د. ضرغام الدباغ
جورج فريدمان (George Fridman) : من أبرز علماء السياسة الأمريكيين، مولود في بودابست / هنغاريا عام 1949 (الأمريكي فيما بعد)، التجأت عائلته إلى الولايات المتحدة عام 1950 بعد نجاتهم من الهولوكوست النازي، درس في نيويورك، ثم أكمل دراسته الجامعية في جامعة كورنيل عام 1976، ومارس التدريس الجامعي كأستاذ في جامعة ديكنسون في ولاية بنسلفانيا، وفي هذه المرحلة أيضاً ساهم بتدريب قادة القوات الأمريكية، ومكتب نت التقييمات(Office of Net Assessment)، وشكل مركز التقني والكلية الحربية الامريكية، جامعة الدفاع الوطني ومؤسسة راند (Rand Corporation) في مسائل الأمن والدفاع الوطني.
وفي عام 1996 أسس فريدمان معهده الشهير (Inteligence Corpotion) في ستراتفورد ـ أوستن / تكساس، ويختص المعهد بشؤون الأمن، والجيوبوليتيك (Giopolitics) وفي علم التنبوء الاستراتيجي (Strategic forecasting) هو علم حديث في إطار ما يطلق عليه بالدراسات المستقبلية. وأثارت أفكاره وآراؤه الاهتمام الواسع، حتى غدا من المؤثرين في تكوين الرأي السياسي الأمريكي الذي يعتمد بدرجة على أفكار العلماء والاختصاصيين، ونشر العديد من الأعمال العلمية، وبعضها كان مثار الاهتمام في العالم، ومنها تنبؤات سياسية مثيرة، سنستعرض بعض منها بأختصار، مع إجراء تحليل مقتضب لأرائه تلك.
والأسم الرسمي للمركز الذي يديره فريدمان هو (Strategic Forecasting, Inc) لكن الأسم الأكثر شيوعاً هو ستراتفور (STRATFOR: هو مركز دراسات إستراتيجي وأمني أميركي، يعد أحد أهمّ المؤسسات (الخاصة) The Private CIA)) التي تعنى بقطاع الاستخبارات، ويسهل عبر هذا المركز والصفة العلمية طبيعة عمله ألتجسسي، ويعتبره البعض الوجه العلني المكشوف للمخابرات الأمريكية (CIA) للصحافة ولمعاهد البحث العلمي بما يجعلها ذات قابلية مرنة في التعامل مع المؤسسات أو الشخصيات.
تأسس مركز ستراتفور رسمياً في عام 1996 في أوستن / تكساس. وجورج فريدمان هو الرئيس التنفيذي للشركة / المركز. وقد تعمد أن لا يكون مقره في العاصمة الأمريكية واشنطن، بل في مدينة في منأى عن المشاحنات السياسية والمحاور، وتطلق عليه الصحافة الأمريكية تسهيلاً وترويجاً لنشاطها، اسم "وكالة المخابرات المركزية في الظل " أو المحاربون في الظل (re Shadow WoriThe) ويتألف معظم فريق عمل مركز ستراتفور من ضباط وموظفون سابقون في الاستخبارات الأمريكية. ومن علماء السياسة والاقتصاديين والخبراء الأمنيين الذين لديهم "مخبرين / وكلاء" في كافة أرجاء العالم ويقيم المركز بشخصيته العلمية / البحثية، مجموعة متنوعة من الصلات والمصادر التي يمكن الوصول إليها
وقد تعرض المركز لاختراق أمني من ويكليكس (وقد يكون هذا الخبر تسريب متعمد) نشر على أثرها أعداد ضخمة من المعلومات.
ومن أعمال فريدمان المهمة تلك التي تنبأ فيها بصعود مكانة تركيا الإقليمية، إلى مستويات استراتيجية عالمية، كتابه "الحرب المقبلة مع اليابان" (The Ciming war with Japan) ويتضمن افتراض يقترب فيه من العالم الأمريكي فرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) في عمله الشهير (نهاية التاريخ) (The end of History) في إطار صراعات افتراضية للولايات المتحدة بعد سقوط الشيوعية، مع منافس جديد(الإسلام، الكونفوشيوسية، صراعات من أقطاب رأسمالية) للهيمنة على العالم. حيث يقيم فريدمان تواصل صعود أهمية تركيا الاستراتيجية إلى مستوى عالمي، من خلال تصاعد في التفوق السياسي والعسكري، من أولى مستحقاته تحالفات عالمية، بما في ذلك تحالف افتراضي بين تركيا واليابان، ربما على خلفية افتراضية أن اليابان ليست في وارد اعتبار الصراعات الدينية ذات أهمية استراتيجية، وربما تتشابه معها الصين والهند وروسيا (بدرجة ما)، فيما ستكون بولونيا في هذه الحقبة الحليف الأهم للولايات المتحدة في أوربا (مع بقاء بريطانيا الحليف المضمون، ولكن دون إغفال مشكلات بريطانيا، وموقفها من أوربا)، ولفريدمان نظرة خاصة لألمانيا، إذ يتنبأ أن تفقد ألمانيا أهميتها كقوة عالمية، بصعود مراكز صناعية عديدة في أوربا والعالم، كما لا يستبعد فريدمان نشوب صراعات سياسي / مسلحة قد تبلغ درجة الحرب.
ولفريدمان كتاب آخر أثار اهتماما، هو: حروب الولايات المتحدة الأمريكية السرية (American,s Secret war) وقد صدر عام 2005 وهو عمل يمتزج فيه بين الافتراض وما يدور في واقع الحال بصيغ شتى، وهي حروب سرية تدير فيه الولايات المتحدة الصراعات في شتى أرجاء العالم ضد أعدائها، وهي حروب تدور في شتى أرجاء العالم بالوكالة حيناً، وبواسطة تشكيلات سرية، بأسماء وتحت شعارات قد لا تجلب الشبهة للولايات المتحدة (حركات سياسية، فعاليات تتم ضمن إطار منظمات دولية، كصندوق النقد الدولي " IMF " والبنك الدولي للتنمية والإعمار " IBRD " أو حتى ضمن منظمات استخبارية لدول وجيوش حليفة، بما في ذلك حلف الناتو. وجيشها السري (الجيش السري الذي يدعى Gladio)، المكلف بإعداد الانقلابات وتزوير نتائج الانتخابات، والاغتيالات، ولعب أدوار المعارضة، وكل ما له بالغش والتدليس السياسي. ولهذه المنظمة / الجيش فروعها في جميع بلدان الناتو وغير الناتو أيضاً(بأسماء مختلفة)، إضافة إلى الهيمنة على منظمات إرهابية بشتى الوسائل وتسخيرها للعمل ضمن استراتيجيتها، وهي منظمة استخبارية عناصرها مدربة بشكل متقدم لممارسة أنشطة عالية الدقة، والقيادة العامة لهذه التشكيلات هي من تدير العمل وتضع الأولويات وتقسم الأعمال .
وقد تسربت عن هذه الشبكة معلومات قليلة خلال العقود الماضية، فتم ذكرها عام 1976 في تقرير لجنة تحقيقات برلمانية أمريكية حول السي أي آي ترأسها السناتور فرانك شورش ووفق تقريره فإن الشبكة تتكون من ثلاث ملايين متعاون عام 1952، وميزانية سنوية مقدرة بمائتي مليون دولار. ثم نشرت عنها عام 1978 معلومات كشف عنها في سيرته الذاتية وليم كولبي أحد الذين ترأسوا الشبكة ذات يوم. ثم وفي عام 1982 نشر العقيد ألفريد بادوك قائد الفرقة الرابعة للعمل النفسي معلومات أخرى في تحقيق في السي أي آي. أما جون لوفتوس فكشف عن تشغيل ضباط نازيين في غلاديو، والشبكة التي كانت تعرف في إيطاليا باسم "غلاديو" عرفت بأسماء أخرى فهي في النمسا "شبكة شوير"، وفي بلجيكا الدنمرك أسبانيا فرنسا "وردة الرياح" وفي اليونان "تواسون روج" .
.
واليوم قد غدا الآن واضحاً في أوربا، أن تلك أن أعمالاً إرهابية كبيرة، إنما جرى التخطيط لها وتنفيذها من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) والموساد، وذلك لكي تضع العالم العربي في موضع الاتهام وإقناع القوى الغربية بالقيام أن تلعب أدوارها في العراق وأفغانستان.
هذه العمليات تمثلت في تشكيل منظمات سرية، لها قوات سرية في الدول الأوروبية مولت عملياتها المخابرات المركزية الامريكية. مهمة هذه القوات كانت تدبير وشن عمليات إرهابية ضد المدنيين في الدول الأوروبية ونسبتها إلى القوى اليسارية الأوروبية. وفي إطار هذه العملية قامت هذه القوات السرية بالفعل بشن مئات العمليات الإرهابية في البرتغال وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وباقي الدول الأوروبية. شملت هذه العملية أيضا تمويل إرهابيين من اليمينيين المعادين للشيوعية وتزويدهم بالمتفجرات لشن العمليات الإرهابية. الفكرة الجوهرية وراء (عملية غلاديو) هذه تمثلت في أنه إذا لم توجد عمليات إرهابية يمكن الاحتجاج بها، فإنه يجب خلق وتدبير هذه العمليات. أحد هؤلاء الذين شاركوا في هذه العملية قال: " كان علينا أن نهاجم المدنيين من الأبرياء، نساء وأطفالا والذين لا علاقة لهم بلعبة السياسة. والهدف هو إجبار هؤلاء على أن يلجأوا إلى الدولة طلبا للحماية في مواجهة الإرهاب المزعوم للقوى اليسارية " .
كشف الصحفي الأمريكي سيمون هيرش النقاب عما أطلق عليه (خيار السلفادور) الذي أقرته وبدأت تنفيذه الإدارة الأمريكية في العراق وفي دول أخرى. وهو الخيار الذي يقوم على تشكيل فرق خاصة تنفذ عمليات اغتيالات وتجسس وأي عمليات إرهابية أخرى في الدول التي تعتبرها أمريكا معادية، وهذه الفرق تعمل خارج أي رقابة من الكونجرس الأمريكي. وفي أواخر الشهر الماضي، صدر كتاب في زيوريخ للدكتور دانييل جانسر من معهد الدراسات الأمنية، يكشف فيه النقاب عن أن (خيار السلفادور) هذا ليس أمرا جديدا، بل انه امتداد لأسلوب سبق وانتهجته أمريكا والدول الأوروبية. كشف الكتاب النقاب عما اسمي العملية غلاديو(Operation Gladio) التي نفذتها أمريكا والحكومات الأوروبية في فترة الحرب الباردة والصراع مع الاتحاد السوفيتي والقوى الاشتراكية الأوروبية.
وعلى سبيل المثال وكتحديث لأساليبها : شاع أستخدام قوات مرتزقة ضمن منظمة بلاك وتر " Blackwater " التي اشتهرت بأدوارها الإرهابية " المشرعنة " وتعمل كقوة عسكرية يمكن استئجارها والتعاقد معها للقيام بما في ذلك أعمال غير قانونية، منها الاغتيالات، والاختطاف، والتخريب، والعمليات السريعة، وعن هذه المنظمة لا تتوفر معلومات إلا القليل عنها وتعرف في الموسوعات السياسية بأنها : "مؤسسة أمريكية " أو بأسم " أكاديمية " للتدريب الخاص والأعمال العسكرية والعصابات، (Private American military company and security consulting firm)). وقد غيرت هذه المنظمة أسمها في غضون بضعة سنوات ثلاث مرات، كانت المرة الأولى حولت إلى أسم (Xe Services) عام 2009، والمرة الثانية إلى (Acadimi) عام 2011، ولكن أسمها الأشهر بلاك وتر ظل يلاحقها.
وفي عالم اليوم الذي يعج بما لا حصر له من أجهزة الإعلام، لا نجد إلا القليل جداً عن هذه المنظمة السرية / السوداء كأسمها (Blackwater)، المسؤولة عن عدد لا يحصى من الجرائم وأعمال القتل والسرقة والاغتصاب (في العراق وأفغانستان)، فهي حرب تدور بمسميات وأشكال، وبدون إعلان يرافقها ولا مارشات، أو بدلات مزركشة، فهي قوات كبيرة تحترف القتل والتدمير فحسب. ولا نعتقد أن فريدمان في كتابته عن الحروب السرية يريد الأضرار بالخطط الأمريكية، بقدر ما يهدف من بين ما يهدف إلى تهيئة مسارح العمليات لهذه الفعاليات.
(لاحظ رجاء في ختام المقال ما نشرناه عام 2010 عن بلاك وتر/ الكاتب)
ولعل العمل الأهم الذي قام به فريدمان(بتقديرنا) هو كتابة: (القرن المقبل، النظام العالمي الجديد(The next 100 years) الذي أصدره عام 2009 وصدر باللغة الألمانية تحت عنوان: المئة عام المقبلة والنظام العالمي الجديد (Die nächsten hundert Jahre: Die Weltordnung der Zukunft ).
المثير في الكتاب الذي صدر عام 2010، ولم يترجم للعربية لحد الآن، والذي يستحق الملاحظة، هو استطلاع الأفق الذي يتطلع إليه صناع الاستراتيجيون والمؤثرون على الرأي العام والوسط السياسي الأمريكي وبالتالي على القرار الأمريكي. وبعض من توقعاته المؤسسة بالطبع على معطيات وإحصاءات، ولكن نتائج تقديراته لا تخلو من الغرابة، ولنستعرض بعضاً من هذه الآراء، لنقيم بالتالي تحلينا الخاص عليها.
موجز لآراء فريدمان أن :
1. القرن القادم سيبقى قرناً أمريكياً، وأن التفوق الأمريكي سيتواصل.
2. يقلل من أهمية الصين وروسيا على مدى القرن الحالي على الأقل.، إذ يعتقد الصين أن الموقع الجغرافي البعيد للصين يقلل من أهميتها الاستراتيجية، وضعف تعانيه في قدراتها البحرية.
3. ستبوء بالفشل محاولات الروس استعادة دور الاتحاد السوفيتي وسيستنزف هذا المجهود من قوى روسيا.
4. أن قوى أخرى واعدة سيكون لها أهمية : تركيا، اليابان، بولونيا.
5. أن فشل المساعي الروسية سينجم عنها تصاعد مقابل للأتراك، ويتوقع توسعاً تركياً في القفقاس، وسيعاني الروس من سيطرة الأتراك على مضيق البسفور.
6. الضعف الروسي المقبل سيقابله توسع ياباني سعياً صوب المواد الخام في آسيا، على حساب النفوذ الروسي.
7. في أوربا ستبرز قوة تركيا وبولونيا.
8. المنطقة العربية ستعاني من الفوضى الشاملة (توقع ذلك قبل الربيع العربي)، ولا يستبعد أن يجذب مستنقعها بعض الطامعين ليغوصوا فيها، وهو لا يستبعد أن تكون بعض الحركات الجهادية من صنع الولايات المتحدة بصورة إن مباشرة أو غير مباشرة، المهم أن تؤدي الغرض النهائي، وهو مزيد من التمزق والاقتتال، فالمهم أن يبدو الحل الإسلامي سيئاً، ومثيراً للمشاكل، وأن لا ينجح الخيار الإسلامي في نهاية المطاف.
9. يرشح فريدمان ثلاث قوى في المشرق العربي، هي مصر وتركيا وإيران.
10. طالما أن مصر مستبعدة حالياً بسبب ظروفها المعروفة، وإيران بسبب ضعفها الاقتصادي، وعزلتها الجيوسياسية، كما أنها مكروهة في العالم العربي، فلا يبق هناك سوى أحتمال تصاعد القوة التركية وزعامة المنطقة.
11. سيستفيد الأتراك من الظروف الموضوعية التي تحيط بهم، ويستثمرون قواهم الذاتية الاقتصادية والسياسية والعسكرية، مما يجعلهم القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأهم في المنطقة، إضافة إلى موقعهم الجيوسياسي المهم، لذلك ستصبح زعامتهم للمنطقة واقعية ومستحقة بجدارة.
12. سيضاف عامل جديد ومهم للقوة التركية، يتمثل بفشل المساعي الروسية استعادة دور الاتحاد السوفيتي، وسيراوح الوضع الروسي في حالة اللاحرب واللاسلم، وسيؤدي ذلك إلى تكاثف العمل والمكتسبات التركية في القوقاز وأواسط آسيا، مما يمكنها أن تلعب دور القوة الدولية.
13. إذا نجحت تركيا في عرض صورة جديدة للعالم الإسلامي (دولة ديمقراطية / اقتصاد ناجح)، في إطار ن مبادئ : عدم التدخل بالشؤون الداخلية، والمنافع المتبادلة، تعزز بها دورها القيادي.
14. يتوقع فريدمان علاقات تركية / يابانية مزدهرة، ويتوقع قبولاً أمريكياً لتوسع هذه العلاقة، ولكن أتساع العلاقات إلى آفاق غير محددة ينطوي على أخطار في الهيمنة والسيطرة في منطقة الشرق الأدنى.
15. في حال بلوغ النفوذ الياباني والتركي حدوداً خطرة، ستتحرك الولايات المتحدة لمواجهته.
16. يتوقع فريدمان أن تكون الحرب بين أميركا واليابان وتركيا ذروة ونهاية لتوترات والهواجس.
تقديرنا :
1. يؤسس فريدمان أفكاره بالاستناد إلى إبراز أهم التطورات في الماضي مع أهم الاتجاهات من الحاضر إلى المستقبل
2. تجاهل فريدمان لأي دور إسرائيلي في المنطقة، لا يعقل أن يكون سهواً، إما فريدمان يرى أن إسرائيل كيان لا مستقبل استراتيجي له، أو أنها تجاهل متعمد وهو غير معقول.
3. هناك مستجدات حدثت بعد تأليفه الكتاب، إما أنها تخالف جزئياً تقديراته، أو أنها متممات لمستحقات الأحداث، والعبرة في النهاية.
4. ليس من الضرورة أن تتمكن القوة العظمى من فرض إرادتها في مطلق الأحول، فالتاريخ ينبأنا بفشل كثير من المشاريع برغم تكريس قوة كبرى ورائها.
5. يلاحظ أيضا، غياب أي دور مهم مستقبلي للبرازيل والهند، أو استراليا.
6. نعتقد أن التقليل من أهمية الصين المستقبلية غير مبررة بشكل كاف، والتركيز على ضعف قوتها البحرية، (ومع ذلك فالصين ترمم نقاط ضعفها هذه بذكاء)، وصناعة طائرات في الصين تسير قدماً بخطى كبيرة، كما أنها (الصين) تطرح برامج مواصلات برية طموحة مع أقطار آسيا، ومع أوربا عبر آسيا، في استعادة لطريق الحرير. بالاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة (القطارات فائقة السرعة 500 كم / ساعة). لاحظ الخارطة، وبصفة عامة لم تعد المسافات بتلك الأهمية الحاسمة كما في العصور السالفة، وليست مسألة ذات بال في عالم اليوم والأكثر في الغد.
7. التفوق البحري الأمريكي عامل مهم جداً في السيطرة الاستراتيجية الأمريكية وهي الدولة المطلة على محيطين، الأطلسي والباسفيك ويمثل شعار(من يسيطر على محيطات العالم كله، سوف يهيمن على التجارة العالمية في المستقبل، وهذا لا يزال أساس الازدهار والأمن في البلاد) فقرة أساسية يؤكد عليه تقليدياً الفكر الاستراتيجي الأمريكي (لاحظ أعمال المفكر الاستراتيجي الأمريكي الفرد ماهان / Alfred Mahan)، تمتلك الولايات المتحدة حالياً، 67 حاملة طائرات، 12 حاملة طائرات عاملة في الخدمة، و55 حاملة في الاحتياط، وقوة بحرية وجوية هائلة، وقدرة على التدخل خلال ساعات في أي بقعة في العالم، بينما لدى الصين وروسيا، حاملتان لكل منهما، حاملة واحدة فقط في الخدمة، ومثلها في الاحتياط. ولكن الصين تعمل على تطور قدراتها البحرية بخطط مهمة، إلا أنها ما زالت بعيدة عن منافسة الولايات المتحدة..
8. تشير تقديراتنا إلى وقائع حديثة، أن تطورات الموقف في سوريا، والقوقاز، وتدهور العلاقة التركية / الأمريكية ـ الغربية، إلى احتمال مرجح في إعادة ترميم العلاقات التركية / الروسية وتحسينها، وهناك خطوات ملموسة، وعلى الأرجح أن يكون موقف القوى اليمينية في أوربا، معاد لأنظمام تركيا إلى الأتحاد الأوربي، بينما سترى القوى الديمقراطية الأوربية في تركيا (من بين فقرات أخرى) فرصة لتعديل ميزان القوى .
9. بتقديرنا أن الانقلاب العسكري الفاشل، وتشير أحداثه إلى ضلوع مؤكد للولايات المتحدة والغرب فيه(وإن كانت تركيا الرسمية لا تعلن ما بحوزتها من دلائل حفاظاً على ما تبقى من جسور العلاقة)، سيقود إلى أحد الاحتمالين:
أ. إما إلى تدهور متزايد في العلاقات التركية الأمريكية ـ الغربية، وهذا سيقود بالحتم إلى أزدهار علاقات تركيا مع الصين وروسيا واليابان.
ب. أو أن الغرب سيدرك فداحة الخطأ الذي أرتكبه، أو أن أرتكابهم خطأ الانقلاب الفاشل كانت مجازفة لا تليق بقوى عظمى، وسيحاولون إصلاح خطأهم، وعدم التفريط بحليف تاريخي مهم، في منطقة خطيرة الأهمية والتطورات، مقابل أوهام. وستكسب تركيا من مزايا المصالحة، وهو الأحتمال المرجح.
10. يعتقد فريدمان أن دوراً يابانياً مرغوب أمريكياً شرط أن يكون معتدلاً، للتوسع في شرق آسيا على حساب الروس والصين، ولكن ذلك ليس مقدر له إلا في النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين.
11. يتجاهل فريدمان تقريباً (بغير حق) أوربا ككيان سياسي / اقتصادي موحد، ولا يعول عليه كثيراً، ربما بسبب التنافس شديد بين الأقطار الأوربية، من جهة، والمشكلات الديمغرافية التي تعصف بأوربا من جهة أخرى، وصعوبة التوصل إلى قرارات حاسمة في الاتحاد الأوربي، دون أن ننسى أن الاتحاد الأوربي هو كيان سياسي جديد (نسبيا)، وهناك قوى كبيرة تتدخل في خطى سيره (الولايات المتحدة وروسيا).
12. يشير بقلق إلى علاقات دول أوربا الشرقية بروسيا من خلال المصالح الجيوسياسية المشتركة، في المساحة الممتدة بين البحر الأسود وبحر البلطيق.
13. يرى فريدمان أن على تركيا التخلي عن طموحاتها الأوربية، وبذل الجهد والمساعي في الشرق، فالفرص مواتية هناك أكثر من أوربا، ويرى أن لها دوراً مقبلاً في غاية الأهمية (هذه الآراء قبل الانقلاب الفاشل) وهذه رؤية أمريكية واضحة لدور وموقع تركيا في الاستراتيجية الأمريكية.
14. يرى فريدمان أن تعاوناً وثيقاً بين الولايات المتحدة وبولونيا وأمامها نموذج التطور النرويجي بعد اكتشاف كميات كبيرة من الغاز الصخري فيها، كفيل بأن يخرجها (بولونيا) من ظل روسيا وألمانيا ويجعل منها دولة قوية مركزية في شرق أوربا تتمتع بدور قيادي في تلك المنطقة.
15. بعد أن يتخطى الاقتصاد التركي حاجز الترليون في الدخل القومي (وهو متوقع) سيتغير مكانتها السياسية بدرجة مهمة، وسيصبح تجاهلها أمراً لا يليق لبأي استراتيجي.
16. بتقديرنا أن هناك تغيرات مهمة ستحدث في السياسة الأوربي / الغربية في أعقاب الأتقلاب العسكري الفاشل، والمهم هو كيف ستستقر عليه أمور الدولة التركية. والقيادات التركية ذكية وتعرف كيف تتعامل مع هذه المعطيات بما يعود عليها بالمنفعة.
---------------
بلاك وتر جيش أمريكي
د. ضرغام الدباغ
(نشر هذا المقال أثر مقابلة تلفازية عام 2010)
في إلقاء نظرة سريعة على استراتيجية الحرب في المرحلة الحالية للإمبريالية العالمية سندرك فيها مهام شركة قتال المرتزقة الشهيرة بأسم بلاك وتر. وبادئ ذي بدء، نحن نعلم أن منح الحروب التي تخوضها القوى الاستعمارية طابع المحلية الإقليمية هي بدعة ليست حديثة تماماً، إذ أن شيوع مصطلح " البلقنة " (Balkanisation) في السياسة، هي إشارة إلى الحروب البلقانية التي كانت تدور في القرن التاسع عشر على أراضي دول البلقان وبين شعوبها بعضها ضد بعض، خدمة لمصالح الدول الاستعمارية وتعبيراً عنها، ومثل هذه الاتجاهات برزت أيضاً في الحرب الفيثنامية، عندما أشهرت الولايات المتحدة بموجب مبدأ نيكسون (Nixon Doctrine) شعار فتنمة الحرب({Vitnamisation) أبان الحرب الفيثنامية، كما شاع في العلوم السياسية مصطلح (حروب بالوكالة) (Deputy Wars)، وهي جميعها تدور عندما تعجز الدول الاستعمارية العظمى من حسم الموقف بمفردها إما لصعوبات وعواقب سياسية / عسكرية، أو لارتفاع تكاليف الحروب العدوانية التوسعية.
وشاع أستخدم المرتزقة أيضاً في الحروب والصراعات المسلحة الأفريقية منذ الستينات أيضاً وما بعدها، فقاتل مرتزقة محترفون في الكونغو أبان مرحلة استقلالها، وبعدها في التدخل لتغيير أنظمة كما حدث في جزر القمر وأماكن أخرى، حيث أشتهر دور المرتزقة وبرز منهم القائد المرتزق بوب دينار الفرنسي الجنسية.
وبذلك برز بشكل واضح ملامح وأبعاد تجارة غير شريفة، منظمات وشركات سرية أو شبه علنية تجند المقاتلين المرتزقة لتزج بهم في مناطق التدخل والحروب، بتنسيق وتوجيه مخابرات الدول الاستعمارية، وأجهزتها السياسية.
وفي سياق ما يطلق عليه في المرحلة الحالية في الولايات المتحدة " صناعة الأمن " في إطار ما يسمى بالحرب على الإرهاب. ولكن أيضاً للأمر طابعه المالي كصفقات تجارية مربحة, لها إيراداتها المالية, لاسيما بعد أن ارتبطت هذه التجارة بالحرب على الإرهاب، وتعمل شركات المرتزقة في مهنة تجارة الحروب كالشركات المتعددة الجنسية، لا تعترف بالحدود الدولية، ساهم في تأسيسها: أجهزة المخابرات وشركات صناعة الأسلحة والمعدات الفنية, ووكالات المعلومات والفضاء.. فجندت المرتزقة من كافة أرجاء العالم, وأطلق على العملية " الحرب العالمية على الإرهاب " ، تأججت في عهد المحافظين الجدد في أمريكا, خصوصا أن الشركات الكبرى باتت تمتلك النفوذ والهيمنة على مجريات ومقدرات صنع السياسية العالمية, وأشتد عودها ونفوذها المالي والسياسي، حتى أصبحت من أحدى الأدوات إلى جانب صناع القرارات من قادة النظام العولمي الجديد.
وتمنح رواتب وتكاليف استخدام متدنية نسبياً لما يكلفه الجندي النظامي، وليست هناك تبعات مالية أو إدارية في حالة مقتله، بالإضافة إلى الميزة الرئيسية في استخدام المرتزقة، هي الخدمة والقتال والقيام بأعمال الحروب أو ما يشابهها بما لا يحمل المسؤولية القانونية الجزائية / الدولية لأي دولة ويعفيها من تبعات التدخل وآثاره.
وقد برزت أيضاً بين المصطلحات الأمريكية عبارة " جهات غير حكومية " ولا يقصد بها سوى شركات المرتزقة في عملية تم خلالها توجيه ضربة شديدة للقانون الدولي والشرعية الدولية، حيث لا يوجد في هذه الحالة دولة يمكن توجيه تهمة التدخل المسلح ضدها وفق قواعد القانون الدولي، فاخترقت الحدود السياسية للدول, وأصبح العالم ميدان حر وسوق بلا قيود لشركات المرتزقة والمعلومات والالكترونيات والسلاح, في إطار ما يطلق عليه: الأمن ومحاربة الإرهاب.
وكان دور مرتزقة بلاك ووتر في العراق مشهود له بما أتصف مقاتلوه من شراسة ووحشية، وتجاهل لكل قواعد الحروب وعقائد الجندية، من قتل دون تمييز لمقاتلين ومدنيين عزل، أطفال ونساء وشيوخ واقترافهم لمجازر تعد من جرائم الإبادة، قدمت لها الولايات المتحدة الحماية والدعم والإسناد القانوني، من خلال إجراءات شكلية تبعد عنها أي مسؤولية جزائية حقيقية.
وتشير الأنباء والمعلومات المعلنة، إلى زج مرتزقة بلاك وتر في حرب أفغانستان... وهي علامة تدل على انهيار تبدو ملامحه ولا يبدو بعيداً، مؤشراتها بداية لصيف ساخن في أفغانستان، فهو يدل إما أن الولايات المتحدة عاجزة على إدامة الحرب، بعد تعددت نقاط الضعف في السياسة الأمريكية، داخلياً وخارجياً، أو أن التحالف الدولي قد أصابه الوهن، أو ربما كلا الأمرين معاً، تدخل الحرب المعلنة في أفغانستان في مرحلة جديدة، هي حرب خارج إي إطار قانوني أو قواعد للحروب النظامية. فنحن أمام صيغة جديدة، حيث تقاتل شركات دولية دولاً وشعوب أخرى لقاء المال.
ويجرى إشراك المرتزقة في الأعمال الحربية, لا سيما بالعمليات الخاصة والاستخبارات والتحقيق والأسلحة المتطورة والحراسات والمهمات اللوجستية والإدارية والاتصالات وغيرها, واقتصار الجندي على القتال فقط, وهي فلسفة أدخلت تعديلات جوهرية على مهمات الجيوش المحترفة، ومبادئ عملها. وأصبح الحصول على الرواتب الكبيرة وجني الأرباح، عوض عن العقيدة العسكرية وشرف القتال من أجل الدفاع عن قيم عليا.
وفي مجال شركات القتال، تعد مجموعة شركات بلاك ووتر في طليعة الشركات في هذا المجال, يديرها ضابط في البحرية الأمريكية السابق "اريك برنس", وهو من دعاة استراتيجية التشدد الديني والحرب على الإسلام, ويترسخ اعتبارها من الأدوات الهامة في ما يسمى الحرب العالمية على الإرهاب. وقد اتسعت مهام بلاك وتر وتشعبت وفعالياتها, واكتسبت المزيد من النفوذ السياسي والمالي, لا سيما بين أوساط دوائر صنع واتخاذ القرار في واشنطن, وتصنف العقيدة العسكرية الأمريكية بلاك وتر باعتبارها جزءاً من في القدرة الأمريكية الشاملة بعد الجيش, البحرية, سلاح الجو.
وتدار الشركة من مقرها الضخم في نورث كارولينا (يبلغ مساحة الشركة سبعة آلاف فدان) وهي أوسع منشاة عسكرية خاصة بالعالم, تضم معسكرات ووسائل تدريب يتدرب فيها كل عام عشرات آلاف من رجال الأمن الاتحاديين والمحليين, وكذلك قوات من دول خارجية بعقود تدريب، تلك الدول والمؤسسات (الأمنية والاستخبارية) التي تلائم سياساتها وفعالياتها العلنية والسرية معايير السياسة الخارجية الأمريكية وفعالياتها عبر العالم، وتمتلك بلاك ووتر ألاف العناصر المدربة في مهمات خاصة، وقدرات تسليحية تلبي مستلزمات مهماتها بما في ذلك الطائرات المروحية، من بينها تلك المهمات التي لا تدخل بين مهام الجيوش النظامية، كالاغتيالات والتخريب، والعمل على إسقاط أنظمة، والعمل خارج إطار القوانين، وترويج المفاهيم الأمريكية.
وتتيح قراءة مبكرة وأولية لمستقبل استخدام شركات مقاتلة من جهة، ومستقبل تطور العلاقات الدولية من جهة أخرى، بالإضافة إلى تعاظم قوة الرأي العام في المجتمعات المتقدمة، إلا تزايد دور (شركات القتال) وهي خصخصة الجيوش بميزة إلغاء التبعات القانونية الجزائية والدولية، وليس بمستبعد أن يتطور عملها ويقود لمزيد من التبلورات في وضعها كشركة بمنحها مزيد من الشرعية، وتقديم الحماية لها، وتسليح بعتاد ثقيل، متطور تكنولوجياً، واستخدام واسع لقدرات فضائية.
ويرشح تصاعد أرقام البطالة، والأزمات الاجتماعية من أمراض نفسية، انتحار، الأفلام السينمائية التي تروج لثقافة القتل والعنف، وشيوع أمراض سعار القتل (Amok) إلى تصاعد أعداد المقبلين للتطوع في شركات القتل لإشباع هوس القتل بدون حساب، وخوض ميادين المجازفة والمغامرة، في بلدان وشعوب ينظر إليها نظرة دونية على أنها متخلفة ولا تستحق الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في إعادة نشر هذا المقال لم نحذف ولم نضيف أي كلمة .....!
1785 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع