هيفاء زنكنة
بعد مخاض اسطوري، استغرق سبع سنوات، صدر تقرير تشيلكوت عن شن الحرب على العراق، عن اسبابها وانعكاساتها على بريطانيا بالدرجة الاولى. منذ اصداره، حتى اليوم، كتبت عنه مئات المقالات، عرضا وتحليلا، في بريطانيا بشكل خاص، وعالميا بشكل عام، مع تغطية صحافية قليلة، نسبيا، من قبل اجهزة الإعلام العربي وتجاهله عراقيا إلا فيما ندر.
أعتبر الإعلام العراقي الرسمي التقرير المتعلق بغزو واحتلال العراق وانعكاساته الكارثية على الشعب، على كل المستويات، أمرا يعني بلدا آخر لم تسمع به الحكومة والساسة، واذا ما حدث وسمعوا عنه فأنه بقى بعيدا عن اهتماماتهم. وكما صرح العديد منهم قائلين: «اصبحت القضية من الماضي»، أي انهم أعتبروا مرور 13 عاما على الغزو والخراب اليومي المستمر، ماضيا لا يستحق حتى المراجعة أو التفكير، في ذات الوقت الذي لا يزالون يتنازعون فيه، بشراهة مصاصي الدماء، على خلافة يعتبرونها لم تحسم منذ ما يزيد على 1400 عاما. وماذا عن احتلال فلسطين؟ هل أصبح قضية من الماضي؟
بالنسبة إلى الإعلام غير الرسمي، كتب عدد من الصحافيين من داخل وخارج العراق، مقالات استعرضوا، في معظمها، التقرير بـ»حيادية» الموتى، أو كما وصف الكاتب الايطالي جيانريكو كاروفيجلو مرافعة نائب عام « تحدث لمدة 40 دقيقة بشكل مرتب ولم يقل شيئا».
المفارقة هي ان افضل التحليلات والتغطية الإعلامية عن التقرير هي التي نشرت ونوقشت، باستفاضة، في البلدان التي ساهمت بالاحتلال، خصوصا بريطانيا. قد يكون منبع ذلك الاحساس بأن الحرب كانت عدوانية، ومبنية على اكاذيب اختلقها رئيس الوزراء السابق، بالتحالف مع أمريكا، كما دلت التظاهرة المليونية التي سبقت شن العدوان، وكانت اكبر مظاهرة في تاريخ بريطانيا، أو مراجعة من ساندوا الغزو، لأنفسهم، بعد ان تبينت لهم تكلفة الحرب البشرية والاقتصادية، أو بعد ان خلق الاحتلال حاضنة للإرهاب تمتد إلى اكثر من بلد عربي وتصل بآثارها إلى قلب الدول الغازية، أو لحرصهم على مؤسساتية الدولة وسيرورة اتخاذ القرار على أعلى المستويات وضمان العمل ضمن القوانين المحلية والدولية. أدى طرح هذه الاسباب اما منفردة او بشكل متداخل إلى اعادة النظر، من جديد، في اسباب الغزو وتفكيك حجم المسؤولية والنقد الذاتي للسياسة الخارجية الاستعمارية، وكما ذكر المرة تلو المرة، لتتجنب بريطانيا ارتكاب ذات «الخطأ» مستقبلا. وذهب جيرمي كوربين، رئيس حزب العمال، أبعد من ذلك حين وقف معتذرا من الشعب العراقي ومن عوائل الجنود البريطانيين الذين قتلوا بالعراق، مع الإشارة بانه سيواصل عمله في تحميل توني بلير مسؤولية اتخاذ القرار الكارثي.
المهم، ان نشر التقرير، بالاضافة إلى تثبيت ما كنا نعرفه عن لا شرعية الغزو والاسباب الحقيقية للاحتلال، كسر حاجز الصمت على ما يجري في العراق، اليوم، نتيجة الاحتلال من قتل، وتهجير قسري، وتطهير ديني ومذهبي من قبل حكومة طائفية فاسدة بحجة الحرب على الإرهاب، وتسويق النظام باعتباره ديمقراطيا ممثلا للشعب.
ما هي الخطوة التالية؟ كيف سنتمكن كمثقفين وحقوقيين وإعلاميين وناشطين، سواء كنا داخل البلد أو خارجه، من اتخاذ خطوات عملية تؤسس لتقديم المسؤولين عن الغزو والاحتلال للمحاكمة والمطالبة بالتعويضات استنادا إلى أن قرار غزو العراق تم من دون أسس قانونية كافية؟ نقطة الانطلاق هي توثيق القضايا بشكل قانوني، مما يعني تنسيق العمل بين المواطن العراقي (أو مجموعة مواطنين) صاحب القضية مهما كانت (قتل، اختطاف، تعذيب، تهجير…الخ) والمحامي (أو الهيئة) المختص بالقانون العراقي ـ البريطاني ـ القانونين الإنساني الدولي وحقوق الإنسان الدولي. يشكل وجود المحامي ـ رجل القانون ضرورة مطلقة لأننا، ككتاب وناشطين، سنكذب إذا ما أدعينا قراءة مجلدات تقرير تشيلكوت وفهم مصطلحاته القانونية. وان كان هناك، حسب علمي، عدد من القضايا الفردية والجماعية الموثقة، كما تدل ملفات محكمة كوالامبور الرمزية لجرائم الحرب (تشرين الثاني/نوفمبر 2011 ) ومركز جنيف للعدالة الدولية، بالاضافة إلى وجود محامين عراقيين ودوليين مستعدين لمواصلة العمل. الوجه الثاني للعمل، هو عدم السكوت على جريمة الغزو والاستمرار بتذكير العالم بما يحدث للعراقيين جراءها. هنا تكمن مسؤولية المثقف والإعلامي والناشط المدني، وهي مسؤولية أخلاقية تجعل من الصمت تسترا ومشاركة في جريمة ابادة لم تعد تحتمل الصمت أو «الحيادية» أو خلق التبريرات الآنية والتاريخية. فالاحتلال ليس وجهة نظر والكولونيالية، باشكالها الجديدة، كما شخَص المفكر فرانز فانون، ليست نموذجا للعلاقات الفردية بل هي احتلال لأراضي قوم واضطهاد شعب. انه ليس تصرفا انسانيا.
لقد اصاب رشاش جرائم الاحتلال، وما خلقه من إرهاب، كل العراقيين، ويهدد الوطن بالتفتت مجتمعيا، والتقسيم أرضا، ومن اجل من تبقى من كل العراقيين، علينا العمل، بكل السبل الممكنة والمتاحة، على مقاضاة المسؤولين عن الجرائم بضمنهم من عمل مع الاحتلال قبل الغزو وبعده من السياسيين العراقيين، ومن تستر ولا يزال على جرائمه بعد الغزو. ولا بد أن يخضعوا في نهاية الأمر للمساءلة والعدالة كحال اسيادهم الاستعماريين والطامعين الإقليميين. وان توجب التركيز، حاليا، على ابقاء قضية العراق حية لدى الرأي العام العالمي، لئلا يتم تغييبها سياسيا وإعلاميا، والعمل اليومي لاستثمار الكوة التي فتحها تقرير تشيلكوت، وهو بالمناسبة افضل مما توقعنا، من خلال استمرارية العمل مع المنظمات المناهضة للحرب (مؤتمرات وندوات ومقابلات إعلامية) ودعم خطوة عوائل الجنود البريطانيين القتلى في مقاضاة توني بلير كمسؤول عن مقتل ابنائهم. هذه خطوات حثيثة، نحن نعلم جيدا بانها لن ترفع عن كاهل اهلنا عبء الكوارث اليومية، بشكل فوري، إلا انها تعطينا الامل بمستقبل تتحقق فيه العدالة، قانونيا، وتضع حدا لدائرة العنف والانتقام الذي زرعه الاحتلال.
745 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع