د. منار الشوربجي
لم أستطع طوال الأسبوع أن أمنع نفسي من التفكير في مغزى ما قالته رئيسة الوزراء البريطانية في أول جلسة لها بمجلس العموم. ففي خطوة بالغة الخطورة، أعلنت، بوضوح لا لبس فيه، استعدادها لاستخدام السلاح النووي لحماية بلادها.
فبعد خمس ساعات متصلة من الجدل الشديد بشأن تحديث نظام الدفاع النووي البحري المعروف باسم «ترايدنت»، وهو عبارة عن صواريخ نووية تحملها غواصة بريطانية كامنة في مكان ما في بحار ومحيطات العالم، سألها أحد نواب البرلمان، من الحزب الإسكتلندي المعارض للمقترح، عما إذا كانت هي «شخصيا على استعداد لإصدار الأمر بتوجيه ضربة نووية يروح ضحيتها مائة ألف شخص» فأجابت «نعم».
ليس ذلك فقط، فقد اتهمت ماي المعارضين في بلادها لتحديث ذلك النظام الدفاعي بأنهم برفضهم يكونون بين «أول من يدافع عن أعداء البلاد».
وما قالته رئيسة الوزراء البريطانية يكشف عن حجم الأزمة التي يعيشها العالم. إذ لا يبدو أن عالمنا المعاصر لم يتعلم درس هيروشيما وناجازاكي وما خلفه ذلك من دمار وخراب لا يمكن وصفه.
وتقدير ضحايا استخدام القنبلة النووية، إذا ما حدث في وقتنا الراهن، بمائة ألف شخص، وهو عدد ضحايا قنبلة هيروشيما، إنما هو تقدير مغرق في تفاؤله، إذا جاز أصلا التعبير في هذا المقام المأساوي، لأنه يغفل تماما ما يقرب من الثمانين عاما من التطوير للأسلحة النووية حول العالم، بما في ذلك السلاح البريطاني بالضرورة. فالسلاح النووي اليوم، بلا أدنى شك، أكثر فتكا ودمارا بكثير مما كان عليه عام 1945.
وخطورة ما قالته تريزا ماي يتضح أكثر إذا ما عرفنا أن رؤساء الوزارة البريطانيين السابقين، على مدار التاريخ، فضلوا ألا يجيبوا أبدا عن مثل ذلك السؤال بشكل صريح. اللافت للانتباه أن طبيعة التهديد الذي يستدعى استخدام السلاح النووي عند تريزا ماي اتضح أنه قادم من «المتطرفين» أو «الدول المارقة». وهى مفردات سمعناها من قبل أثناء التحضير الأميركي لغزو العراق واحتلاله.
فقد أوسعتنا أميركا الرسمية، ومعها بريطانيا بلير، حديثا عن الدول المارقة «مثل العراق» الذي زعموا امتلاكه للسلاح النووي، ولم يكف الطرفان عن التحذير من إمكانية استخدام العراق لأسلحتها أو تمكين المتطرفين من استخدام تلك الأسلحة. لكن لماذا لا يأت التهديد لبريطانيا من أي من الدول المالكة للسلاح النووي أصلا، باستثناء كوريا الشمالية، إلا إذا كان العدو لابد أن يكون بالضرورة من أصحاب البشرة غير البيضاء؟
الأخطر أن السبب الذي شرحته رئيسة الوزراء البريطانية لإفصاحها عن استعدادها لاستخدام السلاح النووي يؤكد فعلا أن دروس التاريخ ليست في الحسبان. فالسبب أردفته رئيسة الوزراء البريطانية فور ردها بالإيجاب.
فهي قالت إن جوهر أي نظام للردع هو أن «على أعدائنا أن يعرفوا أننا مستعدون لاستخدامه، لا كما يرى البعض من أن بإمكاننا امتلاكه لكن لا نكون فعليا على استعداد لاستخدامه».
والحقيقة أن فكرة الاستهانة بحياة مئات الآلاف من البشر الأبرياء «حتى يعرف الأعداء أننا مستعدون» خطيرة للغاية خصوصا أنها تأتي في لحظة تاريخية توجد بها مساع دولية حثيثة، أثمرت لدى بعض الدول النووية بأن تتعهد علنا ألا تكون هي البادئة بالضربة النووية الأولى، لتجنيب العالم ويلات السلاح النووي.
أما اتهام رئيسة الوزراء البريطانية لمعارضي تحديث «ترايدنت» بأنهم من المدافعين عن الأعداء يثير أيضا الكثير من التساؤلات حول ذلك الذي تعلمه العالم بعد غزو العراق. فهو الاتهام نفسه أطلقه بوش داخل الولايات المتحدة لردع خصومه السياسيين ودفعهم دفعا للقبول بمخططاته.
وهو ما يمثل مؤشرا خطيرا حول وجهة بريطانيا خصوصا أن معارضي تحديث «ترايدنت» ليسوا جميعا في خندق واحد. فمنهم من يعارض ذلك على أسس مبدئية وأخلاقية، مثل زعيم حزب العمال جرمى كوربين، رغم اختلافه مع عدد كبير من أعضاء حزبه.
ومنهم من يعارض تحديث ذلك النظام نظرا للتكلفة الباهظة. فتحديثه سيتكلف ما يزيد على 40 مليار جنيه استرليني.
ويقول معارضو تلك التكلفة إنها ستأتي على حساب باقي الترسانة الدفاعية البريطانية. وهناك فريق ثالث يعارض ترايدنت لسبب آخر تماما يتعلق بالطبيعة المتغيرة لأشكال التهديد التي تواجهها بريطانيا، الأمر الذي يعني أنهم جميعا يفكرون في المصلحة البريطانية لا مصلحة «الأعداء»!
حين قرأت أول الأمر عناوين ما جاء في تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية، تصورت أن الأمر لا يتعدى المبالغات التي يعشقها الكثير من واضعي عناوين الأخبار الرئيسية.
لكن ما إن قرأت متن الخبر نفسه ثم تحققت بنفسي، عبر مشاهدة تريزا ماي وهى تقول ما قالت حتى جال بخاطري شريط طويل مما قرأت وشاهدت عن مأساة هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين. عندئذ قفزت لذهني عبارتان رحت أرددهما كلما تذكرت القصة كلها، هما «غرور القوة» و«دروس التاريخ».
871 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع