يعقوب أفرام منصور-اربيل
تقترن مناعي الأعلام والمشاهير والبارزين في ميادين الحياة العامة بذكريات وأحداث ووقائع ذات صلة بشخوصهم من حيث مواقفهم ومأثوراتهم وأثرهم في المجالات الإنسانية والإجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية والفنية، وضمن هؤلاء الشخوص الراحل بطرس غالي، المتوفّى في 16 شباط هذا العام، في مجال إشغاله منصب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة إبان الأعوام 1992 ـ 1996.
من الأرقام التاريخية المشهورة في تاريخ العراق الحديث، وحصرًا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، الرقمان الصادران عن مجلس الأمن الدُوَلي : 678 في 29 /11/ 1990 و986 الذي يرتبط ذكره بصدور قرار الحصار الجائر على الشعب العراقي حين كان السيد بطرس غالي أمينًا عامًا لمنظمة الأمم المتحدة.
عندما حررتُ رسالتي المفتوحة إلى السيد بطرس غالي في حزيران 1995، ونشرتْها جريدة (ألقادسية) في 2 تموز 95، كان قد انصرم زهاء خمسة أعوام على صدور القرار الأول ( 678) القاضي بفرض الحصارعلى العراق، وبرفع الحصار بعد تطبيقه المادة 22 من القرار، ومضيّ قرابة عام على صدور مقالي المعنون (الحصار الجائر، والثبات والإيمان في بيان بطاركة الشرق الكاثوليك) المنشور في جريدة (ألعراق) في 18 آذار 1994. لكن القرار الثاني الصادر في ألربع الأول من 1995 قد مدّد الحصار حتى تاريخ إنجاز العراق تطبيق المادة 22 من القرار السابق. فكان رد فعل العراق على نصيحة بطرس غالي أن قابله وزير خارجية العرق السيد (الصحّاف) يوم 15 أيار من عام 95 وشرح له أسباب عدم موافقة العراق على القرار 986، وذلك لإحتوائه على شروط تدخليّة ذات صبغة سياسية مغرضة تهدف إلى إنتهاك سيادة العراق ووحدة أراضيه واستقلاله السياسي، في حين أن العراق جاد في التعاون مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإنهاء ما تبقى من مشاكل لتطبيق المادة 22 من القرار السابق، التي تقضي برفع الحصار عن العراق. (أنظر جريدة(القادسية) ليوم 16 أيار 95). مما أسلفت يبدو جليًا أن الحصار بعدئذٍ ظلّ ساريَ المفعول.
خاطبتُ السيد غالي، بعد التحية، بهذه السطور:
[ سبق أن خاطبتُ سلفك الصالح (داغ همرشولد) بخطاب مخنوم في 21/5/ 1958، واليوم أخاطبك برسالة مفتوحة في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن (986) السيئ والخبيث جدًا، والذي حثّني على تسطيرها هو مباركتك القرار، وإبداء مشورتك للعراق بقبوله! إن منصب الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة يماثل منصب رئيس أو أمين حزب من الأحزاب، يُنتظَر منه أن يؤدّي دوره المطلوب في مجال الخدمة غلى أفضل وجه تتطلّبه مصلحة الشعب وخير الوطن وكرامة الدولة وسيادتها في ظِل من العدل والإنصاف والإستقامة.]
أعقب ذلك دخولي إلى صُلب الموضوع:
[ فكان القمين بك، وأنت أمين عام أهم وأأكبر منظمة عالمية، أنيطت بها مقدّرات العالم وأمنه وسلامته، وأُسِّست لرعاية وضمان حقوق الشعوب كافة والمستضعفة منها بشكل خاص، أن تكون على مستوى تلك المَهَمّات الجسام والمسؤوليات الخطيرة، بيد أنك ـ مع مرير الأسف وعميق الأسى ـ وبقدر تعلّق الأمر بشعبنا الصابر المضطَهَد في العامين الأخيرين بخاصّة، كنتَ قصيًّا جدًا عن ذلك المستوى المنشود، بل المفروض في مسؤول كبير نظيرك، حتى كان القرار الأمريكي (986)، ألمضحك المبكي، ثالثة الأثافي في إلحاق الأذى الجسيم بالشعب العراقي معنويًا وماديًا. فكيف تبارك هذا القرار المنطوي على السم والخبث.؟! وكيف يُتاح لضميرك أن ينصح العراق بقبوله؟! أإلى هذا الحد أنت مُسَيّر وقد غررت بك الحبائل الصهيونية ، والأطماع الأمريكية النَهِمة؟!]
وكي أبدي له إستياء بعض الأوساط الأمريكية من مضامين القرار، أردفتُ نص رسالتي بهذه الفقرة: ( حتى بعض الصحف الأمريكية شجب القرار، واستخفّ به. لقد تزعزعت ثقة الشعوب بالمنظمة العالمية ومجلسها الأمني. وكثير منها يتذكّر جيدًا القرارين 242 و338 اللذَبن لم يُطَبّقا حتى الآن، برغم انصرام ثلاثة عقود على صدورهما. ألم تصل إلى مسمعك أصوات حرّة شريفة من أرجاء المعمورة تقول بظلم القرار وانطوائه على النيّات السيئة، وانبعاث رائحة التهالك على النفط إلى حد ابتزاز ثروات العراق ، والإستحواذ عليها، وإفقار وتجويع شعبه؟ فعلامَ صمتُكَ بعد كل الذي بلغ مسمعكَ من اعتراضات وشجب وثلب؟ ولماذا ـ في الأقل ـ لم تعتصم بالصمت منذ اللحظة الأولى لصدور القرار؟!)
وفي الفقرة اللاحقة شئتُ ـ على سبيل المقارنة ـ أن أفصح له إنه برغم انصرام عقود على ارتحال سلفه (همرشولد)، يحتفظ له الأحرار عمومًا والعرب خصوصًا باطيب الذكر، ويكنّون الإحترام والتقدير له، وهو غير عربي ولا شرقي، لكنهم لا يحملون الشعور نفسه تجاه سلفه الآخر (دي كويلار)، وإن التاريخ مدوِّن حدّي مستقيم لا يعرف الإنحياز، لأنه يحمل بين طياته ضمير البشرية الحي النزيه، فكان المرتقب منه أن يكون ـ في الأقل ـ على مستوى سلفه الصالح، إن لم يكن أفضل منه، بسبب انتمائه إلى هذه الأمّة المبتلية بأطماع الأجانب وأحابيل الصهيونية، وخيانات رهط من حُكّامها الفاسدين، وهو يعرف كل هذة الحقائق؛ واستفهمته إن كان هو راضيًا في أعماقه عن اتخاذه ذلك الموقف غير الجدير به ـ لو أنه راجع نفسَه؟
والفقرة الأخيرة من الرسالة حوَت هذه السطور: [ لا، سيادة الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة المحترم، لا يا أخي العربي في أرض الكنانة وبورسعيد والسويس، لا يقبل منك أحرار العالم النبلاء موقفك الممالئ لأعداء الحق والفضيلة والعدل.......بعد أعوام قليلة، سيكتب التاريخ النزيه فصلاً، لا تروقكَ مطالعتُه، ولا تسرّكَ فحواه، بشان هذه المهزلة ـ المأساة الصادرة عن مجلس الأمن الدُوَلي بقرار 986! ] وكان الختام: (أخيرًا، أنا وأمثالي لا نملك إلا أن نقول آسفين ومذكّرين : المكر السيئ يحيق بأهله، والمرء حيث يضع نفسَه.)
في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى إلقاء إضاءة صحفية موجزة على صدى الحصار عالميًا، فقد وضعتُ في دفتر مذكراتي لعام 1993 قصاصة من جريدة (القادسية) ليوم 23 ك2 لعام 93 تحمل عنوانًا بالبنط الرفيع [ إستياء شديد وعام في الأوساط الكنسية في العالم بسبب العدوان على العراق ] وتحته عنوانًا بالبنط العريض [ الفاتيكان يجري إتصالات مع " الأمم المتحدة " لرفع الحصار .] وفي نبأ أوردَته صحيفة القادسية في 16 آب 93 أفاد [ إ ن البابا يوحنا بولس الثاني أكّد مرور الولايات المتحدة بأزمة أخلاقية.] وفي قصاصة أخرى من جريدة (العراق) ليوم 1 أيلول 93 نبأ أفاد بأنّ ( الرئيس الأمريكي السابق كارتر ، في مؤتمر صحفي في صنعاء اليمن ، إنتقد مواصلة الحصار على العراق، ويجب أن ينتهي.)
بالمقارنة مع موقف السيد غالي، المشار إليه آنفًا، أعرض ما يناقضه تمامًا في أثناء حضوري الجلسة الختامية لأعضاء وفد بطاركة الشرق الكاثوليك في (فندق الرشيد) يوم السبت الموافق 5 آذار 1994، الذين زاروا القطر بباعث إنساني وتلبية ً لمشاعر الأخوّة والتضامن مع الشعب العراقي المحاصَر بأكمله، ومع حقوق الإنسان، وبقصد الإطّلاع على الحقائق عن كثب، فلمسوا لمس اليد، ورأوا رأي العين شدّتَنا العصيبة وآلامَنا المبرّحة من جرّاء الحصار الشامل الجائر المفروض على الشعب العراقي الأبي الصابر. لقد دعا البيان الختامي شعب العراق [ إلى المثابرة في الإعتماد على الذات، مع التسامي فوق المِحَن والشدائد، لأن في العالم قوى خير كثيرة، وبفضلها وبفضل جهود العراقيين سوف يُعاد بناء العراق، بل بناء العالم كله ليكون مستقَرًا للعدل والحق والسلام.]
مقالي في هذا الصدد نشرتْه جريدة (العراق) ليوم 18 آذار 1994 ، قلت ُ في مقدّمته، مخاطبًا الوطن في شدّته ومحنته ( ما أنضر أن تعثر ـ في هذا الوجود ـ على دوحة عزلاء، ذات ظل وارف، تلجأ إليه في ساعات الهاجرة حيث يلتقيك مستوحِدٌ زاهد، يرتدي أسمال الفقراء، ويحمل عصا الدراويش، فتطلب إليه ان يعظكَ بكلمات موجَزة، وما إن تعي موعظتَه، حتى تنهض نَشِطًا لتستأنفَ السيرَ في سبيلِك.)
ما يدعو إلى الإستغراب حقًا أن يلاحظ الإنسان السويّ فردًا متميّزًا، نظير بطرس غالي، ومتخصّصًاا في القانون والقانون الدوَلي وحقوق الإنسان، يتّخذ موقفًا تاريخيًا ممالئًا لإرادات أعداء "حقوق الإنسان" !
1394 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع