دلالات ما يجري فى «الحديقة الخلفية»

                                            

                           د. منار الشوربجي


ما يجري فى البرازيل يستحق المتابعة ليس فقط لأن عزل ديلما روسيف، رئيسة البلاد، ليس نهاية المطاف، وإنما لأن المشهد البرازيلى تجسيد حي لما يجري في باقي دول أميركا اللاتينية. فالقصة تبدأ قبل أكثر من عقد مع التحرر من الهيمنة الأميركية.

فأميركا اللاتينية ظلت لعقود طويلة منطقة نفوذ أميركى بلا منازع.

وهي التي تطلق عليها الولايات المتحدة تعبيراً فجاً صار من كثرة استعماله لا يلفت الانتباه. فأميركا اللاتينية هي «الحديقة الخلفية لنا» بتعبير الدوائر السياسية فى واشنطن. لكن شعوب أميركا اللاتينية تمردت على الهيمنة الأميركية التى تحولها لمجرد «حديقة خلفية» تذهب كل خيراتها «لصاحب البيت»، وقامت بانتخاب حكومات مستقلة عن واشنطن وترفض نفوذها وتتبنى سياسات أقرب لليسار الساعى لخدمة الأغلبية الفقيرة، لا الاقتصاد الأميركى وشركاته العملاقة.

وكانت البرازيل من أهم الدول التى حدث بها ذلك التحول، فمثلت انعطافة مهمة فى أميركا اللاتينية نظراً لثقل البرازيل ووزنها بين جاراتها. فقد انتخب البرازيليون فى عام 2003 لولا دي سيلفا، زعيم حزب العمال، الذى حقق نجاحات مهمة للاقتصاد البرازيلى وخفض من نسبة البطالة، ثم تقاعد بعد مدتين رئاسيتين حسب الدستور. وقد حظي دي سيلفا بشعبية كبيرة لايزال يتمتع بها حتى اليوم.

ثم تولت بعده الرئاسة تلميذته ديلما روسيف المنتمية للحزب نفسه وصاحبة التاريخ الطويل من النضال الوطنى زمن الدكتاتورية. وقد أعيد انتخاب روسيف من جديد فى 2010، وشكلت ائتلافاً حكومياً ضم حزب «الحركة الديمقراطية»، ذا الميول اليمينية، الذى ينتمى له ميشيل تيمير الذى ظل نائباً لها حتى يوم عزلها.

غير أن حكم حزب العمال بزعامة دي سيلفا ثم روسيف كان يهدد مصالح قوى اليمين ومركبها الصناعي الإعلامي المرتبط بمصالح واشنطن.

وقد حاولت تلك القوى غير مرة التخلص من حكم الحزب. غير أن انفجار فضيحة فساد كبرى تتعلق بشركة البترول المملوكة للدولة «بتروباس» طالت قيادات فى الحكم والمعارضة معاً، دون أن تطال روسيف نفسها ولا دي سيلفا، عجّل من محاولات التخلص من روسيف بهدف وقف التحقيقات الخاصة بقضية الفساد فى بتروباس، لأنها طالت بشكل دامغ قيادات كبرى فى المعارضة. وبالفعل، تم توجيه اتهام لروسيف لا علاقة له بالفضيحة. فهى متهمة بالتلاعب بأرقام ميزانية الدولة، أي تحويل أرقام فيها من بند لآخر، بينما لم توجه لها أية اتهامات بالتربح ولا دخل حساباتها الشخصية أي من أموال الدولة. وقد تم بناء على الاتهام المتعلق بالميزانية المضي قدماً في إجراءات عزلها من منصبها.

وقد تم توجيه اتهامات أخرى بالفساد إلى دي سيلفا تتعلق بأصول حصل عليها بعد تركه منصب الرئاسة، لا خلال توليه السلطة. ووقتها سرب القاضي المسؤول عن القضية للإعلام اتصالات هاتفية بين قرينة دي سيلفا وأولاده وبين دي سيلفا نفسه ومحاميه بقصد إحراج الرجل والنيل من سمعته، مما اضطر القاضي بعدها لتقديم اعتذار رسمي. أما روسيف، فقد جرت إجراءات عزلها بسرعة شديدة حيث صوت أولاً مجلس النواب على عزلها ثم بعده مباشرة مجلس الشيوخ فتم إيقافها عن العمل وتولى الرئاسة نائبها ميشيل تيمير.

وهو الذى سيظل رئيساً مؤقتاً للبرازيل لمدة 180 يوماً يحدد خلالها مجلس الشيوخ مصير روسيف، فإما يدينها فيكمل تيمير مدتها الرئاسية أو يبرئها فتعود لمنصبها.

لكن ما تكشف لاحقا من معلومات نشرتها الصحف يدل على أن يد الولايات المتحدة لم تكن بعيدة مطلقاً عما يجري. فقد تبين أن السناتور البرازيلى ألويزيو نونز أحد قادة عملية عزل روسيف كان قد سافر إلى واشنطن فى نهاية أبريل الماضى بعد ثلاثة أيام فقط من تصويت مجلس النواب البرازيلى على العزل وقبل تصويت مجلس الشيوخ في 12 مايو والتقى خلال زيارته بالرجل الثالث فى وزارة الخارجية الأميركية.

وكأن الأخير كان يعطي الإشارة بموافقة واشنطن على استكمال إجراءات العزل. ثم تسرب للإعلام شريطاً صوتياً يتحدث فيه ميشيل تيمير فى أبريل الماضي، أي قبل عزل روسيف، وكأنه قد تم عزلها فعلاً وصار هو رئيساً للجمهورية يقول فيه، ضمن ما يقول، إنه لا ينبغي أن يتصور أحد أن الإطاحة بروسيف «سيحل كل شيء فى ثلاثة أشهر أو أربعة».

ومنذ أيام قليلة، وقبل أن تكمل حكومة تيمير شهرها الأول كان الوزير المسؤول عن مكافحة الفساد يقدم استقالته بعد أن تسربت محادثات له توضح أنه يعمل على وقف التحقيقات في فساد بتروباس. وهو كان ثاني وزير يستقيل من حكومة تيمير للسبب ذاته بما يكشف عن وجود جهد منظم لوقف تحقيقات الفساد.

لكن واشنطن ليست معنية بقضية الفساد وإنما يعنيها فى المقام الأول هو استعادة نفوذها فى القارة. فواشنطن لم تقبل أبداً التحولات الجوهرية التى جرت هناك

ولاتزال تسعى بكل الطرق لتغييرها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1138 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع