقاصة وشاعرة) وتكنى ب(اديبة طرابلس الاشهر) لفتح شركة فنية إعلامية، وهذه التسمية والشهرة دفعت موكلي للتعاقد سريعا معها كمديرة للشركة، لكن الشركة بعد مدة بدأت تخسر بسبب سوء ادارتها، واكتشافه انها تعمل لتحقيق مصالحها الشخصية، وان ادعائها بانها(اديبة طرابلس الاشهر) كان للتغرير والايهام، بعد ان علم انها ليست من منطقة طرابلس بل من محافظة ملاصقة لطرابلس وادعت انها من طرابلس لخصوصية هذه المحافظة واهميتها في تسويق نفسها، وتأكد يقينا موكلي انها كانت تسوق لنفسها اكثر من تحقيق مصالح الشركة، وانها طبعت اشعار وقصص على حساب الشركة ولم تستفاد منها الشركة وكان المحتوى هابط ولا يمتلك الأسس الرصينة للقصة او الشعر، كل هذه الحقائق الماثلة امام موكلي دفعته لإقامة الدعوى وكنت انا وكيلته، وقمت حينها بعرض الامر على شعراء وقاصين وادباء للوقوف على حقائق قصصية وشعرية اجهلها، واحدى لوائحي الدفاعية التي طرحتها للمحكمة تضمنت((... الشعر ومض إلهامي تشترك في صياغته كافة أحاسيس الجسد، وإن كان نصيبه من الروح أكثر، والأفكار والمواضيع الشعرية تتوارد قادمة من عالم آخر إلى الذهن، كما تتوارد النسائم إلى براعم الأزهار فتجبرها أن تنشر العطر، وهكذا هي الحالة الشعرية.... والقاصة والشاعرة(فلانة) لم تكتب كل ما يتناسب مع كل أذواق المجتمع، ولم تكن صياغتها للشعر في... صياغة يفهمها ويحبها جميع الناس، بل لم تكن الالفاظ في .... جزلة، وسهلة، ومتداولة، بل كانت تحمل غرابةً وتثير استغراباً وتحتاج إلى معجم لتفسيرها.... والمدعى عليها محامية ومدير للشركة، وكان عليها ان تعمل لتحقيق مصالح الشركة، لكنها بسبب سوء اداراتها أدت الى خسارة موكلي، وقد غررت به من خلال كنيتها ورسمها لنفسها صورة غير حقيقية... واتّخذت من أنوثتها ومفاتنها عكازا تجتاز به مطبّات السياسة التي يضعها الرجال الزبائن للشركة؛ لاسيما أصحاب العيون الزائغة منهم......وكانت تدعي علميتها لكنها لا تعرف كتابة لائحة بسيطة، بل انها تسببت بخسارة موكلي لقضية للشركة بسبب جهلها بمدد الطعن،.... وتتصرف بطريقة الغش والتدليس مع موكلي، ولم تجسد كنيتها وعملها كقاصة وشاعرة ومحامية ومديرة للشركة عليها مهام رئيسية منها تحقيق الربح والسمعة الطيبة،.... حيث كان عليها ان تجعل الكلمة والمحاماة، تتعانقان؛ فبينهما علاقة حميمة وتأثير متبادل يصل إلي حد الاندماج، كلاهما يأخذ من الاخر ويصب فيه، لذلك ظلت المحاماة علي صلة دائمة لم تنقطع أبدا بالأدب والشعر والفكر، وكانت تنشر عدة منشورات على صفحتها في الفيس بوك تسطر بها مثاليات بعيدة عن واقع عملها منها.... ولها منشور تشير به لمواصفات المواطن اللبناني بطريقة توهم القارئ بانها تحمل الوطنية الجياشة لكن الفعل لا ينطبق وكانت تقوم بعرض هذه المنشورات على موكلي لإيهامه بوطنيتها واخلاصها..... وعكست تصرفاتها هذه لصورة قاتمة لعملها المهني والادبي عكس ما سطره عمالقة في المحاماة من صفحات رائعة في الآداب والفكر والثقافة, حتي بات عسيرا أن ترد أحدهم إلى هذه دون تلك.. وعرف الأدب والفكر الدكتور محمد حسين هيكل في زينب أول وفي منزل الوحي... وجان جاك روسو وغيرهم,...وعرفت الحياة الأدبية توفيق الحكيم الذي كانت أولي الهاماته في عالم الأدب مستوحاة من تجربته في ساحة القضاء برائعته: يوميات نائب في الأرياف, وكتابه: عدالة وفن, وعرفت الحياة الأدبية ....وعاينت دوره الذي امتزجت فيه رؤيته بالمحاماة وتجربته .. وسياحاته في الفكر والأدب الإنساني، ليقدم مزيجا رائعا وباقة من أميز ما قدم الي المكتبة العربية...)) وقد كسبت الدعوى.
أن صرح المحاماة لا يستقيم إلا إذا كانت الأخلاق عماده:
وهذه القصة تذكرني بحالة مشابهة مع احد المحامين الصحفيين من بغداد، الذي تصرف معي سابقا بكياسة عالية ورائعة جدا جدا جدا؛؛؛؛؛؛ تكاد تنطبق وما ذكرته محدثتي في اعلاها، حيث وجدته يسير خلفي وانا متجه لسيارتي واحتراما له توقفت لأني كنت بعيدا عنه وتوقعي انه يحتاج لمساعدة، ولدى توقفي، ووصوله بقربي سلم علي وتركني ودخل الى دائرة تنفيذية لتعقيب معاملة وتناسى اني انتظرته وقدرته، واهتز جسدي حتى درجة الانفعال والارتعاش، فنسيت ذاتي، وكم تأسفت لأني توقفت وانتظرته، وعاتبته برسالة هاتفية عنيفة واعتذر اعتذار باهت مثله، فالمحامي يجب أن يتحلى بقواعد اللياقة والأخلاق الفاضلة حتى عندما ينزع ثوب المحاماة ويمارس حياته الخاصّة.
واخبرته في اليوم الثاني لدى مقابلتي له: نحن المحامين نعيشُ في بيت واحد، ونقرأ في كتاب واحد، نتجاورُ ونتحاورُ كلَّ لحظة، وبالتالي تحكُمنا آدابُ التواصلِ واللياقة والتعاملِ والتفاعلْ، لكني وجدت تصرفك غير لائق وبعيد عن الخلق المهني والاجتماعي وقبلها تعترض على مقالاتي بطريقة تهكمية وبخاصة انته صحفي، وهناك صلة متينة بين الصحافة والمحاماة فجوهر المحاماة أنها رسالة إقناع، شحنة من الحجج والبراهين, يعرضها المحامي علي قضاته، ليصل بحديثه وبيانه وحججه الي وجدان وعقيدة المحكمة، وعملك معي قد شكل لدي رؤية جديدة قد تستلزم أن ازيل لدي رؤية سبقت، وهناك مصاهرة موصولة بين المحاماة والصحافة، وأكدت عليه: كنت قد نشرت مقال سابق، تسال فيه من هو المحامي العراقي وما هي صفاته، واجيبك:
= المحام العراقي: من يقدر المحام الأكثر منه خبرة وعلمية ويحاول الاستفادة منه، بخاصة عندما يقف ليقدم له خبرته ويبدي له رغبته بمساعدته، لا ان يتركه ويرحل بطريقة غير مؤدبة.
= المحام العراقي: من يحترم زملائه ولا ينكل بهم ويتهمهم اتهامات باطلة فاسدة امام جمع من المحامين.
=المحام العراقي: ليس من يقوم بتوزيع البقصم والكليجة ليثبت عراقيته، انما هو الذي يحترم حملة الشهادات عندما يقدمون له نتاجهم الفكري كهدية له، لا ان يطنشهم بطريقة بعيدة عن أي عرف اجتماعي.
=المحام العراقي: الذي لا يحول نفسه الى ديكور متنقل او فاترينه للعرض كوسيلة لكسب الدعاوى بخاصة، عند الذهاب لمحاكم ودوائر بعيدة عن المركز.
=المحام العراقي: الذي يقر بمحدودية خبرته، لا يقول لاحد نبلاء المهنة وصفوتها بعنجهية فارغة بانه غلطان، وهو محام صلاحيته محدودة وحديث التخرج.
=المحام العراقي: الذي يعرف صلاحيته المحدودة لا تتيح له انشاء منظمات؛ لكنه رغم ذلك يقوم بإنشائها في دكاكين لأجل الترويج والعمل غير المشروع، ويرشح نفسه للعمل في ميادين بعيدة عن اختصاصه، كالعمل في اتحادات لرجال اعمال او مجاميع نسوية او لجان استثمارية لسرقة المحافظات المنكوبة عفوا اعمارها.
=المحام العراقي: الذي يفسح المجال للمحامين المعسرين في استلام منحتهم لا ان يزاحمهم ويدعي انه لا يمتلك حتى بدل تجديد الهوية في حين، انه ميسور ويسكن في بيت بإيجار عال، ويلبس أفخم الملابس ويركب سيارة فاخرة.
=المحام العراقي: الذي لا يمتهن مهنة تعقيب المعاملات والسير وراء الموكلين بطريقة تذللية والجلوس في طرقات المحكمة لقنص الزبائن او ارتداء روب المحاماة بدون مرافعة والتجوال به في الرجاء المحكمة كوسيلة لجلب الزبائن والايحاء بالعمل المزدحم.
=المحام العراقي: الذي لا يترك شؤون مهنته ويجلس متسمرا على الفيس بوك، لساعات باحثا عن اعجابات او مشاركات وينشر مثاليات واقوال بعيدة عن واقعه واخلاقه، ويروج لأعياد ومناسبات ليست من تقاليدنا وعرفنا.
هذه المحاضرة البسيطة، ارجعت لي جزء من كبريائي المجروح، وطلبا لهذه المقاصد:
نقول لبعض ممارسي مهنة المحاماة والطارئين عليها في زمن الاحتلال والجلاء الذين وجدوا في هذه المهنة (ارتزاقا)، دون مراعاة اخلاقيات المهنة، فهم يريدون اختصار الوقت للوصول إلى الشهرة، حتى لو حقَّقوا ذلك بالدفاع عن الظالم مُقابل مبلغ كبير من المال.
أن المادة 108 من قانون المحاماة النافذ قد جاءت محذرة المحامي من مغبّة الاستهتار بالأخلاق أو الحياد عنها فقد نصت على أنه(كل محامي اخل بواجب من واجبات المحاماة أو تصرف تصرفا يحط من قدرها أو قام بعمل يمس كرامة المحامين أو خالف حكما من أحكام هذا القانون يحاكم تأديبيا) فسلوك المحامي في حياته اليومية يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن الشبهات أو المآخذ فكل فرد في هذه المهنة هو سفير لدى حصن الدفاع وهو الفاضل المعلم الذي يجب أن يرنو بنفسه عن كل ما من شأنه أن يمسّ بهيبة المحاماة وجلالها، فلا يمارس ما ينافي الأخلاق ولا يتلفظ بما يشين ولا يرتدي لباسا غير محترم يهز من مكانته، فالأخلاق هي نبراس الدعاوى والمعاملات بين المحامي وزملائه..
ونصت المادة (51) من قانون المحاماة النافذ التي نصت على أنه:::(على المحامي أن يلتزم في معاملة زملائه بما تقضي به قواعد اللياقة وتقاليد المحاماة وآدابها).وهذا ما تضمنته قواعد السلوك المهني لعام 1987 في البند خامسا التي نصت على:::(التزامات المحامي تجاه زملائه: على المحامي أن يلتزم في معاملة زملائه بما تقتضي به قواعد اللياقة وتقاليد المحاماة وآدابها وواجب الزمالة ...)فالأخلاق جهاد ونضال مر من اجل حياة فاضلة للفرد والمجتمع، اما العلم فمن السهل اغترافه والعودة الى مصادره لمن يشاء من الناس سواء كان من اصحاب الخلق الرفيع او من اصحاب الفسق والفجور..
وبهذا تكون الأخلاق جزء من الأعراف المهنية ونبراسا يهتدي به المحامون في أعمالهم، فهي قيود معنوية بالغة الأهمية، وهي العماد الذي يشدّ أوتاد بيت المحاماة؛ لكي يتغلب على إغراءات تصادفه وصعوبات تجابهه وسلبيات تجذبه إلى الهاوية إن لم يكن خلوقاً يقظاً..
وهذا أيضًا لا ينفي وجود الكثير منهم يتعاملون بأخلاق وشرف المهنة، كما يوجد أيضًا محامون في قمة الطموح وحققوا الكثير من الشهرة وإثبات مهارات وإجادة كبيرة لهذه المهنة، واذكر هنا شعرا جميلا عن المحاماة (بتصرف بسيط):
في ساحة المحكمة ......كتبت هذه المرافعة
حيث كنت اعيش في مدينة بلا حب.... وبدأت اكتب اشعار الحب ...
فبدا لحكام المدينة انني خالفت القوانين ......وأصدروا حكم الاعدام .....
بدأت ابحث عن محامي جهبذ ....... لكن جميع المحامين يخشون المرافعة
ولا يستطيعون انصاف الحب.........فتصديت للمرافعة
وكسبت القضية......الـــــمــــــحــــامــــي
حكم القضاة عليَ بالإعدام .........قالوا: لقد أسرفت في الأوهام
مُنعت روايات الهوى عن أرضنا..........ولقد نقضت مبادئ الحكام
ياللتعاسة انني في بلدة.........لا تستطيع الحب في الاحلام
ما ذنب سكان المدينة إن أتوا........بالحب , هل طُبعوا على الإجرام؟؟
الحب ليس جريمة _ ياسادتي_..........تحتاج قاضٍ، او تريد محامي
إن كان معنى الحب يخفى عنكمُ ...........فالحب يظهر في فصيح كلامي
قانونكم غول يلوك قلوبنا...................ويمدّها باليأس والإيلام
قانونكم ضرب القلوب بمقتلٍ............واغتال ضخّ الحب في الأجسام
لا تنظروا للحب نظرة جاهلٍ..............لا تُلبسوا الحب اللثام تعسُّفا
فالحب لن يخفى بأي لثام...................إن كان نور الشمس يُذهب ظلمة
فالحب يجلو عنك كل ظلام..................الحب مرسول السلام تراه في
الآفاق يرسم أجمل الأحلام................هاذي مرافعتي فهاتوا حكمكم
هل استحق الحكم بالإعدام؟؟..............صَمْتٌ هوى في ارض محكمة الهوى
صمْت القضاة دليل الاستسلام............مست مرافعتي شغاف قلوبهم
علموا بأن الحب امر سامي..............بدأوا التشاور والقلوب تسارَعتْ
في النبض تخشى قسوة الأحكام..........قال القضاة : اليوم ينطق عدلُــنا
الآن تــُنــزَل راية الإجرام......الآن تُـــــرفَع راية الحب التي
نقضت قرار الحكم بالإعدام.......رُفـــــــعت الــجــــلســـة
731 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع