د. ضرغام الدباغ
عنوان كهذا هو في الواقع يصلح أن يكون شعاراً لندوة، تستغرق منكم ربما أكثر من حلقة واحدة. ولكن دعنا نبحر، بقدر ما تحتملنا سفينة قناتكم ...
سنلجأ إلى الطريقة التقليدية المادية العلمية في التحليل، ونقول أن الموقف الحالي في العراق على غرابته الشديدة، هو من فعل فاعل بالطبع، يضاف إليه نكهة التفاعلات الشرقية بمميزاتها المعروفة، ولكن هذه الميزات الشرقية تجاوزت كل حد معقول وغير معقول، فما نراه ونشهده هو شيئ يفوق الخيال في الإجرام والوحشية، وهذا ليس جلد للذات، بل ذبح للذات، وبتقديري عندما تشاهد إنساناً يعرض إنساناً آخر للشوي، المشكلة تصبح ليس الإنسان الذي تعرض للشوي وتوفي، بل المشكلة الآن هو القاتل، من مات راح وأستراح، لكن المشكلة هو من يسير بيننا وبحسب نفسه على البشر، يأكل ويشرب ويحب ويسمع أغاني ... وربما يكتب الشعر أيضاً ... ومجرد تخيل الأمر يثير الأشمئزاز إلى أقصى حد.
كيف نشأت ثقافة الوحشية والهمجية هذه، وهي مفردة أساسية من مفردات الفوضى الذين خططوا لها و شجعوها وحرضوا عليها. فما نشهده هو جريمة ثقافية / اجتماعية / سياسية منظمة مخططة متعددة الأطراف، وهنا لابد من الرجوع إلى أطراف المعادلة : هناك أسباباً داخلية ذاتية، وهناك أسباب خارجية موضوعية، المجرم لا يولد مجرماً، بل هناك من يخلق له بيئة الإجرام يدفعه إليها دفعاً.
كما أني أعتقد جازماً أن هذه الفوضى وما ينجم عنها، هي ليست من صنع محلي، نحن نعرف تاريخنا جيداً، فلا توجد سابقة كهذه هذه الجرائم التي تكشف عن حقيقة سوداء، هي أن هذه العصابات لا تمت بصلة لا للعراق ولا للعروبة وللإسلام بصلة لا من قريب ولا من بعيد، بل هي عصابة دربت ولقنت، وغسلت أدمغتها في معاهد متخصصة، وتحولوا بعدها إلى أدوات ليس إلا، ومنحت برنامجاً بهدف واحد هو التخريب للبلدان ولمكوناتها، ولتمنح الذرائع لدوائر الإجرام الدولية لتنفذ مجازرها الدموية ومآربها.
ليس هناك صعيد بمنجى عن التدمير، إذن المطلوب هو تدمير الملامح والهوية، هوية بلدان بأسرها، تدمير أسس هذه الحضارة التي تواصلت في العراق وفي المنطقة منذ ألاف السنين، الهدف هو إظهار عدم قدرتنا أن نتعايش، الهدف واحد هو إظهار همجية مبالغ بها لأقصى حد، ليأتي التدمير الوحشي بأقصى حد. والهدف هو القضاء على فكرة العيش المشترك، وبالتالي ليكن التقسيم كتحصيل حاصل وضرورة لابد منها.
لعشرات القرون كنا نحن ورموزنا مصانة، ومقدرة ومحترمة من الجميع دون تميز، كعراقيين وكعرب ومسلمين وغير مسلمين، موضع تقدير كل المواطنين بلا تميز، حافظوا عليها، ودافعوا عنها، إن المطلوب هو تدمير هذه الصورة الحضارية المتسامحة الرائعة، لقد دافع شبان عرب مسلمين حتى الموت دفاعاً عن كنيسة الناصرة بفلسطين، ودافع شبان مسيحيون عن القدس والأقصى بفلسطين حتى الاستشهاد، وهذه أوطان شيدناها معاً يداً بيد وفؤاداً على فؤاد، اليوم تتجه العاصفة السوداء التي يعرف الشعب العراقي من هم أطراف هذه العاصفة السوداء المجنونة المدمرة، التي تريد تدمير كل شيئ، ليعاد ترتيب كل شيئ وفق مصالحها، كان تدمير الجسم المنظم في المجتمعات هو الدولة (Regulator)، من أولى أهداف المحتلين وأعوانهم، والدولة هي وعاء منظم للحياة الإنسانية، أستهلوا عهدعم به، والآن بدؤا يستهدفون الإنسان فكراً وحقائق أساسية راسخة.
الخطورة الكامنة المخططة هي وراء تدمير تدريجي لهويتنا الثقافية كعرب ومسلمين على حد السواء، هويتنا الرائعة التي طبع عليها بصمات كل من شارك فيها، إلا تلك العصابات الذين جاؤا، من مطابخ المخابرات ومن مختبراتها ليعيثوا قتلاً وتدميراً.
ولكن شيئاً واحداً فاتهم، الحضارة ليست حجارة، فهذا نستطيع إعادة إعماره بدراهم، والحضارة والقناعة هي ما تشكلت عبر قرون، وترسخت بعدها بقرون، في العقول والقلوب. والوسائل الإجرامية الهمجية لا تقنع أحداً ولا تصلح لتحقيق غايات نبيلة.
هذا المخطط الإجرامي سيصطدم بقوة مادية ظاهرة وكامنة، سيصطدم بالتاريخ والمكونات الأساسية للشعب، والتي بتنازله عنها سيفقد وجوده وكيانه وهويته وبالتالي شخصيته المميزة، دون أن يجني مقابلها شيئاً ... المستهدف هو الوطن والشعب والتاريخ والمستقبل.
سيرحل هذا الجمع الشرير يوماً، وتبقى هذه دروس يضيفها الشعب العراقي لتاريخه، ولوحدته الوطنية الخالدة.
ــــــــــــــــــــــ
المقال جزء من مقابلة تلفازية بتاريخ 27 / نيسان / 2016
4045 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع