ألاستاذ فؤاد يوسف قزانجي
اجتهد المؤرخون والبلدانيون القدامى والمحدثون في اصل اسم بغداد (Baghdad) وطلعت علينا اراء عديدة وتخريجات متباينة جانبت الصواب في احيان كثيرة، لانها اعتمدت على ما تناقلتها الروايات القديمة من اخبار، او على الحدس والتخمين بدلا من البحث في المصادر التاريخية القديمة الرافدينية واليونانية والرومانية والسريانية.
فمنهم من يعتقد ان اصل الاسم "بعل جاد" الذي قد يعني بالاكدية "معسكر بعل" او انه محرّف من "بعل داد" بمعنى اله الشمس او نسبة الى هذا الاله. وذهب اخرون الى ان الاسم ماخوذ من لفظ كلداني- ارامي الاصل وهو "بلداد" المشتق من "بيل" وهو اله ارامي معروف وداد لفظة ارامية قديمة معناها فتك ! ويرى اصحاب هذا الرأي ان الملك الكلدي نبوخذ نصر قد انتصر في هذه البقعة وخلد ذلك ببناء بلدة بهذا الاسم . بينما هناك باحث سرياني معروف وهو يوسف غنيمة قد اشار الى ان اسم بغداد، ارامي وهو مؤلف من كلمتي "ب" المقتضبة من كلمة بيت ولفظة كداد بمعنى غنم او ضأن فيكون معنى الاسم "بيت الغنم او الضأن" "1" وهناك راي اخر يرى ان الاسم استعمله الكاشيون في بابل "في النصف الثاني من الالف الثاني ق. م." ومعناه عطية الصنم او عطية الاله وغير ذلك .
لكن هنالك دلائل موثوقة اوردتها النصوص المسمارية تشير الى ان اسم بغداد ورد بصيغتين هما "بكدادا او بكدادو " bagdadu “ وتسبقهما العلامة التي تدل عادة على ما تسبق اسماء المدن وهي الكلمة الاكدية "آلو alu” المكتوبة بالمقاطع المسمارية "بك- داد- دو" alu- bag- da- du”. وقد وصل الينا اقدم ذكر لاسم هذه المدينة من رقيم بابلي بابلية جائنا من العهد الكاشي - البابلي "1590 - 1107 ق. م." كما ورد في حجرة حدود "كدورو" تعود الى عهد الملك الكاشي نازي مارّاتش الذي حكم في الفترة "1323 - 1298 ق. م." وحددت الموقع بالقرب من نهر ملكا واسمه بالاكدية "نار - شري". كما ورد في بعض النصوص الاشورية منها في عهد الملك نراري الثاني (2)، وفي عهد الملك البابلي نابو بلاصر(626-604 ق .م) وكذلك ورد اسم المدينة بكدادا، في رسالة طريفة نشرها الاستاذ كامبل تومبسون في كتابه (رسائل بابلية قديمة ) والرسالة كان قد بعث بها قائد عام للجيش البابلي الى الملك قائلا في ختام رسالته : "وبعد ان وليت وجهي شطر القلاع صاح قائد حامياتها اين الملك؟ ان الطريقه مفتوح اقدامنا , فاجبتهم ان الملك ضارب خيمته في بكدادا ." هذا وقد ورد اسم بغداد في التلمود (القرن الثاني للميلاد ) تحت اسم بغداثا . (3)
وفي ضوء ما تقدم فاننا لا نعدو الحقيقة اذا قلنا بان بكداد او بغداد ا سم رافديني قديم من التراث اللغوي الاكدي في بلاد الرافدين، وليس هناك اي مجال للاخذ بغير الاراء والتخريجات التي مرّت بنا، كما يؤكد المؤرخ سامي سعيد الاحمد ، ويعني ذلك ان اسم بغداد كان معروفا من قبل بصيغة بكدادو او بكدادا منذ ما يقارب الفي سنة قبل مجيء الاسلام. وهكذا ظل الاسم القديم حيا في تلك المنطقة حتى قيام الجيوش الاسلامية بالاستيلاء على العراق وطرد الفرس في عامي 633 - 634 م فوجدت موضعا او قرية تسمى سوق بغداد ، كما يروي البلاذري قائلا:
"وسار خالد بن الوليد الى الانبار (فيروز- شابور) فتحصّن اهلها، ثم اتاه من دلّه على (سوق بغداد)، وهي السوق العتيق الذي كان عند قرن الصراة، فبعث خالد القائد المثنى بن حارثة فأغار عليه، فملأ المسلمون ايديهم من الصفراء والبيضاء وما خفّ حمله من المتاع" "3" . ويؤيد ذلك ما جاء في احدى المصادر السريانية وعلى لسان سعيد بن البطريق ان بليدة بغداد كانت موجودة على ضفة نهر الصراة .
وهناك موضع اخر ،كان يقع قرب قرية سوق بغداد ، كان يعرف بكرخا او كرخة يقع غرب بغداد المدورة، وقد سمى السريان كثيرا من المدن والمواضع بكرخة وهو لفظ سرياني مصحف من اليونانية فكان من تسمياتهم لمدينة خاراسين "المحمرة" في مملكة ميشان ، هو (كرخا او كرخة) ،كما بنيت مدينة جديدة في العصر الساساني في منطقة ميشان سميت كرخ -ليدان وكذلك اطلقوا على مدينة ارابخا او عرفا التي بناها السلوقيون اسم كرخ - دبيث سلوخ والتي سميت فيما بعد كركوك.
اذن كانت بغداد المدورة قد بنيت وسط مجتمع مسيحي( سرياني ) حيث كانوا يسكنون في منطقة الكرخ . و ان ما حول بغداد كانت منطقة زراعية يلتقي فيها جدولان ينسابان من دجلة هما نهر ملكا ونهر عيسى في دجلة قرب بغداد. كما ان هنالك دلائل مادية وشواهد تاريخية اكيدة، تشير الى قيام اديرة عديدة وقرى بجوار بغداد المدورة ، كانت قائمة قبل بغداد المدورة مثل كلواذا وقطربل وبادرايا و "دير زندورد" الشهير ببساتين الفاكهة والاعناب التي كان معظم سكانها من المسيحيين بدليل ان اسمائها السريانية واضحة : "وكان الربض الواسع الممتد من باب الكوفة الى خارج الاسوار يعرف بالكرخ. وكانت الكرخ محلة التجار لان المنصور حرم البيع والشراء داخل اسوار مدينته وقد اخذت هذه المحلة اسمها من قرية كانت هناك قبل الاسلام" "5".
وقام الجاثليق سبر يشوع الثاني بعد اجتياح مدرسة نصيبين بفترة ، بتأسيس مدرسة عليا في بغداد عام 832 ،وكان قد ترأس ابزود ميخائيل مدرسة بغداد في عهد الجاثليق سرجيس في الاعوام (860-862 ) كما ذكر في المعجم السرياني ، المطبوع ببغداد (ص39) .
وكان هناك مرقد في منطقة الكرخ يسمى(مرقد السيدة مريم العذراء) ارادت مديرية الاثار العامة ان تستكشف الموقع وتعمرّه . فقامت بالحفر الاصولي والكشف عن الموقع للتاكد من حقيقة نسبه وذلك في 1984/5/2 ، وعند الحفر وجدت الهيئة رخامة وعند قلبها ظهر عليها صورة اسد منحوت بنحت بارز وفي رقبة الاسد سلسلة وعلى ظهره طائر جامح بهيئة نسر او صقر، وان اسفل لوح الرخام كان بهيئة نصف عقد مدبب. وتبين ان القبر مشيد بشكل صندوق من الاجر، وتم النزول في الحفر الى عمق مترين ونصف المتر عن مستوى ارض القبر، فظهر طبقة من التراب النظيف ثم ظهرت الجمجمة وتحتها آجرة وباقي عظام الصدر والمنكبين، وبعدئذ تم تصوير العظمي وقد صنع للرفاة صندوق من الخشب للمحافظة على بقايا الرفاة وعند الحفر لانزال الصندوق عثر على قطعة ثانية من الرخام الاسود مطعمة بالرخام الابيض عليها زخارف هندسية وهي قطعة فنية يعود تاريخها الى القرن الثاني او الثالث للميلاد "6" وهذا الاكتشاف يدلل على حقيقتين الاولى ان قرية بغداد كانت مأهولة في الاقل منذ القرن الثاني للميلاد، والحقيقة الثانية تؤكد ان المسيحية وصلت في وقت مبكر الى العراق وذلك على يد مار ادي او مار ماري المدفون في بلدة دير قني الزائلة قرب العزيزية.
اختار المهندسون العراقيون شكلا مدورا لمدينة بغداد، وهو ليس غريباً عليهم، فقد بنى اجدادهم مدينة اوروك مدورة ، وبنى احفادهم من الاراميين والعرب مدينة حطرا "الحضر" كذلك واضافوا اليها بدلا من السور سورين . ونجد في المدن الرافدينية المدورة ان المعبد الرئيسي يقع في قلب المدينة حيث جميع السكان يصلون اليه بصورة متساوية كما انه ابعد نقطة عن الاسوار وكذلك كانت بغداد المدورة بنيت على نفس الفكرة ، فان قصر المنصور ذي البوابات الذهبية والجامع الكبير ، كانا قلب المدينة النابض . كان موقع بغداد القديمة ،هو مايسمى اليوم بالكرخ اي في الجانب الشرقي من دجلة ، وكانت مساحتها تبلغ حوالي (16 كم مربع ) ونصف قطرها (2640 م) فقط وهي حاليا لاتساوي مساحة محلة او حي من احياء بغداد الحالية . اشار الى بنائها الخليفة العباسي الثاني، ابو جعفر المنصور، فبنيت مسورة ، خلال اربع سنوات (762-766 م) . لعل اول من نقب عنها الاثاري الالماني أرنست هرزفيلد ، في اواخر الثلاثينات من القرن الماضي .
وهناك تسميات اخرى اطلقت على بغداد العباسية منها (الزوراء) نسبة لازورار نهر دجلة وانعطافه نحو الغرب. وسميت ايضا مدينة المنصور أو بالمنصورية نسبة الى مؤسسها المنصور . كما سميت (بمدينة السلام) او دار السلام: وقد ورد هذا الاسم ككنية لها في الكثير من المراسلات الرسمية وايضا على العملات التي سكّت في بغداد ، واحيانا كانت تسمى (الروحاء ). واشتهرت بغداد العتيقة بعلمها وادبها وباكاديميتها بيت الحكمة البغدادي (بين حوالي 800- حوالي900م ) ، واصبحت اكثر العواصم انفتاحا في العالم في عهد الخليفة محمد المأمون (813-832 م) كما وصل الفكر العربي الى ذروته في تلك الفترة خاصة عند ظهور المعتزلة واخوان الصفا في البصرة ،بالاضافة الى نشاط بيت الحكمة البغدادي في التاليف والترجمة . (7)
المصادر
"1" غنيمة، يوسف رزق الله. مجلة العرب "1926 - 1927" ص 82
"2" مهدي، علي محمد. التطور الحضري لمنطقة بغداد قديما. بغداد: امانة بغداد، 1986 "ص 7-8"
"3" الاحمد , سامي سعيد "بغداد في عصورها الاولى" جريدة الثورة البغدادية.في 14/8/1986 ص 7
"4" البلاذري، احمد بن يحيى "ت 892" كتاب فتوح البلدان، طبعة دي خويه ليدن، 1866 "ص245"
"5" فرنسيس، بشير. بغداد: تاريخها واثارها. بغداد: مديرية الاثار العامة، 1959 "ص8"
"6" صالح، قحطان رشيد. الكشاف الاثري في العراق. بغداد: المؤسسة العامة للاثار، 1987 "ص200"
7-Kazanchi, Fouad Yousif. Baghdad, The City of Peace: Its Heritage and Modern Development
1184 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع