هيفاء زنكنة
بينما تنشغل أمريكا عبر مسؤوليها الذين يتوالى قدومهم إلى بغداد بإفهام الساسة العراقيين بالتركيز على الدرس الوحيد الذي يهمّها من كل ما يجري في المنطقة (أي مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية») ينغمس أولئك الساسة في محاولات تغيير الوضع القائم، إما لإعادته إلى ما كان قبل استلام رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي زمام الأمور، أو للسير به إلى منحنى جديد.
تمثّلت محاولات التغيير مؤخرا باعتصام النواب العراقيين داخل البرلمان، وبالاحتجاجات الشعبية في مدينة الصدر وبغداد. ويتألف أغلب النواب المعتصمين من تيارات سياسية ثلاثة، يمثّل التيّار الأول منها جماعة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي فيما يسمى «ائتلاف دولة القانون» (والذي هو أكثر الائتلافات مناقضة لاسمه)، فيما يمثل التيار الثاني جماعة الزعيم الديني الشيعيّ مقتدى الصدر، ويمثل الثالث نواب ائتلاف «الوطنية» الذي يرأسه اياد علاوي.
بعد احتجاجات شعبية، شاركت فيها جماهير الصدر، وضمن محاولاته الإصلاحية أصدر حيدر العبادي في 9 آب/أغطس من العام الماضي قرارا بإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية، مقيلا بذلك نوري المالكي وإياد علاوي وأسامة النجيفي، وهو ما يفسّر، جزئياً، تضامن جماعتي المالكي وعلاوي ضدّه في البرلمان.
شارك كل من المالكي وعلاوي، خلال عملهما رئيسين للوزراء في ضرب نفوذ «جيش المهدي» التابع للزعيم الصدر في مدينة النجف، وقد أدّت حملة الأول عام 2004 إلى تعرّضه لمحاولة اغتيال في النجف، وقام الثاني عام 2007 بمطاردة «جيش المهدي» أيضاً في البصرة والناصرية وبغداد، وبذلك كسب الزعيمان السياسيان عداوة الصدر وجماهيره.
وتلفت النظر محاولة زعيم «حزب الله» الشيعي اللبناني حسن نصر الله الأسبوع الماضي لمصالحة الصدر مع المالكي، والتي يمكن قراءتها في إطار محاولات إيران «ترتيب البيت الشيعيّ العراقي»، ويؤكد فشلها واندلاع حرب كلامية بين أنصار الزعيمين العراقيين أن الخرق الحاصل بينهما أكبر من قدرة نصر الله على الرتق.
يبدو غريباً، ضمن هذه الخلفيّة، أن تخرج جماهير الصدر إلى الشوارع وساحات الاعتصام وتحاصر الوزارات والمديريات في بغداد طلباً للتخلّص من الفساد وأربابه (وفي ذهن أصحابها نوري المالكي وأقرانه)، وأن يتوحّد نوابه مع نواب «أرباب الفساد» أولئك في البرلمان مطالبين بـ«الإصلاح»!، وفي الوقت الذي تطالب جماهير الصدر بحكومة «تكنوقراط» للخلاص من محاصصات الأحزاب، يحاول نوّاب الأحزاب تلك عرقلة تلك الحكومة وفرض شخصياتها.
وتناظرت الاحتجاجات المنددة برموز الفساد القديم مع اعتصامات النوّاب لنصل إلى تطوّر غرائبيّ لا يحدث، ربما، إلا في العراق، حيث قرّر اعتصام النوّاب المشكّلين من تلك الائتلافات المتنافرة جذريّاً، قبـل أيام، إقالة رئيس مجلس النواب سليم الجبوري والتهديد أيضاً بإطاحة رئيس الجمهورية فؤاد معصوم، ورئيس الوزراء حيـدر العبادي نفسه، ومطالبــة أمريكـا وإيــران بعــدم التدخـل فـي الشـؤون الداخلية للعــراق!
لا يمكن، بالتأكيد، عزو أفعال النوّاب المعتصمين جميعها إلى قرارات زعمائها، فحسن النيّة يفترض وجود رغبة حقيقية لدى النوّاب للخروج من المتاهة التي يعيش فيها العراق، وينطبق الافتراض على جماهير الزعيم الصدر التي ضاقت ذرعاً بالفقر والفساد والفوضى والعنف والانحطاط السياسيّ العامّ.
غير أن تدقيقاً بتواريخ الساسة جميعهم لا يساعد كثيراً في الاستنتاج الآنف، فإذا كانت وقفة الزعيم الصدر الشجاعة ضد الاحتلال الأمريكي تحسب له وقد كلّفته بطش وعداوة خصميه الآنفين بحيث وصف المالكي عام 2008 «جيش المهدي» بأنه «أسوأ من القاعدة»، فلا يمكن، من ناحية أخرى، تجاهل مشاركات القوّات التابعة له في عمليات إجرام طائفية كبيرة مؤرخة وموثقة في أماكن عديدة.
على ذلك، يمكن القول إن ما يجمع الساسة العراقيين محاولة استخدام نوّاب البرلمان وجماهير الشارع لانتزاع حصّة أكبر في الكعكة السياسية، والأمنية، والماليّة، فالصدر يملك طموحاً كغيره بقيادة العراق، وتيّاره السياسيّ لم يحصل حتى الآن على وزارات سياديّة بعد رغم وجود عدد كبير من نواب تيّاره في البرلمان.
رغم جرأته التي تتجاوز الحدود بعض الأحيان، وخصوماته مع كافة الأطراف، بما فيها إيران والمرجعيّة الشيعية، فإن تحرّكات الصدر السياسية تفتقر للثبات، كما أنه معروف بالتراجع عن قراراته، وهو ما يجعله غير قادر على تشكيل تيّار شعبيّ عامّ يخرج من إطار «الشيعيّة السياسية»، مما يضطرّه، كما نرى، للتناقض في تحالفاته ولبلبلة حلفائه المفترضين وإفراغ الطاقة السياسية الكبرى الممكن للشعب العراقيّ أن يجترحها من الوصول إلى تغيير حقيقيّ.
1104 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع