حامد خيري الحيدر
هاهو الخريف قد لاحت بواكيره في الأفق، طارقاً الأبواب بأجوائه المُتقلبة وصوره المتناقضة، التي لا يماثلها سوى أخلاقيات ممتهني السياسة في هذا الزمن الكريه، بقُبح أنتهازيتهم وتلون أمزجتهم وخبث مآربهم.
مُعلناً نهاية أيام الصيف الهادئة الصافية بشمسها الذهبية الساطعة التي تظل تذّكر العالم دوماً بوحدانية الحقيقة، ممهداً لغضب الطبيعة القادم مع شتائها الأدهم الكئيب بأمطاره وزوابعه العاتية... في هذا الوقت من كل عام وحسب ما أعتقده أسلافنا قدماء العراقيين تبدأ مراسيم وداع الاله الرمز والأبن البار لأرض الرافدين، اله الخصب والنماء (تُموز)، الذي أختطفته عفاريت الظلام الى العالم الأسفل، ليبقى هناك نصف عام كامل، يصيب الحياة خلالها الركود والجمود مع حلول القرّ القارس، فتكون عواصفه كرسُل شؤم قادمة من عالم الموت تأتي منذرة متوعدة تحيل الوجوم والدموع بدل الابتسامة والفرح، ليعلن أهل الرافدين مع حلول طلائعها طقوس الحداد على الاههم المحبوب، حيث يبدلون ملابسهم بأثواب الحزن السوداء الممزقة الملطخة بالطين، مقيمين مجالس العزاء والبكاء لما سيصيب العالم جراء هذه الفاجعة، معلنين بداية تلك المسيرة الأليمة من هذه السلسلة التراجيدية الغريبة المليئة بالمعاناة والمآسي والآهات، أستمرت دون انقطاع منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، ضحيتها وبطلها الأول شعب العراق المظلوم.... هكذا كنا وهكذا كان هذا الشعب منذ أن شيّد أول صروح مدنيته قد تجسده شبح الموت.... يا ترى أي قدر عجيب هذا الذي يجعل من شعبٍ بأسره وعلى مدى تاريخه الطويل مُجبَلاً على الأسى والألم؟ وأي سر ذلك الذي لف هذا الشعب؟ لتكون أفراحه لوحات حزن وأغاني أعراسه أنغام وجع وأمل ولاداته صور بؤس... فمنذ أن فتحت عيوننا على هذه الأرض ونحن لا نرى، لا نسمع، لا نقول غير الحزن، حتى غدت أفراحنا أن زارتنا يوماً ولم يكن بين ثناياها شيئاً من رائحته كأن لاطعم لها، وأصبحت ضحكاتنا أن مرت على أطراف شفاهنا ولم ترافقها بضع قطرات من الدمع فهي لاتغسل شغاف القلب من الهموم.. فيالها من أحجية أن يكون الألم فرحاً أو الفرح الماً... كيف لا يكون ذلك ومنذ الأزل لم يلق شعب دجلة والفرات سوى النوائب والمُلمات، حتى كثرت جراحه ليستحيل احصائها، وتقيحت حتى لم يُعد يُعرف كيف ستندمل، هذا أذا قدُر لها ذلك يوماً ، ولم يتبقى في قلوب أهله المُتفحمة المتخمة بالجراح موضع لطعنات جديدة، فقد غدت (النصال تتكسر على النصالِ)... كما قال (المتنبي) العظيم... فأينك منا يا (تُموز)، وأنت تفارقنا مجدداً لتبعد عنا مرة أخرى حلم الحياة والحياة الحلم.... فهل نكون محظوظين ليأتينا يوم وتمحى من ذاكرتنا ما أعتقده أسلافنا عن ذلك الاله القتيل بميتته المأساوية تلك، التي لهولها رسمت المصير الأبدي الأليم لسكان تلك البقعة الحزينة التي احتضنتها سواقي النهرين؟ وحتى متى سيبقى ذلك الطوق يخنق أعناقنا لتكون الفواجع حداً فاصلاً بين الولادة والرحيل، ليكون الموت هو الوجه الآخر للحياة رغم قساوته؟ أم أنه مجرد استعداد لانبعاثها مرة أخرى بعد خروجها عن رتابتها ونمطيتها؟ لذا كان لابد من التضحية، وأن كان الضحية الهاً، كي يثبت أنها لابد أن تنتصر في النهاية، وتبعث من جديد لتغدو أكثر شباباً وحيوية... فهل يكون شعب العراق هو الضحية الرخيصة المستعدة دوماً لفداء حياة الآخرين؟ لماذا يا (تُموز) ليس لك من دون الآلهة أن تكون خالداً أبداً لتخلد معك أبدية الحياة في أرض الرافدين؟ أم لأنك أبن هذه الأرض أريد حتى الأنتقاص من الوهيتك، ولماذا رضيت على مدى عمر العراق بالنقيضين الأبديين، فلا أنت بخالدٍ على الدوام لتزدهر بك رحاب هذه الحياة، ولا أنت بميت أبداً لتترك مع شعبك شرور هذا العالم، واذا كنت يا (تُموز) قد رضيت بنقيضي الوجود فلمذا تمسك شعبك بنصفك الميت وتناسى الآخر الحي؟ فهل لديك الجواب أم لعلك رضيت بهذا القدر الغريب لتكون مع هذا الشعب المفجوع رمزاً للمظلومين والمضطهدين في هذا العالم المجنون العائم على دموع البائسين؟ فما أعجب ذلك... وها أنت اليوم تغيب عنهم مجدداً ليرتدي العراقيون ثوب الألم الذي لم يعد يفارق أجسادهم، بعد أن أستحال خلود حياتهم ومباهجها التي كانوا يُمنون النفس بها الى دراما مُبهمة ليس لها آخر من الأسى والكدر... فهل ستنهض يا (تُموز) يوماً نهضتك الأبدية من سجنك القسري؟ أم ستبقى مُكبلاً بسلاسل القهر حبيس عالم الظلام رابطاً مصيرك مع أبناء شعبك؟ وهم يعيشون من ظلم لظلم ومن خراب لخراب ومن بؤس لبؤس، بعد أن أنقضّت عليهم عفاريت العالم الأسفل التي بُعثت من جديد لتختطف أرض النهرين الخالدين لعوالم الهمجية والتخلف والطائفية اللعينة.. فلم يعودوا يملكون اليوم بعد كل الذي لاقوه ويلاقوه غير النظر اليك وأنتظار قدومك، لتعيد لهم نفحة من نسمات الأمل التي نسوا برودتها، وبعضاً من كرامتهم المسحوقة بأقدام وفتاوي عفاريت التخلف، وشيئاً من البسمات التي أفتقدتها براءة الطفولة.
أنهض يا (تُموز) فقد جفت دموعنا، وغدت مُقلنا كرمال في صحراء قاحلة تواقة لمزنة مطر.. أنهض يا (تُموز) فقد طال نواحنا وبُحت حناجرنا ويأسّنا من شكوانا التي أصمّت آذان الكون... وحتى يأتي يوم أنعتاقك الذي هو فرحة وعرس كل العراقيين، ليس بأيدينا سوى الصراخ بمليء أفواهنا المُتعبة... حتى متى تظل تنوح يا عراق... حتى متى تظل تنوح؟
967 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع