جابر جعفر الخطاب
كانت زهرة ناضرة في رياض الحياة عيناها غابة أحلام وردية تعانق الصباح بخيوط الأمل وفي ثغرها الباسم باقة أغنيات تقطر رقة ً وتفاؤلا ً وعنفوانا
وذات يوم حزين غائم بالهموم اختطف طائر الموت روح أبيها لتغيب عنها أنسام المحبة وترقد في وديان الصمت الأبدي الرهيب يدان رحيمتان كانتا تحيطان حياتها بوشاح من الحنان الأبوي وتمسحان على رأسها بلمسات سحرية دافئة وليتوقف ذلك القلب الكبير الذي كان لها بحرا من المحبة والدلال لا ينضب .اغتال الحزن أحلامها المشرقة بظلالها على جبينها الوضاء وانطفأت أنوار الطفولة السعيدة التي أوقد شموعها ورعاها والدها الراحل بفيض حبه وحنانه وراحت تتساءل ببراءة وذهول لماذا تعاقبها الحياة فتحرمها من ذلك النبع الزاخر بالأبوة والعطاء وماذا ستفعل أمها المستسلمة للقضاء والقدر وهي تحاول أن تبدد ظلمات الحزن التي احتلت قلبها وأغلقته بالحسرة والألم وعصفت بواحة أمنياتها لتحيلها إلى صحراء موحشة تزأر بها رياح الخريف وهل يمكن لأمها أن تعوضها ما فات وهي تعاني من وطأة الفقر الذي طرق حياتها على حين غفلة من الزمن فلم تستطع أن تحقق لهذه الطفلة المحرومة شيئا يسيرا مما كان والدها يحيطها به من واسع العطاء وربيع الأبوة فكلما طلبت منها حاجة توعدها بأن الله تعالى سيبعث لهم كل ما تريد وتتمنى وكلما أحست برغبة في مسايرة قريناتها في شراء لعبة أو قطعة حلوى تتلقى من أمها نفس الوعود وأن الله سيمنحهم كل شيء في الموعد المحدد لأن لديه أطفالا كثيرين مثلها ويحتاجون إلى الوقت الكافي لتحقيق أمنياتهم . يئست الطفلة من وعود أمها الكثيرة وأخيرا بدأ العيد يقترب وبدأ الأطفال يرتادون أسواق المدينة مع آبائهم وأمهاتهم لشراء ملابس العيد وتجهيزاته الأخرى فكانت هذه المسكينة تلح على أمها بأن تخبر الله بحاجتها إلى ثوب جميل للعيد تتأنق به مع صديقاتها لأنها لا يمكن أن تحتفل بملابسها القديمة وأنها ستحبس نفسها في غرفتها طيلة أيام العيد فكانت الأم تعيد عليها نفس الوعود وان الله سيبعث لها أجمل الثياب واللعب والحلوى ولا يمكن أن يتركها كسيرة الفؤاد حزينة العينينين وذات يوم عادت الطفلة من المدرسة وبادرت أمها بالسؤال الحازم هل بعث الله ما وعدني من ثياب وهدايا والعيد على بعد ثلاثة أيام منا ؟
فكان جواب الأم تكرارا لما كانت تقوله لها كل مرة وهنا أجهشت الطفلة ببكاء مرير واستلقت على فراشها رافضة أن تتناول أي طعام وفي غمرة بكائها راودتها فكرة جديدة طارئة رسمها لها عقلها الصغير وأخذت الشكوك بأمها تحيط بها من كل جانب فكانت تعتقد بأن أمها لم تخبر الله بوضعها وحاجاتها فقررت أن تبعث رسالة بخط يدها إليه فأخرجت ورقة وكتبت فيها رسالة تقول فيه ( حضرة صاحب الجلالة الله المحترم إن أبي قد مات وأني كلما طلبت من أمي حاجة تقول لي بأنك سوف تبعثها لي سريعا ولكني اليوم بحاجة إلى ثوب جميل للعيد أخرج به مع صديقاتي فلا تجعلني حزينة وسأشكرك كثيرا على ذلك ) .أغلقت الطفلة الرسالة ووضعتها في مظروف كتبت عليه بحروف كبيرة ( حضرة صاحب الجلالة الله المحترم ) وألقت الرسالة في صندوق البريد وعادت إلى البيت مسرعة تتناهبها مشاعر شتى من أمل وقلق ودقات قلبها تتسارع كأنها ساعة جدارية تنبأ بالوقت الذي مر . لم تخبر أمها بما فعلت ولم تطالبها بشيء جديد والتزمت الصمت انتظارا لما قد يحدث قريبا .
اعتاد موظفو دائرة البريد في نهاية كل يوم على جمع الرسائل وختمها وتصنيفها وإرسالها إلى المدن والبلدان المرسلة إليها ولم تبق أمامهم غير هذه الرسالة الوحيدة التي أثارهم عنوانها الغريب فالي من يرسلونها لأنها موجهة إلى الله تعالى وأخيرا قرروا فتحها ومعرفة ما تحمله من أسرار فلم تصادفهم في حياتهم الوظيفية مثل هذه الرسالة وهذا الموقف المثير ولما فتحوا الرسالة وأطلعوا عليها شعروا بحزن عميق وألم دافق يعتريهم وقرروا المبادرة فورا واستغلال الوقت المتبقي لحلول العيد فجمعوا من مدخولاتهم الخاصة مبلغا من المال يكفي لشراء ثوب جميل لهذه الطفلة البريئة مع بعض الحلوى ولعب الأطفال وأرسلوا المبلغ مع أحدهم على العنوان المذكور في رسالتها وكانت الطفلة في المدرسة فدهشت الأم لهذا الحدث وكيف تصرفت ابنتها بهذه الطريقة وشكرت موظف البريد الذي أوصاها بأن لا تكشف الحدث لابنتها وأن لا تفسد عليها أجواء الفرحة وأن تخبرها بأن الله هو الذي بعث لها ما طلبت وأن الله أكرمهم برعاية هذه الطفلة المسكينة التي يتقربون بها إليه لينالوا رضوانه ومغفرته وأنهم سيواصلون هذا المسعى الجليل في كل مناسبة . هذه الحكاية سمعتها في صغري وما زالت عالقة في نفسي ففيها الكثير من العبر والدروس الغنية بالمباديء والقيم .
732 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع