حامد خيري الحيدر
في عام 2006 ق.م سقطت مدينة (أور) عاصمة سلالة السومريين الثالثة على يد العيلاميين.. لتُنهي تلك الفاجعة المريرة المجد السومري العظيم الذي مثلته تلك السلالة.. لقد كان ذلك السقوط المؤلم من الوحشية والفظاعة، بحيث ظلت ذكراه عالقة في ذهن شعب سومر لسنين طويلة بعده، بسبب الدمار وشراسة الانتقام الذي صُب على هذه الحاضرة الخالدة، بما كانت تحويه من رقي حضاري أبهر العالم القديم بأسره. حينها صور أحد الكتاب السومريين تلك الكارثة بقطعة أدبية مؤثرة تقطر لوعة والما، عُرفت لدى الباحثين والمؤرخين باسم (مرثية أور)، وصفت سطورها ما آل اليه حال المدينة وشعبها أبلغ وصف.... ولابد أن هذه المرثية بكلماتها الصادقة المؤلمة، تجعلنا نستعيد بألم وحرقة ذكرى احتلال عراقنا الغالي عام 2003 من قبل ذئاب أمريكا وعملائها الأقزام بأيامه السوداء الكريهة، وما جلبه ذلك الاحتلال البغيض من كوارث ومصائب لشعبنا العظيم ووطننا الجميل لازالت آثارها باقية حتى اليوم.... أن من يقرأ سطور هذه اللوحة بما احتوته من فواجع وآلام، ويتمعن ملياً في رمزيتها، قد لا يتصور أنها دونت قبل أكثر من أربعة آلاف عام، بل أنها كتبت بالأمس القريب فقط، كونها تحاكي نفس المأساة التي المت بوطننا الصابر الجريح، وهكذا هو حال التاريخ تعيد ايامه نفسها دوماً..... لكن من قراءة سطور هذه القصيدة يمكن القول أيضاً، أن العراق الذي أستطاع أن يلملم نوائبه ومعاناته، ويضمد جراحه العميقة بعد كل تلك المآسي التي مرت به على مدى تاريخه الطويل، لقادر وأن طال الزمن أن ينهض من جديد صارخاً بوجه الأيام، وهو أعظم شأناً وأعلى هامةً، وأكثر شموخاً بين باقي أمم الأرض......
ناحت (أور)، وشاركها النواح إلهها الباكي
(ننار)1 إلهك المُحب الذي دُمرت بلاده
ينوح نواح الثكلى، وشاركته الالهة النواح
رثاؤك مرٌ أليم أيتها المدينة
مدينة (أور) المُخربة رثاؤها مرٌ أليم
سيظل نواحك يُحزن إلهك الباكي
إلهك الذي دُمر معبده يشارك مدينته البكاء
شاركته (ننكًال)2 البكاء على مدينته المضيئة
هجرت الآلهة النائحة المدينة
فأظلم النهار ولم يعد من ثمة قانون أو نظام
أطبق الأعداء على المدينة كالأعاصير العاتية
واكتسحت العاصفة كل شيء كالطوفان
دُمرت الاسواق والبيوت والمزارع
وأزيلت حضائر الحيوانات من الوجود
لم تعد ثيران وأغنام سومر تسرح في مراعيها
أصبحت مياه الأنهار راكدة آسنة
صارت الحقول الغنية تنبت أعشاباً ضارة
والسهول الواسعة أخذت تنتج مزروعات ذابلة
أصبحت الأم لا تنحني على أطفالها
ولم تعد تغني لهم أغانيها الجميلة
لم يعد الزوج يتغزل بزوجته
ولم تعد الزوجة تفرح لملاقاته
لقد تغير حال الحكم
جاء حكم كريه من أرض معادية
استباح المعابد وأهان الآلهة
أقدام الجنود دَنست حرم (أي كًشنو كًال)3 المقدس
لم يعد أبناء (أور) يقيمون في منازلهم
لقد أصبحوا غرباء في مدينتهم
ذبل النبت على ضفاف دجلة والفرات
ولم يعد أحد يسلك الطرقات والدروب
آل مصير المدن والقرى العامرة الى خراب
وصار أبنائها يُقتلون بالهراوة
لم تعد تحرث الحقول ولا تبذر تربتها
ولم تعد تردد أغانيها في البراري
لم تعد حضائر سومر تنتج الجبن والسمن
لقد تشتت شمل قطعان الماشية في السهوب
وحل الفناء بكل ما هو حي
صار القصب يذبل ويتعفن في مياهه
يبست أشجار البساتين وماتت
في الأرض حلت مصيبة لم يألفها البشر
على البلاد المرعوبة حطت يد فتاكة
وصار الناس يتنفسون بمشقة
بعد أن ملئت عيونهم الدموع
وخنقت أنفاسهم الآهات
لقد مزقت العاصفة شملهم واحالت نهارهم ليلاً
كان يوماً غرقت فيه الأفواه والأيادي بالدم
يوم قُلبت فيه المدينة على رؤوس أهلها الآمنين
في ذلك اليوم تصدعت السماء وتمزقت الأرض
أعمت العاصفة البشر وجعلت السماء سوداء
حجبت ضوء الشمس وجعلت المدينة جزء من العالم الأسفل
من كان له بساتين وأراضي هجرها
وقال (آه على حقولي و بساتيني)
من كان لديه بيت حسن البناء هجره
وقال (آه على بيتي الجميل)
لقد دهم طوفان الجنود الأرض وأكتسح كل شيء
هدر كعاصفة هوجاء على الأرض فمن يستطيع الافلات منه
جاء ليدمر المدن كلها ويدمر المنازل كلها
عطلت قيم المجتمع في سومر
فأصبح الكاذب سيداً على الصادق
وأصبحت الكلمة لم يعد يعرف لها معنى
كلمة (أنليل)4 التي تتجه نحو اليمين
صارت تتجه نحو اليسار
في (أور) لم يتولى أحد احد أمر العناية بالطعام
ولم يتولى أحد امر العناية بالماء
من كان يتولى أمر العناية بالماء تنحى عنه
و من كان يتولى أمر العناية بالطعام تنحى عنه
أصبح العيلاميون أصحاب الأمر والنهي
تلطخت أديهم بالدماء
وتحكم جنود بنو الجبال بأرواح أهل سومر
(أور) غدت مثل ثور بري كان كبير الثقة بنفسه
يخر على ركبتيه راكعاً
(أور) لا حول لها، مثل قصبة وحيدة أحنت رأسها
أبناءها مثل سمكة أمسكت باليد ففقدت حياتها
امتلأت الأزقة بجثث الموتى
الفقراء والأغنياء ملقون في الطرقات
لا أحد منهم يقوى على النهوض
تعالى أنين الجرحى وصراخهم
ولا يوجد من يغيثهم ويسعفهم
مات الكثير من الناس في حرائق بيوتهم
وجرفت مياه النهر الأطفال والرّضع
لقد هلك الأقوياء والضعفاء جوعاً
في خزائن (أينانا)5 لم تبقى حبوب
التهمت النيران جميع مخازن الحبوب
لقد الغيت مراسيم تقديم القرابين والنذور للآلهة
لم يبقى في مخازن المعابد الكبيرة خمر وعسل
رصيف (أينانا) الواسع أنحسر عنه الماء
الزوارق والمراكب كفت عن التوجه الى المدينة
في النهر الذي كان يصلح للملاحة لم تعد ثمة مراكب
(أور) مدينة هشمتها فأس فأصبحت من عداد الخرائب
(أور) حتى كلابها لم تعد تجلس عند الجدران
عند اسوارها تتعالى المناحات
وفي شوارعها ينكمش الناس رعباً أمام السلاح
في (أور) تنشر الفؤوس الدمار والرعب بين الناس
والرماح تسدد الى صدور النساء والشيوخ
الهراوات والمقاليع تقتل الجميع في كل مكان
ورؤوس السهام تملئ أجسادهم كالمطر
قليلون هم من نجا من السلاح
أخذوا يتشاورون فيما بينهم ويلقون الخطب
ويل لنا، ماذا بوسعنا أن نقول، ماذا بوسعنا أن نفعل
حتى متى نظل نغني في فم الدمار
مدينتنا في داخلها موت وفي خارجها موت
في داخلها نموت من المجاعة
وفي خارجها نقتل بسلاح العيلاميين
لقد أكتسح العدو (أور) فلنصمد بوجه الموت
هكذا أصبحوا يرددون بلسان واحد
لنصمد بوجه الموت ... لنصمد بوجه الموت
الهوامش
1_ الإله (ننار) أو (نانا) ... إله القمر، وهو الإله الحامي لمدينة (أور).. يقابله الإله (سين) في الأكدية
2_ الإلهة (ننكًال) ... هي زوجة الإله (ننار)
3_ (أي كًشنو كًال) ... أسم المعبد المكرس لعبادة الإله (ننار)
4_ الإله (أنليل) ... أقوى آلهة السومريين، وهو إله الجو والهواء
5_ الإلهة (أينانا) ... إلهة الحب والحرب السومرية، تقابلها (عشتار) في الأكدية
790 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع