كتابة - إيمان البستاني
بلغة ادبية صبرعليها كاتبها كثيراً كصبر ركوة القهوة يخرج علينا يحيى الشيخ بنص سردي محبك ليشكل عوالم تبيح لنا الولوج لطقوس مندائية كانت دوماً محظور علينا تقربّها و معرفتها
كل ما مخزون في الذاكرة من ماضي وطن هو صورة شارع النهر المحتضن لدجلة والمرصع بدكاكين تثير البهجة يقصدها العرسان لشراء المصوغات الذهبية و احتياجات عالمهم الجديد, كنا نحج اليه مرة او مرتين كل عام , هنا او هناك كان محل صائغ مندائي من الصابئة , هيئته تدل عليه لا يخلو وجه صاحبه من لحية رمادية و مصوغات فضية تفترش واجهة المحل الزجاجية , ما ان تدفع الباب الضيق حتى تجد نفسك في دكان اضيق تنقصه الاضاءة و يعلو التراب الطاولة التي تفصلك عن الصائغ الذي يمتهن الصمت ايضاً , كان يقال لنا هؤلاء هم اكفأ من يقرأ الطالع والنجوم ويكتب الطلسم , نظرة سريعة على محتويات المحل من فضة نصفها مصاغ لناس يعرفون ما يطلبون , كنا نترك هذا العالم السحري و نخرج خوفاً و جهلاً منه
اما ان يبيح لنا يحيى الشيخ دخول هذا العالم ونحن ابعد ما يكون عن الوطن نسكن قطب الكرة الارضية شمالاَ فهذا هو سحر يحيى الشيخ الذي يقبض على الاسرار والالوان والكلمات , يسحرنا امام لوحاته كما في لوحات اللباد بمحتوياتها الانيقة من الريش واللباد والكرافيك و يسحرنا مرة اخرى في لغته السردية في سيرة الرماد وساعة الحائط وبهجة الأفاعي ...
ويسحرنا النقاء في شعره حين يقول
إلهي ألم تقل لي :سلام عليك يوم تولد....
ها أنا منذ الأزل تنهشني ضواريك
تسحلني عربات شياطينك في ساحات المدن الملعونة
دمعة واحدة لم تذرف من أجلي .. أنا ابنك
الهي سكّن قلبي
ودعني أنام إلى الأبد
ولا توقظني
ولم ننفك من سحره هذه المرة بطلاسمه و بخوره , كل طلسم يغري القاريء بالعمل به لولا استحالة مواده...
الفنان التشكيلي البروفسور يحيى الشيخ من مواليد عام 1945 في قرية اللطلاطة التابعة لقلعة صالح في العمارة بمحافظة ميسان، وتأثر كثيرا بالبيئة التي نشأ فيها وسط الموروث الصابئي المندائي. أحب الرسم منذ الصغر وصقل موهبته الفنية بالدراسة الأكاديمية وتخرج في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1966
غادر العراق منتصف السبعينات حيث درس في يوغسلافيا السابقة وحصل على شهادة الماجستير عام 1970، وبعدها نال الدكتوراه من روسيا في 1984، ثم انتقل إلى سوريا، بعدها إلى ليبيا للعمل أكاديمياً في إحدى جامعاتها، ثم إلى عمّان مؤقتاً ومنها إلى النرويج حيث يقيم الان
هو ليس ابن العراق فقط، بل هو ابن جميع المدن التي عاش فيها
الارتحال عن "اللطلاطة" مغادرة للرحم الأول. والضاغط عليه دوماً، وإن لم يصرح به أحياناً " بيتنا في اللطلاطة لا يشبه بيتا آخر سكنته في حياتي ولا أي بيت دخلته، كما أنه لم يأت في أحلامي حتى هذه الساعة..." لولاه لما كان طفلاً , هذا ما اباحه لنا في سيرته ( سيرة الرماد)
لكنه في سيرة الرماد لم يبح لنا بأسرار السحر والطلاسم المندائية , جاء على ذكرها ليغري القارئ ويصطاد فضوله , هذا ما حصل و تركنا معلقين ننتظر ان يدلي بالمزيد لكنه اوخز الرغبة فينا و نفض الرماد عن باقي السيرة
في بهجة الأفاعي , يأخذ يحيى الشيخ بالقارئ من يده كما لو كانوا ذاهبين لمدرسة ويحكي له عن هذه العوالم المقفلة , يدلق كل الطلاسم حتى تحتار ماذا تختار لتصلح بها شرخ حياتك , يملاء المكان برائحة البخور , يتسلل لطقس ايروتيكي لا ينفع ان يكون طقس يومي بل هو محرم كدغل سري
فنتازية تشكيل الشخوص والازمنة هي لعبة يحيى الشيخ يجيدها في تشكيل مسرحي لاجواء الرواية , يغدق صفة المسخ الغريب على بطل روايته , بهذا التوصيف يعلق التشكيل في الذاكرة هو عقاب الراوي لبطل روايته و صفعة حقيقة لكل ما لا ينسجم مع قوانين الحياة
بطله له رأس بوجهين , وجه امامي وسيم وأخر خلفي دميم ....عقاب يحيى الشيخ لبطله جاء لخطيئة مولده و ساقها لكل ابنائه غير الشرعيين في بلدة العقم التي التجأت اليه ليحّولها الى طقس كرنفالي للخصب المحرم ...هذه التوليفة في رسم الشخصية هي ومضة ذكية من قراءة التاريخ , صاغها يحيى الشيخ ليتزن عنده بناء الرواية وهي معرفته بقصة ( ادوارد مورداك ) الذي كان يملك وجهين حقيقيين، احدهما في الجانب الأمامي مثل كل البشر وآخر في الجزء الخلفي
ولد إدوارد في القرن التاسع عشر من طبقة النبلاء الإنجليزية وهو الوريث الوحيد "لالندية الإنجليزية” (وهو لقب وراثي في المملكة المتحدة ) والذي يتشكل منه صفوف النبلاء البريطانيين
وهو أيضاً شاب موسيقي صاحب موهبة فذة وكان يتسم بالذكاء الحاد، لكنه انعزل عن الحياة المجتمعية عن الناس، ورفض السماح لأحد بزيارته حتى من أهله المقربين . يصف الطبيب الذي كان يشرف على علاجه بأن الوجه الخلفي هو رجل بشع, أما إدوارد فكان يقول إنه وجه شيطان
كان ذلك الوجه الإضافي في الجهة الخلفية من رأس إدوارد وجهاً ذكياً وطريفاً فقد كان الوجه يضحك عندما يبكي إدوارد، وتلاحق عينا هذا الوجه زوار إدوارد وتتحرك الشفتان دون أن تصدر أي صوت …فلم يكن بإمكان أحد سماع الصوت الذي يصدر عنه غير إدوارد الذي كان يقول :”أقسم لكم أن هذا الوجه يمنعني من النوم، لأن ذلك الشيطان ثرثار يهمس طوال الليل”
و كان إدوارد يدعو ذلك الهمس بهمس الشيطان، وهو همس متواصل ولا يتوقف على الإطلاق، فقد كان ينطق بعبارات غريبة، دائماً ما كان يقول إدوارد :”من المستحيل على أحد من الناس تصديق الكلمات التي كان هذا الوجه يرددها لي باستمرار "لقد خلقت على هذا الشكل لخطأ ارتكبه أجدادي” و لا أدري ما هو هذا الخطأ”.
كان إدوارد يتوسل لطبيبه أن يدمر هذا الوجه من رأسه حتى إذا أدى هذا التدمير إلى موته، و بالرغم من العناية الفائقة التي وجهها له أهله وطبيبه الخاص، سمم إدوارد نفسه وهو يبلغ من العمر 23 عاما، و ترك رسالة يطلب فيها من طبيبه الخاص تحطيم ذلك الوجه الشرير قبل أن يدفن، ويقول في رسالته( لا أريد أن أعيش مع هذا الشيطان في قبري كما عاش معي في حياتي)
لذا رسم يحيى الشيخ لبطل روايته نهاية تليق به , ولم ينس ان يحافظ على الحبل السري لعلاقة الأم بأبنها كمدلول صارخ على قدسية العلاقة في المشهد القاطع للأنفاس لتفاصيل موتها و دفنها اذ جعل شاهد قبرها تمثال القبلة لرودان , و زحف الأب بمشاعره للأقتراب من أبوة رمزية وان كانت ممنوحة لبرنص ذو اكمام كان يرتديه ابنه الفحل لحظة رجمه بالحجارة
في بهجة الأفاعي , يفتح لنا يحيى الشيخ كنز اجداده و يشاركنا إرثه الثمين بلا مقابل لانه بكل بساطة قد احرق كل ايامه و سنينه ولم يعد يثيره غير القلق ....و بهجة الأفاعي
في أمان الله
1473 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع