د.محمد عبدالقادر الداغستاني
مقال اعجبني
خلال قرائاتي لكتب ومجلات قديمة عثرت على مقال نشر في مجلة المختار من ريدردايجست الأمريكية المنشور في عدد شهر ديسمبر عام (1960) كتبه الجنرال بنيامين فولوا وهو أول طيار في العالم . المقال بعنوان ( وقالوا لي : علم نفسك كيف تطير)
نص المقال :
كان "العم جو كانون " رئيس مجلس النواب الأمريكي رجلا كثير الشكوك ....وفي يوم دافيء هاديء الريح من أيام يوليو (1909) رأى أول طائرة في حياته في "فورت مايو" بولاية "فرجينيا " وغمغم قائلا لأحد الواقفين الى جواره : لن تستطيع أن تقنعني بأن هذا الشيء سوف يطير ..وبعد لحظات أنطلقت الطائرة في الجو , فقال معترفا ..."حسنا .. أنها تطير , ولكنك لن تستطيع أن تجعلني أصدق انها ستبقى في الجو " .
ولكنها بقيت ...وحلقت في سهولة حتى وصلت الى مدينة "الأسكندرية" بولاية "فرجينيا " ثم دارت على أعقابها وعادت الى "فورت ماير" ولم يسجل التاريخ رد الفعل الذي حدث للعم "جو كانون" وهو يراها تهبط في هدوء وامان ....وخرج من الطائرة رجلان ...ولم يكن بها مقصورة خاصة للطيار واخذا يقارنان في زهو بعض الملاحظات . ...كنت انا أحد الرجلين ,أما الثاني فكان قائد الطائرة وشريكا في تصميمها وصناعتها ,وكان هدفه من هذه الرحلة الجوية هو بيع طائرته للجيش الأمريكي ...اما أسمه فهو "أورفيل رايت "....وتصافحنا والفخر يملأ قلبينا ...فقد سجلنا في رحلة واحدة ثلاثة أرقام قياسية عالمية وهي " 68,4" كم /ساعة للسرعة و"16" كم للمسافة و"120" متر للأرتفاع .
حاز التقرير الذي أعددته بصفتي مراقبا رسميا للجيش رضا رؤسائي , عن رحلة اختبار الطائرة وعملها ولما كان الأخوان "رايت " قد حققا فعلا أولى المواصفات المطلوبة وهي أن تكون الطائرة صغيرة وخفيفة بحيث يمكن نقلها بالجواد والعربة , لقد دفع لهما الجيش "25" ألف دولار مقابل طائرتهما التي حطمت الأرقام القياسية مع مكافئة قدرها خمسة ألاف دولار . وأصبح كل ما يحتاج أليه السلاح الجوي الجديد الان هو طيار ....وقد قدر لي أن أكون أنا هذا الطيار ...لم يكن هناك ما يؤهلني قط لهذا العمل .سوى انني ركبت فقط لمدة (54) دقيقة مع :ولبر رايت " قبل الأختبار النهائي وسمح لي بأن أحرك أجهزة القيادة بيدي ولكن لم يسبق لي قط ركوب الطائرة بمفردي أو التحليق والهبوط بها .
قال لي الجنرال "جيمس ألين" , كبير ضباط سلاح الأشارة في الجيش يومئذ : لاتقلق ...سوف تتعلم هذه الفنون تدريجيا ..لقد قررت أرسالك مع هذه الآلة الطائرة الى ولاية "تكساس" , فالجو أفضل هناك .فقلت حسنا يا سيدي ,هل هناك أية تعليمات خاصة ؟
قال أن أوامرك بسيطة ياحضرة الملازم وكل ما عليك ان تقدر قيمة الطائرة وأن تأخذ معك كثيرا من قطع الغيار ..ثم علم نفسك كيف تطير .
قبل السفر الى "تكساس " , تلقيت ترخيصا بالمبالغ اللازمة لشراء قطع الغيار فكانت تلك أول ميزانية لسلاح الجو الأمريكي وقد خصصت لأعمال الصيانة لمدة عام واحد وكان مجموع الميزانية "150" دولارا.
عندما هبطت من القطار في "سان انطونيو "صباح يوم "5" فبراير "1910" خشىت ألا أكون صورة لائقة بالوصي الوحيد على القوة الجوية لأمريكا فقد كنت في الثلاثين من عمري أي أكبر ببضع سنوات من سن الطالب العادي للطيران اليوم , كما أنني كنت كما قالت صحيفة "سانت أنطونيو أوبزرفر" من أصغر الرجال حجما أذ كان طولي "165" سم ووزني "61" كغم .
أمضيت أكثر وقتي في "فورت سام هوستون"بمدينة "سان أنطونيو" خلال ذلك الربيع أكتب الرسائل الى "اورفيل رايت" أسأله كيف أتفادى الكوارث الكبرى ..وفي عبارة موجزة كيف أقود الطائرة ؟ولعلني على على قدر علمي..فأنا الطيار الوحيد في التاريخ الذي تعلم الطيران بالمراسلة .
كانت الطائرة رقم "1" للجيش الأمريكي شبيهة بتلك التي حلق بها الأخوان "رايت" لأول مرة في "كيتي هوك" أي من النوع الذي يجب دفعه وكانت مروحتا الطائرة تدوران بالسلاسل قد وضعتا خلف مقعد الطيار ويعملان بمحرك ذي اربع أسطوانات ينتج في الظروف المثالية ما يماثل قوة "25" حصان .وقد كتب أحد اللذين أرخوا هذه الحقبة فقال : ان اول طائرة حربية في العالم كانت تبدو أشبه بمجموعة من الأعمدة الخيزرانية وقد أتصلت بمحرك يعمل بالبنزين. ومع ذلك فان هذه الطائرة كانت قد قتلت رجلا من قبل هو الملازم "توماس سيلفريدج" الذي يعد اول شخص قتل في حادث طائرة .,فقد تحطمت طائرته خلال أختبارت سابقة في "فورت ماير" وأسفر الحادث عن أصابة "اورفيل رايت " بجروح شديدة ولولا هذا الحادث لكان صديقي "سيلفريدج" هو اول طيار عسكري يقود طائرة حربية .وفي نفس هذه الطائرة بعد تعديلها واعادة بنائها .
كنت قد نقلت الطائرة رقم (1) الى "سانت انطونيو " بالقطار داخل "17" صندوق خشبي وقد تم تجميعها بعد جهد شاق بواسطة ثمانية من المجندين تحت قيادتي كنا نعمل في أعداد طائرتنا تحت مظلة خشبية في منطقة أستعراض الفرسان مما أثار تهكم الفرسان وسخريتهم منا ...كانوا يقولون لنا ...ماذا تفعلون أيها الفتيان ؟ طيارة من الورق ..وكانوا يشيرون ألينا باعتبارنا عصافير بشرية مجنونة .ولكن الزملاء القدماء عكفوا على مساعدتنا ونحن نقوم بعملنا الأرتجالي للصعود الى السماء ..اعارنا احد الحدادين كوره ومهارته لصناعة بعض الأجزاء بينما ساعدنا احد حائكي الثياب في حياكة التيل الخاص بالأجنحة واسطح الدفة وقام احد السباكين بتركيب انابيب الوقود .
كان الموعد المحدد لرحلتي الجوية الأولى هو اول مارس وفي صباح ذلك اليوم دفعنا الطائرة رقم (1) نحو طريق مفرد يواجه البرج المخصص لأطلاقها وهوهيكل من الصلب يبلغ أرتفاعه ستة أمتار ويزن "635" كغم وقد وضعت بكرة في أعلاه متصلة ببعض الحبال وكان جهاز البكرة متصلا بالطائرة بحيث أنني عندما أجذب زنادا خاصا يهوي ثقل من الحديد الى أسفل فيدفعني انا وطائرتي التي تزن "360" كغم فوق قضيب مفرد ثم تنطلق الطائرة الى اعلى أذا واتاها الحظ ...ولكن الثقل الحديدي كان أكبر من ان تتحمله البكرة فتحطم المسمار الخاص بها وهكذا تأخرت التجربة يوما واحدا بعد صناعة مسمار اكثر قوة .
في يوم الأربعاء "25" مارس هب نسيم عليل من الجنوب الغربي وفي التاسعة والنصف صباحا تجمع حول أطراف أرض الأستعراض حشد من الناس يبلغ عدده حوال ي "200" شخص بينما كان الفرسان يصيحون في سخرية .. وكان الجميع يتطلعون الى الهيكل العجيب الذي أربض فوقه ...ووقف الجاويش "ستيفن أيوزوريك" و"الأونباشي فيرنون بيرج " عند المروحتين وهما الآن ضابطان متقاعدان برتبة كولونيل وأدارا المروحتين فدار المحرك وأنبعثت فيه الحياة . وتولى ثمانية رجال رفع الطائرة الأولى والطيار الحربي الأول برفق حتى وضعوها في طريق أطلاقها بينما ظل أثنان عند الأجنحة لتظل الطائرة محتفظة بتوازنها الدقيق ...كان ضجيج المحرك يحول دون سماعي شيئا ..ولكن الصحفيين الحاضرين كتبوا في صحفهم يقولون :أن سكونا مهيبا ساد الجمع الحاشد . وكان هذا شيئا مناسبا لي فقد كنت اصلي حينئذ.
بسطت ذراعي كالأجنحة وقلت للرجلين ان الطائرة متوازنة وأنني على أستعداد للتحليق ...رفع "بيرج" سبابته الى اعلى متمنيا لي حظا سعيدا وعنئذ جذبت الزناد المتصل بالثقل فمالت الطائرة الى الأمام واندفعت على القضيب المفرد الذي يبلغ طوله"15"مترا بسرعة هائلة بلغت "48" كم /ساعة وعنئذ عملت وفقا لتعليمات "رايت" فجذبت عصا القيادة برفق فأرتفعت في الهواء فجأة الى الأعلى وحدي لأول مرة . لم تستغرق رحلتي الأولى بالطائرة أكثر من سبع دقائق ولكنها كانت أشبه بدهر , وبينما كنت احلق واحوم فوق الحنود والخيام والخيول أكتشفت عنصري الطبيعي ...السماء ....ولكن سروري ما لبث أن تبدد عندما بدات أفكر بالهبوط لقد حذرني "رايت" بقوله ان الهبوط هواخطر جزء في الطيران . وبينما كان اهل تلك البلدة يلوحون بأيديهم ويهتفون أخذت انا ادور فوق ارض الأستعراضات التي تبلغ مساحتها "3" كم2 حتى اتممت ست دروات ثم أرتفعت مرة أخرى "45" متر ولكن لم يكن بأستطاعتي أؤجل الهبوط الى ما لانهاية وفي آخر الدورة السادسة هبطت متجها نحوالمظلة الخشبية , كان لابد من اتمام الهبوط وقف المحرك تماما وكانت يداي فوق مفتاح أقفال البنزين وأنا في طريقي الى أسفل وفجأة بينما كنت اوقف المحرك برزت في طريقي سيارة تسير ببطء يقودها طبيب عجوز جاء متاخرا عن موعد العرض . .كتب أحد الصحفين بعد ذلك يقول : في برود يشبه برود الصلب أستطاع الملازم "فولو" ان يتفادى الأصطدام بالسيارة ....وفي الحقيقة أن كل ما فعلته بوحي الغريزة هو اني جذبت عصا القيادة فأذا بالطائرة تقفز فوق سيارة الطبيب . وبعد لحظة كنت قد هبطت على الأرض على مسافة كيلومتر من النقطة التي كانت مقررة لنزولي واندفع الأصدقاء والفضوليون بل والفرسان أيضا نحو المطار لتهنئتي ولم اكن قد أستطعت الخروج بعد من الطائرة .ولكني لم أستطع إلا ان اوافقهم على أنني قمت فعلا بهبوط عظيم .
دفعني نجاحي الى القيام بثلاث رحلات جوية أخرى في اليوم نفسه وأنتهت الأخيرة منها بكارثة , فقد تحطمت أنبوبة الوقود وتوقف المحرك ,وتعثرت الطائرة رقم (1) في هبوطها وأصطدمت بالأرض فتمزقت دفتها ,وأصيب طيارها الغشيم برجة شديدة وهكذا قمت بأول تحليق ..وأول طيران منفرد ... وأول هبوط ...وأول سقوط في يوم واحد . وفي الشهور التي تلت ذلك ,أصبحت طائرة الجيش رقم (1) من المشاهد الغريبة المألوفة في سماء "سان انطونيو" ...وكانت الطائرة الخفيفة كثيرا ما تقفز وتميل في الهواء كالجواد البري , فصنع لي أحد عمال السروج في بطاريات المدفعية شريطا من الجلد لتثبيتي في مقعدي وقد نجح الشريط في عمله وهكذا كنا أول من أخترع حزام الأمان. وكان أدخال العجلات على الطائرة أبتكارا آخر قمنا به , أذ لم تكن الطائرات ذات المحركين تستطيع التحليق في مهب الريح على قضبان الأنزلاق ومن ثم فقد قررنا ان نجرب وضع عجلات تحت الطائرة ووضعنا عجلتي آلة حرث , فنجحنا تماما واصبحت العجلات بعد ذلك من أجزاء الطائرة القياسية .
سقطت بالطائرة مرات عديدة ولكني لم أصب بجرح إلا مرة واحدة عندما اشتبكت ساقي بسلك في الأرض والأثر الذي تركه هذا الجرح الطفيف هو العلامة الوحيدة التي احملها اليوم بعد (28) سنة من الطيران ولكن الأصابات التي حدثت للطائرة رقم (1) كانت أكثر خطورة مما جعلها كارثة على ميزانية السلاح الجوي و وراح أعتماد الصيانة الذي معي يتناقص بسرعة حتى أضطررت الى أضع يدي في جيبي الخاص لشراء المواد والأجزاء اللازمة لعمل جديد حتى انني انفقت من مالي الخاص حوالي (300) دولار حتى تظل هذه الطائرة الواحدة وطيارها الوحيد في الجو . وأخيرا جاء يوم من أيام أبريل (1911) عندما أستبدلت بالطائرة رقم (1) المرهقة طائرة جديدة ملساء من طراز "رايت – ب " وجاء معها طيار أستعراض شهير يدعي " ه . بارمبل "وكان لابد لي أخيرا من ان أتلقى تعليما رسميا في فن الطيران ....كنت قد قمت بثماني وستين رحلة جوية وقضيت "9" ساعات و"10" دقائق في الجو عندما تلقيت أول دروس الطيران على يد طيار محترف ...وأسترد الأخوان "رايت " طائرة الجيش رقم (1) وقدماها هدية لمعهد "سميشسو نيسان " بواشنطن وهي معروضة الآن هناك الى جوار طائرة "رايت " الأصلية "كيتي هوك" ..وعلى مقرية من المكان الذي اعيش فيه الآن يوجد صديقي الشاب الجنرال "برنارد شرايفر " مدير البحوث والتحسينات الخاصة بالسلاح الجوي في قاعدة "اندروز الجوية " بولاية "ماريلاند" يرسم الخطط للوصول الى حدود أحدث واعلى ..وسوف يتمكن في يوم قريب هو ورجال مثله من اطلاق رجل الى الفضاء .
اما انا ...فانني أعتقد انني قدمت لهذا الرجل الذي سيصعد الى الفضاء دفعة أولى في طريقه الى النجوم .
الجنرال بنيامين فولوا أول طيار في العالم
716 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع