بقلم/ حامد خيري الحيدر
فُتح الباب الثقيل مُصدراً صريراً حاداً.. أيادي قوية تدفعه بشدة لينطرح بوجهه على أرضية رطبة نتنة.. لم يتبين طبيعة المكان الذي تفوح منه روائح البول والعفن.. لحظات ثقيلات تمر قبل أن تعتادا عيونه العتمة...
زنزانة ضيقة تلفهّا ظلمة حالكة تجعلها كمدافن الموتى.. ليس فيها من شيء يربطها بعالم الأحياء سوى كوة صغيرة في أعلى أحد جدرانها لايستطيع حتى الطير النفاذ منها، يمر خلالها خيطاً واهياً من الضوء ونزر يسير من الهواء، يبقيان المقبورين فيها مُعلقين بهامش الحياة، أجساد ممسوخة مُلقاة هنا وهناك، يتسرب منها أنين خافت لا يكاد يُسمع هو كل ما يشير بأن ما أحتوته من قلوب لازال فيها شيئاً من نبض... عيون مفقوعة، أصابع مقطوعة لم يتوقف نزيفها، وظهور سلختها السياط تركت فيها أخاديد غائرة، أخضّر لونها بعد أن أصبحت معاقلاً للدود والطفيليات.... زحف ببطيء حتى أسفل الكوة موجهاً بصره اليها كأنه يريد أستقبال صورة الصباح.
مع بزوغ أشعة الشمس مُعلنة بداية يوم جديد، أنسل الصغار بتثاقلٍ واحداً تلو الآخر مثل طابور أفراخ القطا الى غرفة الدرس التي تعبق بشذى زيت السمسم المُنبعث من بضع قناديل موزعة في أركانها، ليجدوا بأنتظارهم مُعلمهم (أيلوشوما) قد سبقهم اليها، مُنهمكاً بأعداد ما يحتاجه تلاميذه من الواح طين ندية وقصيبات ناعمة تلائم أيادٍ غضة بدأت التمرس لمسك سلاحها منذ الآن. أتخذ كل منهم مكانه جالساً على الأرض النظيفة المفروشة بالحصائر خلف لوحته الخشبية المعّدة للكتابة على الواح الطين... مع أبتسامة صغيرة عطوفة بدأ الدرس بذكر بضع كلمات، كان على تلاميذه رغم عيونهم الناعسة ترديدها خلفه ثم نقش علاماتها المسمارية على الواحهم... (شين.. شمس)، (حاء.. حقل)، (واو.. وطن).... لم يكمل بقية الكلمات، حيث غلب النعاس أحد الصغار لتسرقه غفوة عميقة وهو متكأ على الجدار، لكزه زميله برفق بعد رؤيته المُعلم مُحّدقاً فيه، ليجفل عندها صائحاً مع الباقين (وطن.. وطن).
الصرير العالي يُعلن فتح مدخل القبر، حارسان ضخمان بوجوه مُكفهّرة ميتة يوقفاه ثم يقتاداه معصوب العينين، شبكة من الدهاليز، متاهة لايُعرف كيف تبدأ أو أين تتجه، تنتهي بغرفة واسعة مضاءة بمشاعل يتطاير منها الشرر، كأن نيرانها جُلبت من مواقد الجحيم، جدرانها ملطخة بالدماء، تدعو من يراها للقيء، امتلأت بأدوات القتل والانتقام من كل شكل ونوع، عند طرفها طاولة صغيرة جلس خلفها رجل ذو سحنة بعيدة عن أشكال البشر وهيئاتهم، واضعاً قدميه عليها لاهياً بخنجر عريض النصل... (أأنت المُعلم الأبله أيلوشوما؟).. لم يجب.. أنهالت عليه الصفعات والركلات من كل صوب لتسقطه على الأرض... (أجب أيها الجرو... تعّلم عندما تسُأل عليك أن ترد)... بقى على صمته مكتفياً بنظره لذلك السفاح... (يقولون أنت من تكتب تلك الألواح المسمومة التي توزع بين سكان المدينة؟)... لم ينتظر الاجابة، كان قد أعّد قراره سلفاً، فقط أشار بصدغه لأولئك المهووسين بلغة البطش... رُبطت يديه بأصفاد غليظة الى أحدى الزوايا، لتنهال عليه السياط اللاهبة دون توقف أو رحمة جعلت من ظهره لوحة أحتوت كل فنون الحقد والكراهية... لم تصدر منه صرخة، لم يبدي وجعاً، عدا بضع رعشات على وجهه رافقت صفير الضربات اللاسعة.... لم يمضي به وقت طويل قبل أن يبتعد عن عالم الشعور، سُحل من قدميه كأسدٍ ذبيح تنهش به كلاب جائعة، ليجد نفسه مُلقاً في تلك الحفرة الدهماء التي غدت مع تدفق الأيام وديمومة صنوف الألم مسكناً مُستديماً له ولأمثاله من المُبتلين بعشق الحقيقة...... توقفت الأرض عن دورانها مُعلنة أفول الحياة وخضوعها لشياطين الفناء، ضاع منه حساب الزمن، نسى معنى الليل ونقيضه النهار، فقد أحساسه بالوقت، لم يعد يعرف شيئاً عن مسيرة الأيام وساعاتها ألا من تناقص أصابعه وأسنانه واحداً تلو الآخر، بعد أن أصبحتا قوتاً يومياً لسكاكين الجزارين وهراواتهم.
(من يكسر قصبته سأجعله يبقى في غرفة الدرس حتى اليوم التالي) قال ذلك ممازحاً تلاميذه، ليحثهم على العناية بأدوات كتابتهم... (القصبة ليست مجرد قطعة خشب جوفاء صماء أنتزعت من بين أحراش الطبيعة، هي أداتنا ووسيلتنا التي بها نعبّر عما مايدور في فكرنا حين نعجز عن النطق بألسنتنا، بها نتغزل بالطبيعة كم هي ساحرة، ونتمنى للحياة أن تبقى حلوة، لكن بها أيضاً نقول للغراب أنه أسود ولا للذين يسحقون الزهور ليبيدوا الربيع)... حركة سريعة يهشم بها أحد الصغار قصبته على لوحته الخشبية.... مفاجأة لم ينتظرها (أيلوشوما) ولم تكن ضمن حسابات حديثه... (أنا يا معلمنا أريد أن أبقى هنا طوال الليل.... أريد أن أبقى كي أتمكن من قراءة جميع الألواح الموجودة في الغرفة التي كتبت بها كلامك الجميل).
رشقة ماء آسن تجعله يستفيق بصعوبة، كما هو الحال دوماً بعد كل محطة من محطات الصبر، سير به مترنحاً، ليس لساقيه من قدرة على حمله، سالكاً الممرات السوداء المؤدية لتلك الغرفة التي أعتاد تجرع طعام العذاب فيها، نفسه الذئب الدميم في كل حين... نظر اليه هذه المرة بعيون حمراء جاحظة أخذ السُكر مأخذه منها، ليرد عليه بوقفةٍ ملؤها التحدي، همهم بفم مترهل تسيل منه قطرات اللعاب والخمر بضع كلمات غير مفهومة، تبادلت نظراتهما لغة خاصة لايفهمها سوى القتلة وخصمهم الذي لا يعرف معنى الخنوع... (ألا يخيفك شبح الموت؟)... (هيهات أن يخيف الموت صانعي الوجود).... صرخ بصوت مرتجف مُعلناً عجزه واستسلامه لذلك الكائن الممزق الذي تمكنت مخالب الوحوش من سلبه كل شيء ألا الكبرياء وبذرة الحلم... (أقطعوا رأس هذا الصعلوك)..... تأبطه أثنان من السيافين ليذهبا به الى المقصلة، قوة غريبة تملكته جعلته منتصب الجسد شامخ الهامة، أخذ يمشي بثبات سابقاً أقدام جلاديه رغم ثقل أغلاله، كأنه ماضي بدرب أنعتاقه الموعود.. أعتلت وجهه أبتسامة أخذت بالأتساع مع كل خطوة يخطوها نحو الخلود، لم يعد يرى أو يسمع شيئاً، غير مبالي بكل ما يدور حوله ، كما لو أنه سافر الى أكوان وعوالم أخرى تصدح بضحكات الأطفال، مُحلقة بين ثناياها حمائم بيضاء، ليذهب بفكره وخياله في هذه اللحظات الرهيبة بعيداً، بعيداً، حيث البقعة الجميلة التي أحبها ووهبها سنين عمره، لتلك الغرفة المفروشة بالحصائر، وقد جلس فيها أولئك الملائكة الصغار بعيونهم الناعسة، مُمسكين قصيباتهم الناعمة، مرددين بأصواتهم العذبة (شين.. شمس)، (حاء.. حقل)، (واو.. وطن).
852 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع