استاذ/ فؤاد يوسف قزانجي
يعتقد كثير من الباحثين في تاريخ الشرق الادنى القديم، انه لم يجر تحريات كافية في مدينة تيما، او تيماء العربية التي جاءت شهرتها بعد خمود شهرة مملكة سبأ اليمنية .
اشتهر اهلوها في التجارة بين القرن الثامن والقرن الثالث قبل الميلاد ، حتى تسلم الراية منهم النبطيون والتدمريون في سوريا وفلسطين والجزيرة العربية، والميشانيون والحطريون في العراق والخليج. وتيما او تيماء معناها (الارض القفر ) وهي في جنوب (دومة الجندل ) بالقرب منها كان يقع حصن السمؤل ويدعى الابلق، ولكن لا اثر له.كذلك هي التي عاش فيها نابونائيد ملك الامبراطورية البابلية الاخيرة (555-539)، لفترة قد تتجاوز السبعة سنوات، حينما جعلها احد المراكز الهامة لتجارة القوافل القادمة من اليمن وماكان(عمان) وربما الهند وتلك الذاهبة الى سلع (بترا) وتدمورتا وكركميش وبابل وغيرها وذلك في الاعوام (549 – 540 ق.م.) التي قضاها نابونائيد في حران وتيما . قام البابليون ببناء المدينة وسورها، واهم الابنية كان قصر نابونائيد والمعبد الكبير الذي كان يضم الهة بابلية وخاصة الاله سين والهة عربية والهة آرامية مثل عشترت وداكان وهدد.
بالاضافة الى ذلك فقد كان الاشوريون قبل اكثر من قرن قد استولوا على تيما وجعلوها مركزا عسكريا وتجاريا لهم.وقد احتلها الملك الاشوري تكلات بليسر الثالث، اذ وردت في نصوص تعود له وكذلك سرجون الثاني وذلك في عام 715 ق.م.، كما احتل بلدة ثمود . وقد ذكرت تيماء في التوراة وفي نبوءات النبي اشعيا (21:13،14) وكذلك في سفر ارميا (25:15) الذي ذكر فيه ان اهل تيماء سيتجرعون المر من غضب اليهود، ولايعرف السبب في ذلك؟ وقد اعتبرت في العهد القديم من مدن القوافل المهمة في الهلال الخصيب. ويذكر ان اشمايل ( اسماعيل) عندما اخلف ولدا دعاه تيما (سفر التكوين25:13).وكانت القوافل التي تاتي من نجران اليمنية وكذلك من الجرعاء قرب الخليج تلتقي في تيما قبل ان تتوجه الى سلع او بطرى(بترا) ثم بصرى وغيرها.(1). والحقيقة ان طريق التجارة وخاصة التوابل والعطور في القرن السابع والقرن السادس قبل الميلاد كانت بضاعته تاتي من الهند عبر مضيق ماكان(عمان) ثم ينحدر الى المدن الرئيسة في الجزيرة العربية مثل سبأ في اليمن وكذلك صنعاء ثم شمالا الى نجران واياثريبو (يثرب بعد ذلك) ثم تيما التي يبدو انها صارت في العصرين الاشوري والبابلي-الكلدي مركزا تجاريا تابعا لللاشوريين ومن ثم للبابليين في الجزيرة العربية بين الاعوام 750-539 ق.م. ، ومن هناك تذهب البضائع الى بلاد ارام(سوريا بعد ذلك) والى فلسطين ثم الى بلاد الرافدين ومنها شمالا الى فارس وارمينية.وفي العصر الاغريقي ذكرت تيما وصنفت بين مدن البادية في الجزيرة العربية.
تقع مدينة تيما في الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب، حيث استوطنت فيها قبائل مختلفة منذ العصور القديمة وتقول الروايات العربية انهم كانوا من الثموديين او العماليق. وتيماء حاليا احدى مدن المملكة العربية السعودية، وتقع بين مدينة يثرب (اياثريبو) ومدينة تبوك، وهي تابعة لمحافظة تبوك. وتبعد عن تبوك زهاء 265كم وعن يثرب حوالي 400كم. وتعد تيماء من المدن التاربخية المهمة مثل اياثريبو ونجران وغيرهما،وهي غنية بالاثار العربية والاشورية والبابلية، ومن اشهر المعالم العربية بحسب المصادر السعودية حصن الابلق والحمراء والرخم من اثار العصر ما قبل الاسلام، وبئر هداج وكذلك قصر ابي رمان المعروف في المذرعية وهو تحفة معمارية؟ . ان كثيرا من ارض المدينة صالحة للزراعة، حيث تعتبر من ابرز الواحات في الجزيرة العربية، لان فيها عين ماء جارية منذ العصور القديمة، كمايوجد في آثارها نقوش وكتابات كنعانية وسبأية ولحيانية وآرامية - ونبطية، وقد عثر المنقبون الاجانب فيها على آثار آشورية وكذلك بابلية وآرامية تعود الى الفترة البابلية الاخيرة .(2)
كان الملك البابلي الاخير نابونائيد او نابونائيدس قد توجه في السنة الثالثة من حكمه بحملة عسكرية من العاصمة بابل الى بلاد حاتي اي شمال سوريا، مخلفا في عرش بابل ،ابنه وولي عهده الامير بيل -شار- اوتسور لكن المصادر اليهودية تسميه بلشزار. واحتل معظم المدن على طريقه الى حاران التي تعني بالاكدية-البابلية (الطريق). وهناك بقي فترة تقدر بسنتين اوثلاث بنى فبها معبدا للاله سين،ولعل امه كانت هناك اذ كان والداه من البابليين النبلاء في حران . فجعلها رئيسة الكهنة في المعبد( وقد بقيت في المعبد حتى سقوط الدولة البابلية)، كما قام قبل ذلك ايضا بتقديم ابنته وتكريسها الى معبد سين في اور جنوب العراق. ثم سار جنوبا حتى وصل الى منطقة ادومو اي الادوميين وهي منطقة الجوف التي تبعد 430 كم شرقي العقبة،فاحتلها ثم استولى على احد مراكزها وهو (مدينة تيما) بعد ان قتل اميرها ،وكان جل سكانها من البدوالانباط ، ويذكر انها كانت قبل فترة مستوطنة اشورية محصنة. واشارت الرقم البابلية ان نابونائيد قضى في تيما فترة لاتقل عن 7 سنوات وربما اكثر من ذلك، من فترة حكمه للامبراطورية البابلية التي دامت حوالي 16 عاما. قبل ان تغزو بلاد الرافدين القبائل الميدية- الفارسية وتستولي عليها. وكان نابونائيد شخصية دينية بارزة ربما لان امه كانت اجدى الكاهنات البابليات البارزات في حران ،ولذلك اختير لاهتماماته الدينية. وقد ترك نابونائيد بابل في فترة حرجة حيث اندلعت في بعض المدن الحرب الاهلية على اثر تفشي المجاعة،كما وصلت انباء غزو الميديين لجبال العراق الشمالية اللذين انظم اليهم بقايا الكوتيين. وكان غرض نابونائيد ان يحصل على الضرائب والحبوب من المدن التي استولى عليها ومن سيطرته على طريق التجارة في بلدان الهلال الخصيب، وخاصة مايسمى طريق( التوابل والبخور)، حيث كانت البخور تستعمل في المعابد الدينية وتعتبر من انفس البضائع.(3)
وبعد ان استقر في تيما، استعد الى غزو بقية المدن والقرى في الجزيرة العربية، وارسل جيشه نحو مدينة ايا ثريبو (يثرب) فاستولى عليها، والتي تبعد عن تيماء حوالي 400 كم. وعاد حيشه بعد ان اطمأن على طريق القوافل القادمة من اليمن ومدنها العامرة. ثم شرع في بناء قصر ومعبد له، وكذلك اهتم بتحصين المدينة، وزراعة ارضها التي كانت على جانبي عين الماء الجارية فيها. وخلال السنوات السبع التي بقي فيها ، جعل من تيما مركزا لتجمع القوافل القادمة من ماكان والهند واليمن وتلك الذاهبة الى سوريا وفلسطين اوبلاد بابل. كما اصبحت مؤلا للتسوق من قبل القبائل العربية ومنهم اقوام من ديدان ومن دوما اي من دومة الجندل او ميدان التي كانت مدينة مزدهرة في الالف الاول قبل الميلاد والتي كانت لها علاقات تجارية كبيرة مع مصر واليمن قبل ازدهار مدينة تيماء في زمن الملك اشور بانيبال الاشوري وكذلك في عهد نابونائيد . وتتحدث الرقم البابلية عن بلاد العرب وقبائلها التي كانت علاقتها جيدة مع البابليين وانهم كانوا قد قاتلوا مع البابليين ضد الاشوريين. وعثر على رقيم في احدى المستوطنات الاشورية في شمال شرقي سوريا ان الحاكم الاشوري لتلك المنطقة في نهاية القرن الثامن ،كان قد اوقع قافلة في شرك قادمة من تيماء وهي تتسلل الى العراق دون ان تدفع ما عليها. مما شجع نابونائيد للتوجه الى تيما وعموم بلاد العرب. واشار احد الرقم الى ان اله القمر والالهة (عتر- سين) كانت تعبد في بلدة (دوما) التي كانت قد ازيلت في زمن السيطرة الاشورية منها المعابد.(4)
ديدان
ديدان او خربت الخريبة التي تبعد عن تيماء ثلاثة كيلومترات، فقد كانت ايضا احدى الواحات المهمة مثل تيماء ومدان. وكانت ديدان تمر منها قوافل مملكة سبأ ، اما مدان او مديان فلم يعثر فيها على اثار تشير الى حقيقتها، بينما عثر في تيما على اواني وجرار خزفية تشير الى تاريخها في القرن السادس قبل الميلاد. كما عثر على اثار لقصر نابونائيد والمعبد الرئيسي في المدينة، وكذلك على صورة منحوتة له وبيده عصا تشبه الصولجان. وقد وجدت ايضا رقم طينية تعود الى الالف الثاني والالف الاول قبل الميلاد. واول من تحدث عن كونها مركزا محصنا في القرن الثامن قبل الميلاد، الملك الاشوري تكلات بليسر الثالث (727- 744 ق.م.)،وقد انتهت سيطرته عندما قامت ملكة العرب بثورة ضد الحكم الاشوري(لم يذكر اسمها). كان اهلها يتكلمون اللغة العربية الشمالية ولكن معظم الكتابات التي وجدت نبطية- ارامية. كانت ثقافة تيماء وماحولها متاثرة بثقافات عصرها التي تمثل مزيجا من ثقاليد العرب وثقافة بلاد الرافدين والانباط ،وكان الخط الارامي مستعملا في تجارة القوافل في الهلال الخصيب حتى القرن الاول الميلادي كما هو واضح في اثار ميشان وحطرا وبصرى والجابية وتدمر.(5)
ثمود
وجد نصا باللغتين اليونانية والسريانية منقوش على حجر يعود الى القرن الثاني ، في موقع ( روافا ) شمال الحجاز يشير الى ان قبيلة ثموديني كانت قد دخلت في حماية الرومان اجتماعيا وسياسيا ولها صلة قوية بهم. وعين مكانها في بلدة حجر او ما يسمى (مدائن صالح) الا ان هذا ليس بثابت ، ولقد عثر على حجارة محفور عليها كتابة قديمة تعود الى القرون الميلادية الاولى، نسبت الى ثمود . ويعتقد الباحث (كليزر) ان لحيان من بقايا قبيلة ثمود. (6) . وقد اقيم فيها معبدان باسم الامبراطورين ماركوس اورليوس و الاخر باسم لوسيوس فيروس. وهناك وثيقة رومانية تعود الى القرن الخامس تذكر وجود وحدتين تحت امرة الجيش الروماني موجودتان في فلسطين ومصر ، ولايذكر شيىء عن ثمود او تيماء. وقد تحدث التراث الاسلامي عن ثمود وذكر بانهم وثنيون وقد دعاهم الى الايمان بالله النبي صالح ولما لم بستجيبوا ، اخذوا بصيحة او رجفة او هزة ارضية دمرت مدينتهم التي سميت بعد ذلك بمدائن صالح، واصبحت بقعة ملعونة وموضعا مشؤوما . وعندما حدثت غزوة تبوك في سنة (9ه) منع المسلمون من استعمال ابيارها، وظهرت اشعارا وروايات عربية عن ثمود في القرن الثامن عندما يدآ العرب يكتبون اشعارهم وتاريخهم. وفد اعطي هذا الاسم بعد ذلك الى امماكن فيها احجار ظاهرة في شمال ووسط الحجاز. لكن اخر نقش عربي قديم وجد كان مكتوب عليه:” ان هذه القبائل العربية مسؤولة عن الدفاع عن الحدود الرومانية” والنص قرأه الباحث في تاريخ المشرق (كراف) ونشر تفاصيله في مجلة ( بي أي اس او آر) 1978 .
وفي الروايات العربية القديمة،ذكرت قصة مدينة ارم ومدينة ثمود الى جانب مدينة تيماء، وكان محور الروايات (النبي هود و اخنوخ والنبي صالح)،علما ان اخنوخ كان نبيا من انبياء اليهود بحسب الكتاب المقدس. وتجري تلك الروايات على النحو التالي:
كان هود قد عاش بعد الطوفان،وقد ارسله الله الى قوم يدعون بالعمالقة الذين سكنوا في ايدوم والذين كان يحكمهم شداد بن عاد،الذي ابى ان يهتدي ويؤمن بالرب الواحد الذي كان يبشر به (النبي هود)وقد قال انني لن استمع الى اقوال (النبي) هود،وسابني جنتي بنفسي ولن احتاج الى احد، لان كل شيىء عندي. فقام شداد ببناء مدينة ارم التي سميت ارض الاعمدة، حيث ان قصورها مبنية على اعمدة من الحجر تغلفها الاحجار الكريمة مثل الزمرد والياقوت والجواهر. كما حفر قنوات الري وبسط الاراضي بقربها وزرع الاشجار والاثمار والفواكه وحولها انبت اجمل الازهار، حتى غدت كالفردوس. وهكذا فانه لن يحتاج دعوات النبي هود ولا لصلواته الى الرب . وبعد اكتمال مدينة ارم ذات العماد ذهب ليدعوا قومه الى مدينته الرائعة، لكن الرب اخفاها عنه وعن اتباعه، ولذلك راح الملك شداد واتباعه وصحبه يطوفون البرية وقراها بحثا عن مدينتهم التي تحدوا فيها النبي هود، وكانت العواصف الرملية تهب حولهم اينما توجهوا حتى وصلوا الى كهوف فالتجأوا اليها،ولكنهم بعد ذلك ماتوا جوعا وعطشا، وبقي النبي هود وحده.
ان هلاك قوم شداد بن عاد، قد جعلت اقربائهم من قوم ثمود يهربون بعيدا، ويختارون ارضا بين الحجاز وجنوب سوريا،لانهم خافوا ان يهلكوا كما حصل لبني هود،وكان لديهم سبعون الف مقاتل، ورغم ذلك خشوا ان ينزل عليهم ايضا غضب الله، ولذلك بنوا ايضا مدينتهم من الحجر، وربما كانت مدينة سلع التي سماها اليونان بترا. وبنى ملكهم اخنوخ قصرا كبيرا محصنا وبنى كذلك معبدا وزينه بالذهب والجواهر. وعندما صلى اخنوخ طويلا في المعبد نام لفرط حماسته والجهد الذي بذله. وفي نومته تلك سمع صوتا اتيا من السماء يقول:(سوف تظهر الحقيقة وسوف تمحقون!). ونهض على قدميه مرتعبا، واتجه الى تمثال الهه الذهبي ليستنجد به،فوجده قد تدحرج وهوى،وجاء اصحابه اليه ليهدأوا من روعه،ولكنه بدأ يفكر كيف عصى الله ، وان عليه ان يترك عبادة الاصنام ، وشعر ان رجال المعبد بدأوا يتامرون عليه،فقرر هو واصحابه ترك المدينة والرحيل عنها في مكان بعيد عن عبادة الاصنام. ولذلك سكن واصحابه في قرية اخرى يعبدون الله، في تواضع وخشوع، وانجب اخنوخ ولدا سماه صالح . وبعد وفاة اخنوخ ،جعل الله صالح لتقواه نبيا . وبعد فترة قام ملك ثمود بالهجوم على مدينة صالح وفيما كان الجيشان يتقاتلون ظهر النبي صالح في ساحة المعركة وصار يقاتل مع جماعته حتى انتصر . وكان ملك ثمود وقومه من عبدة الاصنام الذين آمنوا بالله ،ودعوا صالحا اليهم ،فجاء وبنى لهم( جامعا) لكن الملك المهزوم ارسل رجالا ليقتلوا صالح، لكن القاتل تردد امام النبي صالح وارتجفت يداه واصيبتا بالشلل، فقام صالح بمسامحته واعادة العافية له،فزاد حب الناس لصالح وصحبه. وبينما كان صالحا يصلي في (الجامع) ،ا\ جاء الملك ومعه مقاتليه واحاطوا بصالح وقالوا له اذا لم تظهر لنا اعجوبة من الله فلن نتركك حيا. فصلى صالح، واذا بالشجرة التي امام الجامع تتحول الى عقارب ضخمة،وتتوجه نحو ملك ثمود،عندئذ صاح الحمام الذي كان فوق سطح الجامع:(عليك ان تؤمن بالنبي صالح لانه رسول من الله) وكانت هذه هي الاعجوبة الثانية،اما الاعجوبة الثالثة فقد كانت اعادت الشجرة الى مكانها. وذكر في رواية عربية قديمة اخرى ان اعجوبة صالح الحقيقية هي اخراج الناقة من الحجر.(7)
المصادر
(1) عبودي، هنري. معجم الحضارات السامية. طرابلس، جروس برس،ط2/1991 ص291
(2)موسوعة وكبيديا(تيماء).
(3)باقر،طه. تاريخ الحضارات القديمة.عمان: دار دجلة،ص579 .
)4)Van De Mieroop,Marc. A History of Ancient Near East. Blackwell.2007.P 270-1
)5(Dictionary of Ancient Near East , Edited By P. Bienkowski and A. Millard. Univ. of Penn. Press. 2000. P. 284-5
6---عبودي، هنري. معجم الحضارات السامية. ص 279 p 436 (Ency. Of Islam. Vol. 6 (Noah,Hud and Salih7-)
770 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع