مازن لطيف
في البداية ينبغي أن أضع امامكم التصور التاريخي لبلاد الرافدين في بدئها، فهي بسبب الظروف التاريخية والجغرافية اصبحت نقطة استقطاب كوني منذ الاغريق وانتهاء بتطورات ما يحدث عليها الآن ..وعبر هذه المسيرة الزمنية الشاسعة تكونت ذاكرة المكان وموجوداته السكانية والحضارية والاجتماعية والدينية والثقافية وصارت اراضيه صوامع لشتى الديانات والمعتقدات والاقليات ومنها الديانة اليهودية التي علينا ان نعترف بوجودها الغارق القدم منذ رؤيا الانبياء الاولى والسبي البابلي وحتى اليوم وان ظلت شواهدها نادرة ومتمثلة في الاثر العمراني وبعض المراقد الدينية المقدسة .
هناك الكثير من القراء والمثفقين ممن يطرح سؤالاً واحداً لا غير ألا وهو: لماذا الكتابة والاهتمام بيهود العراق (في مجال الكتابة فقط) بعد سقوط النظام عام 2003؟ الجواب هو ان الشعب العراقي تخلص من أعتى سلطة دكتاتورية كان تحرم وتمنع اية محاولة لتناول يهود العراق أو الانفتاح على الغير، وبعد تحرير العراق من القمع السياسي والفكري، شرع الكثير من الباحثين في تدبيج المقالات والدراسات والرسائل الجامعية عن يهود العراق، نذكر منها على سبيل المثال: "الاقلية اليهودية في لواء الحلة"، وكتاب "مير بصري، سيرة وتراث، وكتاب "ساسون حسقيل" و"النخبة اليهودية والموقف من الهوية العراقية" و "البيئة البغدادية في رواية سامي ميخائيل" وغيرها من الابحاث الموضوعية القيمة التي كنا ننتظرها. وكذلك صدرت روايات لكتاب عراقيين تتناول موضوع يهود العراق منها "حارس التبغ" لعلي بدر، "ملائكة الجنوب" لنجم والي، و"على ضفاف بابل"، للصحفي الكبير الذي يمثل ذاكرة العراق الحية، خالد القشطيني، و"الزمرد والذباب"، لعبد الكريم العبيدي. إن هذه الروايات، تعرفنا على جانب من تاريخ شعبنا ومكوناته و السبب وراء تناول موضوع يهود العراق هو ربما لأن الاديب العراقي تحرر من سياسة القطيع واخذ يغرد مرتاحاً خارج السرب، غير ان الثابت ان ضوءاً جديداً في الثقافة العراقية بدأ يفتح كوة في جدار المحرمات الصلب، الذي فرضه علينا الطغاة الظالمون.
بعد تحرر العراق من الدكتاتورية الغاشمة أصبح تناول موضوع يهود العراق متاحا للباحثين ولم يعد موضوعا محظورا،ً ولا تلصق تهمة الجاسوسية بمن يتناوله او يكتب عنه، فطلاب الجامعات ليسوا عملاء، والاكاديميون ليسوا عملاء، والصحفيون ليسوا عملاء، بل باحثين عن الحقيقة التي تقول ان يهود العراق جزء من تراث وماضي العراق، ولا يمكن تهميشهم والتقليل من دورهم في ما قدموه للعراق منذ تأسيس الدولة العراقة حتى تهجيرهم القسري، بل حتى منتصف السبيعنيات لأن عددا من كبار الادباء والصحفيين لم يغادر العراق الذي أحبوه وأخلصوا له، نذكر منهم مير بصري وأنور شاؤل ونعيم طويق وسليم البصون ومراد العماري. ولا يمكن نسيان او تجاهل مزارات ومراقد واسواق ومحلات تحمل اسماء يهود العراق، كما لا يمكن تجاهل شخصياتهم الثقافية والعلمية والادبية والاقتصادية، ولا يمكن نسيان حكاياتهم وما نقل عنهم شفاهيا من قبل الآباء والأجداد، فهم جزء من تراث العراق. لكن المفارقة في عراقنا الجديد ان هناك من يتهم من يتناول موضوع يهود العراق بالعمالة لاسرائيل او الصهيونية، وكأننا نتناول موضوعا ليس من صلب الكيان العراقي، ولان ترسبات التربية البعثية القومية العربية المتطرفة ما تزال تجري في دماء الذين يطلقون هذه الاتهامات جزافا.
أتمنى لهؤلاء المتهجمين ان يعرفوا ان كل يهود العراق الذين هجرناهم بعيدين عن الصهيونية، وانهم عراقيون أصلاء اكتوت قلوبهم بفراق العراق، معظمهم يحبون العراق والعراقيين إلى درجة الهوس، لقد أصبح العراق بالنسبة ليهوده حلماً بعيد المنال، يعيشون على ذكرياتهم فقط ويتابعون اخباره ويتمنون استقراره وأن يحمي الله هذه الأرض المباركة، أرض الحضارات والانبياء.
لم يكتب عن تاريخ يهود العراق ودورهم وإنجازاتهم في تاريخ العراق الحديث ومساهمتهم الفعالة في بناء الدولة العراقية. والجميع يعرف دورهم الاقتصادي الكبير ومساهمتهم في ترسيخ اقتصاد العراق، حيث أسسوا المصارف والصيرفة والاستيراد والتصدير وبناء المعامل وغيرها. وفي مجال الثقافة برزت أسماء لامعة من أدباء وكتاب. وكذلك في مجال التعليم والموسيقى والغناء والطباعة والصحافة. ومنذ صدور القانون رقم (ا) لسنة 1950 وإسقاط الجنسية العراقية عن يهود العراق حتى سقوط النظام البعثي في نيسان 2003، لم تـنصف هذه الطائفة العريقة في مجال الكتابة في الصحف او المجلات او الابحاث العلمية والتاريخية في الجامعات العراقية لاسباب عديدة، منها اتهامهم (أي يهود العراق) بأنه كانت تشم منهم رائيحة الصهيونية وأن ولاءهم لإسرائيل، ومن يكتب عنهم كان يكتب بحذر شديد خوفا من السلطات او الحكومات المتعاقبة في تاريخ العراق ( والقليل من تجرأ بالتلميح إلى ان يهود العراق غبنوا وأن دولة إسرائيل قامت على أكتافهم. وإنهم كانوا ضحية اليهود الغربيون). ومن كتب عنهم فقد حاول تشويه صورتهم والتقليل من دورهم في بناء العراق الحديث. ومن كان يكتب عنهم كانت له مواقف وآراء مسبقة عن يهود العراق، بل ان كل من كان يتناول موضوع يهود العراق يعتبر جاسوسا وعميلا للصهاينة او اسرائيل، حتى الطلاب الذي كانوا يدرسون اللغة العبرية في جامعة بغداد، كلية اللغات، كان اغلبهم يعين في المخابرات والدوائر الأمنية، وكانوا يخضعون لرقابة صارمة جدا، وبهذا كان قسم اللغة العبرية عبارة عن مدرسة "اعرف عدوك!"، وخلاصة الامر هو ان كل الكتب التي كتبت منذ تهجيرهم إلى سقوط النظام لم تكن موضوعية ومنصفة.
لذلك اصدرت انا كتاب (يهود العراق- موسوعة شاملة) بثلاث طبعات، ليقوم بخطوة جريئة نحو انصافهم وكشف حقيقة هذه الطائفة التي اتصفت بالاجتهاد والمثابرة والاخلاص في العمل والتفاني في جعل العراق دولة حديثة متطورة منفتحة على الغرب وعلومه الحديثة لصالح المجتمع والدولة العراقية التي احبوها وما زالوا متعلقين بها بحبل السرة من حب وحنين ومحافظة على العادات والتقاليد والفنون العراقية في جميع مهاجرهم ، فهم جزء من الوطن الذي بامكانه رفدنا بابداعهم الكبير في الادب والفن والعلوم .
نشرت ما كتبته من مقالات في الصحف العراقية المطبوعة واضفت عليها مجموعة من المقالات المهمة لبصيح الكتاب وثيقة هامة وشاملة ليهود العراق معززا بالصور، ارخت فيه الوجود اليهودي ، المادي والمعنوي في تأريخ العراق الحديث ،في محاولة لجدولة حدث انزوى وراء اخبار تفرقت بين الصحف والاشخاص عاشوا وعاصروا الحقبة الزمنية المنصرمة أو سمعوا عنها من أسلافهم .
أن من الاهمية بمكان ايضا ، ان نبادر الى القيام بمشاريع مستقبلية للخوض في تدوين مواقف تأريخية ، واحياء سير وحوادث سوف يكون بالاعتماد على لملمة شتات الكلمات في الصحف والمجلات فحسب، بل وعلى التركيز ايضا على تدوين الرواية الشفوية التي تؤرخ للاحداث كشاهد عيان على حقبة منصرمة .
وما زال لديّ الكثير من المشاريع الكتابية عن يهود العراق الذين انحسر وجودهم ودُرِست الكثير من معالمهم المادية ، مما يضع امامنا مسؤولية تاريخية حول ضرورة تدوين التراث الشفاهي. واذا كان التاريخ الشفاهي في تعريفات المؤرخين يشمل مجموعة التقاليد من أساطير ووقائع ومعارف ومذاهب وآراء وعادات وممارسات ، فاننا حين ندون تاريخ مجموعة اثنية او دينية ، يعني اننا ندون تاريخ العراق كله نظرا لان طوائف العراق واقوامه يرتبطون بوشائج متينة من التاريخ والجغرافيا والحياة المشتركة .
لقد اقتصر اهتمامي على الرؤيا التي احاول ان اجعلها جزءا من رسالتي التاريخية والوطنية من اجل بلادي وبكل مكوناتها وصناع تاريخها .. واتمنى ان اوفق في مشروعي مع المحبة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
996 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع