د. منار الشوربجي
انتخابات الرئاسة الأميركية في واد والعالم في واد آخر، وأنت إذا تابعت الحملة الانتخابية لأعلى منصب، في الدولة العظمى الوحيدة، تشعر وكأن الولايات المتحدة تعيش في كوكب آخر غير الذي نعيش فيه، والكوكب الذي تدور فيه الانتخابات مشكلاته بالغة التبسيط، وحلولها كلها بصياغات حدية بمنطق «الأبيض والأسود فقط».
فهو كوكب لا يعيش به بشر، وإنما ملائكة أو شياطين ولا شئ بينهما وكل ما عليك هو أن تكون مع الملائكة وضد الشياطين فتنتهى كل المشكلات!.
تشاهد دونالد ترامب فتجده مثلا يتعهد بالتحالف مع روسيا في سوريا لكنه طبعا لا يقول لك كيف سيفعل ذلك دون تحالف مع إيران التي يقول في ذات نفس الخطاب إنه سيلغي الاتفاق «الدولي» معها، ثم يتحدث عن «خطة» لمواجهة داعش، لا يفصح عنها لأنها «سرية».
ومع ذلك، يذكر أموراً محددة باعتبارها سياسات جديدة ستتبناها إدارته من أجل هزيمة التنظيم رغم أنها كلها اتبعتها الإدارة الحالية، فهو يقول لمستمعيه إن إدارته ستقوم «بعمليات عسكرية مشتركة ومن خلال التحالفات لدحر داعش وهزيمتها، وستتبنى التعاون الدولي لقطع التمويل عنها وتتوسع في التعاون الاستخباراتي. كما ستستخدم الحروب الإلكترونية لتعطيل حملات داعش للدعاية والتجنيد»، وكل ما ذكره ترامب تعلن إدارة أوباما أنها تقوم به.
ثم أنت تستمع لهيلاري كلينتون فتجدها تقول إن القوات البرية الأميركية في سوريا، ليست بديلا مطروحاً، وتقول في الوقت نفسه إنها تؤيد حظراً جوياً في سوريا، رغم أن دروس التاريخ الأميركي تقول إن الحظر الجوي يكون مقدمة للقوات البرية وهو ما أكده وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت جيتس بنفسه.
وكلينتون التي اضطرت لتغيير موقفها وقامت مؤخرا بمناهضة اتفاقية التجارة الحرة للمنطقة «العابرة للمحيط الهادي»، يقول برنامج حزبها بوضوح أنه يؤيدها!.
وأنت لا تجد أميركا اللاتينية بكل أحداثها الجسام، من البرازيل لفنزويلا على أجندة المرشحين أصلا، اللهم إلا إذا اعتبرت إهانات ترامب للمكسيكيين سياسة خارجية، ثم إنك لا تعرف أين المرشحين من قارة أفريقيا ولا حتى من الأحداث الكبرى التي تمر بها دولة جنوب أفريقيا.
وبينما يتهم ترامب كلينتون بأنها «كاذبة لا تتوقف عن الكذب» وأنها ضعيفة لا يمكنها حماية الأمن القومي الأميركي، إذا بمدير حملته السابق بول مانافورت، قد حصل على ملايين الدولارات من حزب أوكراني وثيق الارتباط بالحكومة الروسية!.
بل ولعلك تشعر، أن مرشحي الرئاسة ومن حولهم يعيشون في بلد آخر غير الولايات المتحدة نفسها، فالمؤكد أن المرشحين يعيشان في بلد غير ذلك الذي اجتاحت الفيضانات إحدى ولاياته، لويزيانا، فدمرت أربعين ألف منزل وشردت عشرة آلاف حتى كتابة السطور، وبلد آخر غير الذي دمرت الحرائق فيه مساحات واسعة من ولاية أخرى، كاليفورينا.
وتم إجلاء الآلاف من منازلهم، ورغم زيارة ترامب المتأخرة للغاية للويزيانا، فإن الصمت كان أهم ما قدمه مرشحا الحزبين الكبيرين حيال تلك المآسي الإنسانية الداخلية، فهل هما مؤهلان أصلا للتفاعل مع المآسي العالمية؟.
وترامب الذي قال إن هيلاري كلينتون لا تهتم بقضايا «السود ولكن تسعى فقط لأصواتهم»، وهو قول أقرب للصحة بالمناسبة، بدا في تلك اللحظة يسعى لأصوات السود كما قال بنفسه. ليس هذا فقط وإنما اختار أن يتحدث عن مشكلات سود أميركا في مقاطعة أغلبيتها الساحقة من البيض بولاية ويسكنسن وأن يقول ذلك في خطبة أمام جمهور كله من البيض.
ولم يصدر عن حملة كلينتون كلمة واحدة إزاء الدراسة التي أكدت تزايد أعداد السود الذين يُعلمون أولادهم في المنازل ولا يسجلونهم بالمدارس خوفاً عليهم من العنصرية التي سيواجهونها حتما.
وترامب الذي يقول يوما إنه يريد أصوات السود وغيرهم من الأقليات يقوم في اليوم التالي بإحداث تغييرات في فريق حملته الانتخابية فإذا به يأتي بستيف بانون، المسؤول عن الموقع اليميني «بريتبارت». وبانون معروف بالكثير من المواقف التي تناهض حقوق الأقليات، ويحمل خطابه لغة فجة، تماماً مثل لغة ترامب، ولعله لذلك هو الأقدر على أن يخرج من ترامب أسوأ ما فيه.
المرشح الجمهوري لم يخجل من أن يكرر على سامعيه مقولة كانت قد أطلقت منذ فترة على بانون وصفته بأنه «أخطر المشتغلين بالسياسة على الإطلاق في أميركا».
وبينما يتهم ترامب هيلاري كلينتون بأنها معادية للشرطة بسبب عدم معاداتها لحركة «حياة السود مهمة» فإن المرشحة الديمقراطية، التي روجت حملتها إلى أن ترشحها يمثل لحظة تاريخية للمرأة واجهت بالصمت ما نشرته النيويورك تايمز عن دراسة تقول إن أعداد النساء في سجون الولايات المختلفة ازداد 14 مرة عن السبعينات وأن تلك نسبة أعلى كثيرة من نسبة الرجال!.
كل ذلك يؤكد أن النخبة السياسية الأميركية ومموليها بالمناسبة، صارت مقطوعة الصلة تماماً بما يجري خارج الشرنقة التي صنعتها لنفسها.
1397 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع