د. عمر الكبيسي
هناك هالة اعلامية كبيره اثيرت حول فوز السيد صادق خان لمنصب عمدة لندن سواء في الشارع الانكليزي او في المجتمع العربي والاسلامي المتلقي للحدث باهتمام واسع ايضا ، وبلا شك ان لكل طرف مبرر لهذه الضجة .
الشارع الانكليزي الذي يتعايش مع الجاليه الباكستانيه والهنديه والعربيه منذ عقود كثيرة من الزمن واندمج معها بلا حدود ، يبدو انه يتقبل تواجد زميله البريطاني المسلم او العربي الملون بوظائف عاديه يقبل به كطبيب ومحام ومهندس واستاذ جامعي وسائق باص وصاحب مطعم ويقبل حتى بوجوده كغني ويمنحه لقب لورد وسير وكاستحقاق لمكون بثقله كعضو برلمان يمثل ناخبيه ، لكنه حين تسنح له الفرصه بان يكون وزيرا او عمدة او ربما غدا كرئيس وزراء ، ينطلق البريطاني من مفهوم آخر لأن عمدة لندن التي يسكنها ما يقارب عشرة ملايين نسمه من البريطانيين وربما خمسة عشر مليون اذا شملت الضواحي ينبغي ان يكون بريطانيا مؤصلا ، وإلا فان ذلك يعني غياب من يصلح لهذا المنصب من بين البريطانيين المؤصلين .
اما الشارع العربي والمسلم فانه ايضا ينطلق من مفهوم ان المسلم والعربي المهجر عندما تتاح له فرص التحصيل والدراسه والوظيفه فهو قادر ان يتسنم مناصب عاليه بالرغم من معوقات التمييز والتطرف التي تتوافق مع احداث سياسية كبيرة تتصل بالعرق والدين ! و وصول صادق خان لتسنم منصب عمدة لندن يحسب كدليل على تألق وذكاء في إطار منافسه شديده له تتمثل بشخصية المليونير راك كولد سمث وهو من حزب المحافظين الحاكم .
وحقيقة الامر لا تتعدى عن كون كلا الطرفين يتكلمون بروح العواطف والتميز، والا لماذا يثأثر الانكليزي المتأصل من فوز انتخابي لإنكليزي مهاجر وملون ، ويحسب مثل هذا الحدث امراً مثيراً ، ولماذا تتدنى ثقة المسلم والعربي بنفسه ويحسب أن نيل العمدة الجديد لمنصبه فيه نوع من البرهان بان العرب والمسلمين اين ما كانوا هم مواطنون من الدرجة الثانيه عادة ّ! وأن فوز صادق خان حدث يكاد يكون استثنائي وكأن التجنس حالة فرضها الواقع والحاجة وليس حالة مواطنة حقه يترتب عليها حقوق و واجبات .
يفترض ان يكون فوز صادق خان وهو الشاب الذي وصل انكلترا رضيعا موضع فخر واعتزاز للإنكليزي الأصيل لان الحدث يشكل دليل ثابت على ان الشعب البريطاني شعب ناجح ومؤثر وحر يتجاوز التمييز العنصري الذي تقف خلفه قوى تتنادى به . واقع الحل يفترض ان الفرصة متاحة بشكل متوازن لكل بريطاني ان يقدم خدماته لشعبه و وطنه الذي احتواه ورباه وعلمه واعطاه الفرصة المفتوحة ليخدم من الموقع الذي يتأهل للعمل فيه . فيما يكون الفخر والفرح يشكل ردة فعل العرب او المسلمين بان جالياتهم قادرون على اثبات وجودهم وكسب ثقة الآخرين والإندماج بهم اسوة بنخب الشعوب الاخرى والدول المتقدمة .
كنت قبل ايام منشغلا بصدد توثيق دور العرب والمسلمين في نشر المعرفة والعلوم والطب في اوربا بالذات وبالأخص في مجال الطب ،وقد توقفت كثيرا وانا أقرأ مقال عنوانه (انتقال العلوم الطبيه عند المسلمين إلى أوربا وأثر ذلك في تطور علم الطب عند الأوربيين) للدكتور إبراهيم بن محمد الحمد المزيني والذي ورد فيه هذا النص :
" أن طور التأثير الحضاري للأندلس في أوربا قد بدأ تقريبا من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. ففي هذا القرن، وهو عصر الخلافة الأموية في الأندلس، ارتقت الأندلس في مدارج المعرفة درجة عالية فاجتذبت إليها الأنظار وشدت إليها القلوب من أقطار أوربا كإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا لدراسة علوم العرب ومعارفهم المختلفة، واقتباس ألوان الحضارة والتمدن. وكان بعض هؤلاء الطلبة الأوربيين من أبناء الأمراء والنبلاء، وكانوا يقصدون بلاطات خلفاء وأمراء المسلمين ليتلقوا ألوان الأدب والفروسية . وفي الوقت نفسه استقدمت إنجلترا عددا من العلماء والمهندسين العرب الذين شيدوا أكبر جسر على نهر التايمز في بريطانيا. وقد عرف باسم جسر هليشم (Helichem)، وهو تحريف لكلمة هشام خليفة الأندلس عرفانا بفضله عليهم ومساعدته لهم. وكذلك كان للمهندسين العرب فضل في إنشاء قباب الكنائس في بافاريا، ولا تزال توجد بمدينة شتوتغارت الألمانية حتى اليوم سقاية ماء تدعى أميديو (Amedeo)، وهو تحريف لاسم أحمد. ويبدو أنه اسم المهندس العربي الذي بناها ."
وذكرني المقال بحقيقة كيف ان اعدادا كبيره من مرضى اوربا كانوا يتوجهون الى الاندلس وبالذات طليطله وقرطبه لغرض العلاج وكيف ان قرطبه وحدها كان فيها اكثر من خمسين مستشفى ولم يكن في لندن حينها سوى مشفى واحد بائس وهو (سانتبارلثميو) ومن ضمنهم أمراء وملوك . وكيف كان المريض يعامل في الاندلس في حين كانت اوربا تقتل مرضاها باوامر الكنيسة التي تعتبر المرض قدر الالهة وان الطب نمط من الشعوذة والاحتيال وتقوم بقتل وحرق من يزاول صنعة الطب ومهنته وتحسبه من شأن الكنيسة والكهنة !.
في الزمن الذي توجه فيه هولاء المهندسين العرب من الاندلس لبناء جسر لندن الوحيد فيها والذي انهار بسبب كونه جسرا خشبيا بنوه الرومان في فترة احتلالهم ، هولاء المهندسون العرب صمموا جسر لندن وبنوه بالحجر وسمي بالجسر الحجري في زمن كان فيه ليل قرطبة مضاء كأنه صباح في حين كانت فيه شوارع انكلترا مظلمة مقفرة والصور المرفقه تظهر جسر لندن الوحيد على التايمز الذي شيّد في الفتره من 1176م لغاية اكماله في 1209.م واستمر حتى عام 1750م ويتكون من تسعة عشر قوساً كما تبين الصوره المدخل الحجري الذي نفذ فيه حكم الاعدام وزير الملك هنري الثامن وهو القائد توماس كرومويل عام 1540 م .
إن الدرس المستنبط من الربط بين حدث انتخاب صادق خام والحدث التريخي لبناء جسر لندن ، هو حقيقة ان العلم والطب والهندسه والكفاءه لا ربط لها بالجغرافيه او العرق او الدين ، وان الحضارات تصنعها الامم وهي ليست امم منتخبة بسبب لون اوعرق انما امم مؤهلة في زمن معين لان تحمل مهمة المعرفه والتنوير والتحضر وان هذه المهمة ليست منحة دائمة فقد عرف عن الحضارات انها تموت بل تنتحر من داخلها ولا تقتل من خارجها وما حدث في الاندلس اثبات لذلك ، لياتي من بعدها من هو مؤهل لحملها ، وهكذا هي الامم والحضارات كما يقول الشاعر :
وانما الامم الاخلاق ما بقيت فان هموا ذهبت اخلاقهم ذهبوا
وكما انشدت والدة آخر امراء غرناطه تخاطبه عند انهزامه وأسره :
إبكي مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال
لم تشهد عاصمة كبغداد منذ تاسيسها عام 143 هجري انفتاحا لكل شعوب الكون النازحين والزائرين والمقيمين فيها حتى اليوم من كل الاعراق والانسال كما انفتحت بغداد ، ولم تفتح ابواب الخلفاء والسلاطين وبلاطاتهم للاطباء والعلماء على اختلاف اديانهم في أي دولة في حينها مثل ما فتحت قصور بغداد ودوائر دولتها في عصرها الزاهر ، فلماذا يستكثر على متجنس بريطاني من اصول باكستانية مسلمة ان يكون عمدة للندن ، ألم يكن ابن ميمون عمدة لصلاح الدين الايوبي في القاهرة وابن بكس عمدة للخليفة الفاطمي معز الدين وهمأ اطباء يهود ! وكذا الحال مع الاطباء النصارى والصابئة في كل فصول وتفاصيل عهد النهضة الطبيه عند العباسيين مثل ابن قره وعائلة بختشوع وحنين وماسويه هذا هو نهج الحضارة المنفتحة بروح التسامح والعدل بعيدا عن التمييز العنصري والعراقي الذي تتصاعد موجة خطابه في عقر الحضارة الاوربيه السائدة اليوم ومشكلة اللاجئين وتعقيداتها خير دليل .
عمان 8مايس 2016.
1025 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع