حامد خيري الحيدر
أن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكبيرة التي حدثت للمجتمع العراقي القديم خلال الألف الرابع ق.م، أدت بشكل حتمي الى تعدد وتنوع طبقاته الاجتماعية وكذلك الى تغير أتجاه تحدياته.
فبعد أن كان صراع هذا المجتمع بكافة مكوناته عند بداية تكوينه مقتصرا ً ومتركزا ًمع الظروف البيئية المحيطة به لتكوين كيانه الاجتماعي والاقتصادي وشكله السياسي العام، أخذ يظهر فيما بعد صراعاً جديداً ما بين الطبقات المكونة لهذا المجتمع، وصل أحياناً لدرجة الصِدام المباشر نتيجة التباين الاقتصادي الكبير بين تلك الطبقات، بعد أن ظهرت طبقة مُترفة (الفئة الحاكمة والمحيطون بها) تحاول بشتى الوسائل السيطرة والاستئثار بمقدرات الحياة لمصلحتها الخاصة، وطبقة أخرى مسحوقة (عامة الناس) تحاول أسترداد حقوقها ونيل حريتها وكرامتها الانسانية ورفع الحيف والظلم الذي لحق بها. وهذا تماماً ما حدث في دويلة (لكًش) السومرية، لتندلع نتيجة ذلك أول ثورة شعبية في تاريخ.
نظرة عامة على دويلة (لكًش)
دويلة (لكًش) واحدة من أهم وأعرق دويلات عصر فجر السلالات السومرية 3000_2370 ق.م. كانت مركزا ًسياسيا ً اقتصاديا ودينيا ًوثقافيا ً مهماً.. بلغ عدد سكانها حوالي 100,000 نسمة يتوزعون على ثلاثة مدن رئيسية هي.. (لكًش/العاصمة) وتعرف بقاياها بتلول (الهِبة)، (كًرسو) وتسمى اطلالها تلول (تلو)، (نينا) ويسمى موقعها حالياً تلول (سركًل).... وتتبع كلاً من هذه المدن عدد كبير من القرى الصغيرة والمتوسطة ليغطي حجم هذه الدويلة مساحة كبيرة من الأرض تقدر بحوالي 3000 كم2. كانت هذه المدن تمتد بخط واحد بالقرب من نهر (الغراف) على بُعد عشرة أميال من مدينة (الشطرة) في محافظة (ذي قار). تأسست في هذه الدويلة سلالة حاكمة قوية في عصر فجر السلالات الثاني 2800_2550 ق.م، أسسها الأمير (أورنانشة) استمرت بالقوة والتعاظم حتى آخر حاكم قوي فيها هو الامير(أنتيمينا).... كانت مؤسسة المعبد في هذه الدويلة تمثل سلطة قوية مستقلة تضاهي السلطة السياسية، حيث امتلكت لحسابها الكثير من الأراضي الزراعية بلغت أكثر من ربع مساحة الدويلة، كما وقع تحت أدارتها أكثر من عشرين معبداً لمختلف الآلهة الكبار مثل (آنو) و(أنكي) و(أنانا) و(أوتو).. كانت الزراعة المصدر الرئيسي للأقتصاد أضافة للتجارة مع البلدان البعيدة مثل (دلمون) و(مكًان) وحتى (وادي السند) وبمختلف البضائع.... لعل ما ميز تاريخ هذه الدويلة هو صراعها الطويل مع دويلة (أوما) المجاورة لها، الذي أستمر لأكثر من مئة عام من أجل السيطرة على الأراضي الزراعية ومصادر المياه، الذي أنتهى (بشكلٍ مؤقت) بأبرام معاهدة سياسية لتقاسم المصالح الاقتصادية ومصادر الارواء بين الطرفين بوساطة وتحكيم الملك (مَيسلم) ملك دويلة (كيش)، تعتبر أقدم معاهدة سياسية في التاريخ. لقد حتمّ صراع بهذا الحجم أن يكون للدويلة جيش قوي ومنظم تفاخر به أمرائها، قدر تعداده بحوالي 9000_10,000 محارب بين قائد وجندي. وقد أعتبر قادة هذا الجيش من الطبقات العليا في المجتمع ولهم حقوق وامتيازات خاصة. اما بقية الرتب الصغيرة والجنود فكانوا من بسطاء الشعب.
أوضاع الدويلة قبيل الثورة
في حدود عام 2400 ق.م أي في أواخر عصر فجر السلالات الثالث، ونتيجة الحروب الطويلة مع دويلة (أوما) والدويلات الأخرى. ونتيجة سوء الادارة التي تمثلت بخلفاء الأمير (لوكًالندا) الذين انشغلوا بحياة البذخ والاسراف والاهتمام فقط بالجانب العسكري، مهملين أسس اقتصاد الدويلة المتمثل بالزراعة وما تحتاجه من استصلاح للأراضي واقامة مشاريع الري، كذلك اهمال التجارة الخارجية وما كانت توفره من احتياجات مختلفة لعموم المجتمع.. كل ذلك أصاب الاقتصاد العام بالشلل والركود. وتذكر بعض النصوص أن السلطة الحاكمة حاولت معالجة هذه الأوضاع السيئة بمساندة من مؤسسة المعبد، عن طريق فرض ضرائب كبيرة على الشعب شملت جميع العاملين في مرافق ونشاطات الحياة المهنية كالحرفيين ومربي المواشي والصيادين والفلاحين. كانت تذهب هذه الضرائب الى الحكام وحاشيتهم والطبقة المترفة لتأمين استمرارية ترف حياتهم. كما فرض المعبد هو الآخر ضرائب فاحشة على قضايا الأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والارث وتسجيل الولادات ورسوم الدفن. بل ومن أجل الحصول على المزيد من الموارد المالية أباحت بعض الممارسات الاجتماعية الشاذة مثل زواج المرأة برجلين. في ضوء ذلك أصبح جباة الضرائب المعّينين من قبل السلطة الحاكمة يجوبون كل أنحاء البلاد للاستيلاء على كل ما يمكن الحصول عليه. ومن لايتمكن من الدفع كانت تتم مصادرة أملاكه أو أيداعه في السجن لحين السداد. أما طبقة العمال البسطاء فقد فرضت عليهم بدلا ً من ذلك أعمال السخرة القسرية التي شملت حتى فاقدي البصر منهم، وبلغت القسوة من الحكام أنهم لم يكونوا يجهزونهم بما يحتاجونه من قوت. فأصبحت هذه الطبقة تعاني البؤس والحرمان، كما تذكر النصوص (أن العمال والشغيلة صاروا يستجدون من البيوت ويأكلون فضلات الطعام من أبواب المدينة بينما مخازن الحكام وحاشيتهم مليئة بالحبوب). كما قامت السلطة الحاكمة بأطلاق سراح المجرمين واللصوص من السجون لتوفير طعامهم، فانتشرت الجريمة والسرقات بشكل كبير... كل هذه التراكمات جعلت البلد في حالة غليان عنيف توّج بشكل ثورة فيما بعد.
الثورة
كانت بدايات الثورة عبارة عن بضع حالات عفوية من التمرد بعدم دفع المستحقات الضريبية، ورفض الكثير من البسطاء الذهاب الى أعمال السخرة القسرية واعلان حالة من العصيان. ثم تطور الأمر بعد ذلك ليتم تشكيل مجموعات من الشباب الجوعى أخذت تهاجم مخازن وقصور الاثرياء للحصول على الطعام. تذكر بعض النصوص بهذا الخصوص (أن الثوار كانوا يهاجمون الأثرياء وأتباع الطبقة الحاكمة ليستولوا على ممتلكاتهم وما بحوزتهم من مؤونة)، أخذت الهجمات بالازدياد يوما ً بعد يوم، تحولت فيما بعد الى هياج شعبي كبير ثم فوضى عارمة في عموم الدويلة بالأخص العاصمة (لكًش)، حتى تفجرت الاوضاع بشكل ثورة جماهيرية كبيرة أطاحت بالسلطة الحاكمة لتأتي بسلطة جديدة من الشعب. وبالرغم من كثرة النصوص التي أوضحت الحال قبل وبعد الثورة إلا أنها لم تتناول كيفية تنفيذها إلا من بعض أشارات مثل (ضُربت السلطة من قبل الجنود) و(سيطرة الجنود على القصور والمعابد). وما يمكن استنتاجه من سير الأحداث، هو أن الطبقات الصغيرة من الجنود الذين كانوا يعانون بما يعاني شعبهم قد استعانوا بالجماهير الغاضبة للهجوم على قصور الأمراء والمعابد والاستحواذ على مخازن الطعام لتوزيعها على الناس... بعدها ظهر أسم (أوروأنمكًينا) الذي كان يقرأ سابقاً في بعض المصادر بشكل خاطئ (أوركاكًينا)، كقائد للثورة وأميراً جديداً لدويلة (لكًش).. وقد أشارت بعض النصوص أنه كان من صنف الكهنة الكتاّب الذين كانت تناط بهم مهمة التدوين داخل المعابد، وهذه الشريحة تعتبر من الطبقة الوسطى في المجتمع. لذلك فأن (أوروأنمكًينا) جمع بين خلفيته الثقافية العالية وانتمائه الطبقي لعامة الناس الذي جعله يحس بما يعانيه أبناء شعبه. ولم تذكر أو تشير النصوص فيما أذا كان الأمير الجديد متواطئ مع قوة الجنود التي أطاحت بالحكم السابق، أو أنه تم أختياره لتولي الحكم من قبل عموم الجماهير والجيش بعد نجاح الثورة. لكنه يرجح أن يكون الاحتمال الأول هو الاقرب الى الحقيقة والمنطق.... بعد توليه الحكم ضَمن مباشرة ً تأييد الطبقات المُتعبة وعموم الجماهير التي كانت تنتظر رفع الظلم والاضطهاد عنها .
الانجازات
بدأت انجازات (أوروأنمكًينا) مباشرة ً بعد الثورة، وكانت تصب في مجملها لخدمة الطبقات الفقيرة والمُعدمة من الشعب... توزعت بين أعمال آنية عاجلة تمثلت.... بأطلاق سراح المسجونين بسبب الديون أو الضرائب، الغاء أعمال السخرة القسرية، محاربة الجريمة ومعاقبة المجرمين بعقوبات قاسية تصل الى حد الرجم، وقف عمليات الاستيلاء على أراضي الناس وممتلكاتهم ومواشي الرعاة ومراكب الصيادين، فتح كافة المشاغل والحوانيت دونما قيود. كما قام لتحسين الأوضاع الاقتصادية بحملة كبيرة لأصلاح الاراضي الزراعية وتحسين وتطوير مشاريع الري وتشغيل الكثير من الفقراء للعمل فيها لقاء أجور مستحقة. وكذلك حاول تنشيط التجارة الخارجية بأرسال مبعوثين له للدويلات الاخرى القريبة والبعيدة لفتح أبواب جديدة للتجارة. من جانب آخر قام هذا المصلح العظيم ولضمان عدم استغلال الشعب مجدداً بوضع اصلاحات قانونية واجتماعية تنظم حياة المجتمع آنذاك، تعتبر أولى محاولات تشريع القوانين في التاريخ. دونت على مسلة كبيرة وضعت في وسط مدينة (لكًش)، للأسف لم تصلنا، لكن ما وصل منها عبارة عن بعض الالواح المسمارية المقتبسة لبعض من نصوصها.. يذكر (أوروأنمكًينا) في مقدمة تشريعاته.. (أنه منذ اليوم سيكون سلطان الاله (ننكًرسو) اله (لكًش) فوق سلطان الحكام)... و(سيضع العدل والمساواة بين أفراد الشعب) كما عاهد شعبه ( أنه لن يسلم الارملة واليتيم والضعيف الى القوي والفقير الى الغني) و(سيكون بيت الفقير بجانب بيت الغني).. كما ذكر هذا المصلح لأول مرة في التاريخ كلمة (الحرية) التي تقرأ باللغة السومرية (أماركًي) حيث ورد (أن الحرية ستكون لكل فرد في لكًش)... لقد تناولت تشريعات (أوروأنمكًينا) مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... حيث قام بالغاء العديد من الضرائب المفروضة على حالات الزواج والطلاق وضرائب العمل والمشاغل غيرها من الاعمال البسيطة الاخرى، وخفض بعضها الى حد معقول. أيضاً منع وحرم زواج المرأة برجلين وعاقب متعاطيه بعقوبات قاسية. كذلك حارب الجريمة وعالج أسبابها مع تنظيم عقوبات خاصة لكل منها، كما لم يغفل أيضا ً الجانب السياسي فقام بتقييد سلطات طبقة الأمراء وتحديد تدرجهم بما فيها هو نفسه... حيث بقى بمنصبه (أينسي) أي أمير لعدة سنوات، ثم بعد أن حصل على تأييد بقية المدن مُنح لقب (لوكًال) أي ملك.
النهاية
أستمرت فترة حكم (أوروأنمكًينا) ثماني سنوات، وبالرغم من التأييد الشعبي الكبير التي حظيت به سلطة (الثورة) واصلاحاتها من قبل عموم الشعب، لكنها بنفس الوقت جابهت مقاومة عنيفة من قبل الطبقات المترفة والثرية التي ضُربت مصالحها وفقدت أمتيازاتها نتيجة هذا التحول الكبير. لذلك أخذت تخلق البلبلة والفوضى بغية زرع حالة عدم الاستقرار في عموم الدويلة وأحداث المؤامرات بين الحين والآخر، ساعدها في ذلك الامكانيات المالية الكبيرة التي تمتلكها التي وفرتها لرشوة المرتزقة والمجرمين، الذين سبق وأطلقتهم من السجون للقيام بهذه الأعمال. وقد لاقت هذه الهجمة أيضا ً دعما ًمن بقية الدويلات الأخرى التي أرادت خنق هذه الثورة في مهدها بأي شكل من الأشكال، بعد أن أحست بالخوف من انتقال تلك التجربة اليها، خاصة ً عدو (لكًش) القديم المتمثل بدويلة (أوما). لقد زادت هذه المؤامرات من تردي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الدويلة المتعبة أصلا ً منذ الفترة السابقة، لاسيما أن أصلاحات (أوروأنمكًينا) لم يمنح لها الوقت الكافي لتأتي ثمارها في استقرار الأوضاع العامة.
فأستغلت دويلة (أوما) التي كانت قوتها العسكرية في تعاظم مستمر تحت حكم ملكها (لوكًال زاكًيزي) الحالم ببسط نفوذه على باقي الدويلات السومرية، منتهزة فرصة سوء تلك الاوضاع المضطربة، لتشن هجوما ً كبيرا ً مباغتا ًبمعاونة المناوئين للثورة من الطبقات الثرية قامت على أثره بتدمير وحرق مدينة (لكًش) بالكامل، وقتل ملكها المصلح الحكيم (أوروأنمكًينا).... وقد رثى أدباء سومر تلك الفاجعة التي أصابت (لكًش) بمرثية رائعة، تعتبر واحدة من أروع نصوص الادب السومري..... لتنتهي هذه الثورة العظيمة تلك النهاية المفجعة، طاوية معها أحدى الصفحات المشرقة من تاريخ الشعب العراقي العظيم.
1072 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع