حامد خيري الحيدر
أن التعريف الذي يتفق عليه أغلب الباحثين لمفهوم الأسرة.. هو مؤسسة اجتماعية يوجدها على الأقل شخصان من الجنسين يتعاونان ويقيمان علاقات جنسية تثمر على عدد من الأبناء، وتتصف بمسكن مشترك واقتصاد وتعاون وانتاج مشترك..
وينطبق هذا القول بشكل كبير على تصور المجتمع العراقي الكبير لهذا الكيان الصغير.. وفق ذلك فقد كانت الأسرة تمثل الوحدة الأساسية في بنية المجتمع العراقي القديم، ومن مجموعها يتكون ويأخذ صفته وطابعه العام... وتتكون أسناداً الى ما ورد في التعريف، من الزوج (الاب) والزوجة (الام)... (وأحياناً أكثر من زوجة)، وذريتهم الحقيقين (من صُلبهم) أو ذريتهم عن طريق التبني، وقد تضم كذلك أخوة وأخوات الزوج أو والديه.. وأحياناً تضم الاسرة بعض العبيد والاماء الذين يعيشون الدار نفسها، لكن لا يمكن اعتبارهم من أفرادها أنما كجزء من ممتلكاتها.
كانت الأسرة العراقية القديمة أبوية بامتياز، يقف على رأسها الاب الذي تكون بيده جميع السلطات والصلاحيات بصفته المسؤول عن أعالتها وتوفير ما تحتاجه من مستلزمات حياتية. ويمكن تبرير هذه الحالة كون المجمع العراقي القديم منحدر بالأساس من خلفية زراعية قبلية، اتاحت له السيطرة على وسائل الانتاج.. يساعد الأب في سلطته الأولاد الذكور القادرين على العمل والذين يمتهنون نفسة مهنة أبيهم ويرثوها عنه، لذلك كانت رغبة الأسر العراقية آنذاك الاكثار من أنجاب الذكور... وكان احترام الاب وطاعته فرضٌ مقدس على جميع أفراد الأسرة، فكانت تصل عقوبة الابن العاق والمتمرد على سلطة أبيه حد العبودية كما وردت في بعض نصوص قانون حمورابي... تأتي الام في المرتبة الثانية وكانت مسؤوليتها مقتصرة على أدارة شؤون البيت وتربية الاطفال وكانت سلطتها على أولادها كبيرة خاصة الاناث، ويتوضح ذلك من المثل السومري (أطع كلام أمك كأنه أمر إلاهي). وقد جاءت بعض النصوص القانونية لتحدد واجبات الزوجة أتجاه زوجها وأيضاً لتحد من سلطته وتعسفه عليها الى درجة أعطت الحق للزوجة بطلب الطلاق في حالات معينة، مثل ارتكابه الخيانة الزوجية أو غياباته المتكررة عن البيت لفترات طويلة والتقصير في أعالة عائلته أو تقليله من أهميتها وعدم التزامه بواجباته الزوجية اتجاهها... ويأتي مرتبة بعد الأبوين في التدرج الأسري الأبن الأكبر باعتباره يد الأب اليمنى ومن يعينه في عمله، والمسؤول عن العائلة وادارة مصالحها في حال غياب الأب أو وفاته.
لقد كان المجتمع العراقي القديم طبقياً متبايناً في تنوعه وسلوكياته، عليه كان لابد أن يتأثر الأبناء بذلك وتصطبغون بالعائدية الاجتماعية التي ينتمون اليها من حيث المستوى الثقافي والاقتصادي الذي تنتمي اليه أسرهم. فكان الابناء يتبعون عوائلهم من حيث التعلم والانضباط الحياتي والسلوك الاجتماعي... وكان العرف المتبع أن يبقى الشاب تحت وصاية أبيه وسلطته طالما يعيش في بيته حتى في حال زواجه.. لكنه يتحرر من بعض هذه القيود أذا انتقل للعيش في بيت مستقل... ففي حياته العامة كان الابن يمتهن مهنة أبيه لتكون متوارثة داخل العائلة. وتذكر بعض النصوص من الالف الثاني ق.م كيف أن بعض الشباب كانوا يتفاخرون بإتقانهم لمهنة أبيهم في وقت قصير، أو كيف أنهم أصبحوا يكتبون أفضل من آبائهم. بالمقابل كان هناك أيضاً الجانب السلبي من هؤلاء الأبناء، التي جعلت منهم سوء تربيتهم الأسرية فئة من المتسكعين والعاطلين عن العمل وممتهني اللصوصية، ولم يكن لديهم عمل يؤدوه سوى الوقوف عند قارعات الطرق، أو الجلوس في الحانات وعند أبواب المعابد للتحرش بعاملاتها وكاهناتها، كما أوردت ذلك بعض النصوص المسمارية المتأتية من مدينة (لكًش) السومرية في أواسط الالف الثالث ق.م.
الزواج ومراسيمه
كان الزواج في المجتمع العراقي القديم يمثل اتحاد قانوني واجتماعي بين الزوجين، ينظم وفق القوانين والنظم والعادات أو المعتقدات السائدة، ويكون حق مشروع لكل أنسان كامل الاهلية ووصل مرحلة البلوغ بما فيهم العبيد (بعد موافقة سيدهم)، علماً أنه لم يُحدد بشكل دقيق كم هو سن البلوغ المقصود للرجل والمرأة، أي السن الذي يسمح لهما بالزواج وتحمل مسؤولية الأسرة، ويعتقد بعض الباحثين أنه سن السادسة عشرة... وقد حُرم الزواج على أصناف معينة من كاهنات المعابد اللواتي يكرسن حياتهن لخدمة الآلهة ويمنعن من الاختلاط والاحتكاك مع عامة الناس مثل الكاهنة الكبرى التي تسمى (أينتوم)، كما سمح لأصناف أخر من الكاهنات من الزواج شريطة عدم أنجاب الأطفال، أو أشترط أن يتزوجن فقط عند بلوغهن سن اليأس مثل الكاهنة المسماة (ناديتوم) التي تقضي معظم حياتها داخل صومعة المعبد، وبنفس الوقت فقد سمح لزواج للكاهنات الصغيرات المنزلة التي تسمى الواحدة منهن (شوكًيم) من الزواج بشكل طبيعي والأنجاب كأي امرأة اعتيادية أخرى.
لقد نصت القوانين العراقية على أحادية الزواج بالنسبة للرجل أي ليس من حق الزوج أن يتزوج بامرأة ثانية إلا في حالات خاصة نصت عليها القوانين العراقية القديمة، أهمها عدم قدرة الزوجة على الانجاب أو لأصابتها بمرض لا يرجى شفائه أو أنكارها لزوجها والخروج عن طاعته، وعدم تلبيتها الواجبات الزوجية.. وفي كل هذه الأحوال تكون الزوجة الأولى هي المتنفذة وصاحبة الكلمة العليا في البيت وكذلك على الزوجة الثانية وذريتها.. وفي حال وفاة الزوجة كان له أن يتزوج بامرأة ثانية... أما في حالة وفاة الزوج كان يحق للزوجة أيضاً أن تتزوج من بعده لكن بشروط، فاذا كان لها أولاد من الزوج الاول كان يجب أخذ موافقة خاصة من قضاة المحاكم بخصوص ذلك، حيث كانوا يأخذون تعهداً مكتوباً من الأم وزوجها الجديد يلزمهم برعاية الاولاد بصورة حسنة، والمحافظة على أموالهم الموروثة من أبيهم المتوفي حتى كبرهم، أما أذا كانت بلا أولاد فكان لها الحق بأن تتزوج من دون أخذ تلك الموافقة... وكان للزواج قدسية خاصة من قبل المجتمع لذلك كانت تعتبر الخيانة الزوجية من الجرائم الكبرى، لذا فقد عاقبت القوانين مرتكبيها من الزوجين الى عقوبات صارمة تصل أحيانا الى حد الموت (حرقاً أو ألقاءً في النهر).
ولكي يُعترف بقانونية الزواج و شرعيته يجب أن يكون محرراً بعقد مكتوب ومشهوداً عليه من قبل شخصين على الأقل، عنوانه (أجراء زواج)، ينص بشكل واضح على (تحويل كل من الرجل والمرأة الى زوج زوجة)، تثّبت فيه موافقة والدي العروسين التي هي شرط أساسي لإتمام الزواج (على اعتبار أن الشخص يبقى ناقص الأهلية حتى زواجه)، لذلك فأن عقد الزواج يعتبر وثيقة رسمية ملزمة للطرفين (الزوجين)، تتضمن حقوق وواجبات كليهما، وكذلك جميع الشروط التي يتم الاتفاق عليها بين أسرتي الزوجين، مثل شروط فسخ العقد أو الأخلال ببنوده، وأيضاً كل تفاصيل متعلقات الزواج، مثل مقدار المهر الذي يتم دفعه لأهل الفتاة والهدايا التي تقدم للفتاة يومي الخطبة والزواج، وكذلك الهدايا التي يقدمها والد الفتاة لأبنته في يوم زواجها.
وكان هناك ثلاث انواع من الزواج... أولها (الزواج الكامل أو التام) وهو النوع الشائع والمألوف من حالات الزواج الذي يبداً بين الاتفاق بين أسرتي الفتى والفتاة، ثم اجراء مراسيم الخطبة بعدها الزواج وانتقال الفتاة للعيش في بيت عريسها... أما النوع الثاني فيسمى (الزواج الناقص أو المؤجل) في هذا النوع من الزواج يتم الاتفاق الكامل بين أسرتي الفتى والفتاة، وأيضاً يتم فعلياً تحرير عقد الزواج بينهما وأحياناً يحيون احتفالية الخطبة، لكن يأخذون بالتريث والتأجيل مدة معينة من الزمن في اتمام التنفيذ الفعلي للزواج المتمثل بدخول الفتى بالفتاة.. ويكون ذلك لأسباب محددة تذكر في عقد الزواج مثل صغر سن الفتى والفتاة المقبلين على الزواج أو صغر سن الفتاة بشكل خاص وعدم بلوغها جنسياً... ويسمى النوع الثالث (الزواج الخالي من العقد) وهذا الشكل من الزواج يتم باتفاق خاص بين الطرفين (الرجل والمرأة)، تذهب المرأة بموجبه للعيش في بيت الرجل دون تسجيل ذلك في عقد رسمي قانوني كما في النوعين السابقتين، ويجرى عادة بين الطبقات الفقيرة وذوي الدخل المنخفض من غير القادرين على تحمل نفقات الزواج الباهظة من مهور وهدايا ونفقات حفلات الخطبة والزواج.. وفي زواج كهذا فأن المرأة لم تكن تتمتع بذات المركز الاجتماعي الذي تتمتع به المرأة العادية التي تكنى (زوجة رجل)، كما أنها لن تحصل على أية حقوق مالية في حال فسخ هذه العلاقة.
أما مراسيم الخطبة والزواج فتتم بعد اختيار الفتاة المناسبة من قبل والدة الفتى، بعدها كان على الوالد أن يقدم المهر اللازم لتزويج أبنه، أما والد الفتاة فكان عليه أن يقدم الهدايا والتجهيزات الخاصة لزواج أبنته، علماً أن المهر وهدايا الزواج من الطرفين كانت تثبت في عقد الزواج المبرم كما أسلف... وكان الاحتفال بالخطبة يتم في بيت الفتاة، وعلى الخطيب أن يجهز خطيبته بالملابس والحلي الثمينة ويتحمل نفقات الحفل من مأكولات ومشروبات وبقية اللوازم الاخرى كالعطور والبخور... وتتم مراسيم الخطبة بصب الخطيب الزيت والعطر المقدس الذي يجلب من المعبد على رأس خطيبته ويسكب بعضاً من النبيذ الأحمر على قدميها، يتم خلالها عزف الموسيقى وتردد أغاني الأفراح التي تنتهي أواخرها عادة بأسماء الفواكه أو الورود أو الخمور، لتعلن بعدها الخطبة بشكل رسمي من قبل أحد الكهنة الذي يحظر المناسبة كشاهد عليها ممثلاً عن المعبد.
ومن المهم ذكره أن الزواج كان ينظر ليه على أنه ارتباط بين عائلتين، لذلك كان في حالة وفاة أحد الخطيبين كان يحق لإخوانهم أو أخواتهم الارتباط بهم بعد موافقة الطرفين وبنفس المهر والهدايا السابقة والحفل الاول... وفي يوم الزواج تتم مراسيم أخرى داخل المعبد يقوم بها كاهن من درجة عليا، يؤدي فيها كلاً من العروسين القسم باسم الإله على الوفاء والمحبة فيما بينهم، بعد أن يقدما الأضاحي وبعض القرابين ليحصلا على موافقة الإله ومباركته لحياة الأسرة الناشئة الجديدة، يصاحب ذلك ترديد انواع من التراتيل الدينية الخاصة بمناسبات الزواج يصاحبها عزف مقطوعات موسيقية معينة تؤدى على القيثارات من قبل بعض الكاهنات... بعدها تنتقل العروس الى بيت زوجها، عندها يقدم لها المهر الذي يضم أموالاً نقدية وعينية وكذلك بقية الهدايا المتفق عليه والمثبتة في عقد الزواج... ويعتبر المهر ومواده من حق الزوجة بعد زواجها فاذا ما توفيت الزوجة تؤول هذه الاموال الى أبنائها واذا لم يكن لها أبناء تؤول الى الزوج. أما هدايا والد العروس لأبنته فهي أيضاً تعتبر ملك وحق للفتاة وتمثل حصة الفتاة من تركة أبيها، ولها أن تحتفظ بها في كل الظروف فاذا ما توفيت تؤول الى أبنائها واذا لم يكن لها أبناء تعاد الى والديها.
الطلاق والتبني والارث
لقد جابهت الأسرة العراقية القديمة بعض الاشكاليات، كانت نتيجة للتطور الاجتماعي والتناقضات التي افرزها ذلك التطور.. مما أقتضى من القائمين على المجتمع وضع حلول لها وايجاد أفكاراً مناسبة لعلاجها، تم تنظيمها بشكل تشريعات قانونية استندت بالأساس الى الأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة آنذاك، اهمها.. الطلاق والارث والتبني.
كان الطلاق معروفاً في المجتمع العراقي القديم لكنه محدد في حالات معينة ذكرت معظمها في القوانين العراقية القديمة وعلى رأسها قانون حمورابي.. ويشترط في مشروعية الطلاق ونفاذه أن يكون كحال الزواج مدون بعقد مكتوب مثبت من قبل قضاة مشهوداً عليه من قبل عدة أشخاص.. وكان يحق للرجل تطليق زوجته في ثلاث حالات.. مرضها بداء لا يرجى شفائه.. عدم قدرتها على الانجاب.. عدم التزامها بواجباتها الزوجية.. وفي هذه الحالات يشترط على الزوج أن يدفع لها مقداراً من المال يكفي لمعيشتها بكرامة، أو التكفل بإعالتها ما تبقى من حياتها.. كما اعطي الزوج الحق بطلاق زوجته اذا ثبت عليها الخيانة الزوجية، وفي هذه الحالة لا يدفع لها شيء من مخصصات الاعالة... من جانب آخر كان يحق للزوجة في حالات محددة أيضاً أن تقيم دعوى ضد الزوج تطلب تطليقها منه، من هذه الحالات.. ارتكابه الخيانة الزوجية.. غيبة الزوج المتكررة عن البيت لفترات طويلة.. التقصير في أعالة عائلته.. تقليله من أهميتها وعدم التزامه بواجباته الزوجية اتجاهها.
كما كان التبني من الأمور الشائعة والقانونية أيضاً، ويعتبر احد الحلول الناجعة للمحافظة على العوائل الغير قادرة على الانجاب.. فكان للفرد أن يتبنى عدد غير محدود من البناء الذكور والاناث، شريطة أن يقوم بواجباته والتزاماته اتجاههم والتكفل بإعالتهم، ويجب أن يكون ذلك وفق عقد مكتوب ومشهود عليه تثبت فيه شروط ذلك التبني... حيث يتعهد المتبني أن يعامل المُتبنى (ولد أم بنت) كأبنائه الطبيعيين ويورثه من بعده ويعّلمه الحرفة التي يمتهنها.. ومن الجدير ذكره أنه لم يكن يشترط بالشخص المتبني رجلاً كان أم امرأة أن يكون له عائلة أو متزوجاً لأبرام عقد التبني.. بالمقابل كان على الأبن المتبنى أن يطيع من تبناه طاعة عمياء كأبن حقيقي له، فاذا تطاول عليه أو أنكره وأساء اتجاهه الأدب فمن حق المتبني أن يضربه أو يستعبده ويضع عليه أحدى علامات العبودية مثل الوشم أو الكي أو قطع شحمة الأذن.
من الأمور المهمة كذلك، هي عائدية التركات التي يخلفها المتوفون، والى من تؤول من بعدهم.. فعند موت الأب كانت أمواله المنقولة وغير المنقولة تقسّم وفق حصص محددة بين أولاده الحقيقيين وأولاده بالتبني وأولاده من عبدته أذا أعترف بأبوته لهم، وتقسّم التركة بأن يكون للأبن الأكبر حصتين باعتباره المسؤول عن العائلة وادارة مصالحها بعد موت الاب، وباقي الأخوة والزوجة حصة واحدة... ونفس المبدأ ينطبق على الأم بعد وفاتها.. أما البنات فكان لهن الحق فقط في أخذ مستحقات هدايا زواجهن الممنوحة من تركة والدهن المتوفي.
976 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع