خالد القشطيني
كنا في أكاديمية الفنون الجميلة، في بغداد، قد درسنا شيئًا عن فنون العمارة في الغرب، القصور الملكية والمعابد الدينية والقلاع التاريخية، ونحو ذلك.
حدثونا عن روعتها وجمالها. ولهذا، عندما رحلت تلميذًا إلى إنجلترا، رحلت وفي نفسي هذا الشوق والإكبار لكل ذلك. بيد أنني أعترف بأنني صدمت عند وصولي إلى لندن، وتفرجي على هذه البنايات كقطع كبيرة من الفحم الأسود. استغربت من لونها الكئيب والحدادي الجنائزي. ماذا حل بها؟ وكيف خبا سحرها وفتنتها؟
كنت قد أشرت، في مقالتي السابقة، إلى ظاهرة الضباب المدخن الذي يسميه الإنجليز بالفوغ (fog)، وهو خليط لزج من البخار والدخان والغازات الصناعية من شأنه أن يلتصق بما يصادفه من أجسام وأسطح. وبمرور السنين، يشكل كساء أسود وسخًا حول كل هذه المواد تصعب إزالته تمامًا، لم تسلم منه حتى رئة وقصبات الناس.
هذا سر المظهر الجنائزي الأسود لكل هذه البنايات الرائعة في تصميمها وهندستها. ولكنني مضيت في هذا الموضوع، فقلت إن الحكومة البريطانية قررت منع هذا الفوغ بالنظر لما يسببه من كوارث، وعلى رأسها موت الكثيرين من المسنين والمرضى بالأمراض الصدرية. فأصدرت القانون اللازم، ونفذوه، فديارهم ليست كديارنا في العراق، نقول فيها ما لا نفعله. وبعد بضع سنوات، صفا هواء لندن، فلم نشهد أو نشعر بالفوغ منذ سنوات كثيرة.
آن الأوان لأصحاب هذه الأبنية التاريخية أن ينظفوا بناياتهم، ويزيلوا عنها هذا الكساء الأسود الكئيب. ولكنها لم تكن بالعملية السهلة، إزالة ما كسته الأعوام من كساء أصبح أشبه ما يكون بدهان «البويه» الملتصق بالحجر. وخصصت المؤسسات المختلفة ملايين الجنيهات لتنظيف وغسل هذه المئات من الأبنية التاريخية، بما فيها كاتدرائية وستمنستر وبناية البرلمان نفسه. ولسنوات، انهمك ألوف العمال في عمليات الغسل والتفريش والدلك. وطوال ذلك الوقت، ظلت أرصفة لندن وطرقها تتحمل المياه السوداء الوسخة الساقطة من هذه الأبنية.
وفي كثير من الأحيان، لم يسلم حتى المارة من القطر المتساقط على الرصيف من الأبراج العالية والجدران الشامخة.
كانت كلها جهود وأموال بذلت لإجلاء صورة، لا الأبنية وحدها بل صورة لندن نفسها. أخذت مظهرًا لم نره من قبل. أصبح بإمكاننا أن نرى ألوان الرخام والحجر والبلاط الأصلية، الأبيض البرتقالي والأبيض البنفسجي والأبيض الطباشيري والأبيض المعرق بالألوان والأشكال والخطوط. عادت كلها كما خلقها الله، وعادت الأبنية إلى ما كانت عليه في مخيلتي من بهاء وجمال أخّاذ. انطلق المغنون من أهل لندن ينشدون باعتزاز ومفخرة: ربما، وأنا لندني، أحب لندن أكثر!
1062 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع