سلام مسافر
بعد 15 يوما من حله وصلت المواجهة بين بوريس يلتسين، أول رئيس منتخب في روسيا ومجلس السوفيت الأعلى، الذي تهيمن عليه أغلبية شيوعية، حد قصف البرلمان.
كان يلتسين أصدر مرسوما في 21 أيلول/سبتمبر من العام 1993 بحل مجلس السوفيت الأعلى(البرلمان) بذريعة معارضته للإصلاحات الدستورية والاقتصادية وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة والعودة الى تسمية البرلمان بمجلس الدوما كما كان عليه في الحقبة ما قبل ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا عام 1917.
يلتسين الذي أشيع أنه مسير من فريق "إصلاحي" يمثله شبان من "ذوي البناطيل الملونة" كما سخر منهم ألكسندر روتسكوي نائب رئيس الجمهورية آنذاك، سجل خطاب حل البرلمان وبث ليلة 21 سبتمبر 1993. وعلى الفور خرج المئات من أنصار (السوفيت) وطوقوا "البيت الأبيض" المبني من الآجر ناصع البياض، دفاعا عن الشرعية.
واستمر الاعتصام أياما وليالي وصل خلالها مئات المتحمسين من مختلف الجمهوريات السوفياتية السابقة، بعضهم كان يحمل السكاكين والعصي.
ولم يسمح لغير الصحفيين والمراسلين الأجانب المعتمدين في موسكو بدخول المبنى، فكنا ندخل البوابة رقم 14 في ساعات الصباح الأولى ولا نخرج منها إلا في ساعة متأخرة من الليل.
كان النواب المعتصمون المعارضون ليلتسين يستمدون قوتهم من الحشد المتحمس، الذي يطوق "البيت الأبيض" ، ويراهنون على أن قوات الجيش والشرطة والأمن لن تغامر باقتحام المبنى لأن ذلك سيعني مواجهة دموية.
كنا نسجل أحاديث ومقابلات مع قادة مجلس السوفيت الأعلى، أمثال روسلان حزب اللاتوف، رئيس المجلس، وغينادي زيوغانوف زعيم الحزب الشيوعي الروسي، وسيرغي بابورين، أحد نواب الحزب والخطيب الشاب المفوه الذي سيبلغنا بعد مرور عشرين سنة على اقتحام مبنى السوفيت، أن قناصة السفارة الأمريكية التي تقع على مرمى حجر من" البيت الأبيض" في موسكو، أول من أطلق النار على المتظاهرين وعلى قوات مكافحة الشغب الروسية، فاشتعلت المواجهة ودكت دبابات بوريس يلتسين البرلمان وقضت في بضع ساعات على الاعتصام واعتقلت قادته والعشرات من نوابه الذي صمدوا تحت القصف.
قبل أقل من ساعة، قال لنا صحفي أمريكي، إن البرلمان سيقصف ونصحنا بالخروج. فيما انسحب مصورون تلفزيونيون، اعتادوا على المرابطة طوال الأيام الماضية، يبحثون عن مقهى قريب لشحن بطاريات كاميراتهم، بعد أن قطع يلتسين الماء والكهرباء عن النواب المعتصمين، ووضع شاحنة أمام المبنى بمكبرات صوت ضخمة تبث أغاني صاخبة مع موسيقى مدوية بهدف التأثير على المعتصمين وحرمانهم من النوم، وفي نفس الوقت التشويش على عمل وسائل الإعلام التي كانت في غالبيتها تنتظر لحظة القضاء على " التمرد"، وفق توصيف أنصار يلتسين من ليبرالي مدرسة شيكاغو الاقتصادية.
حين اشتد القصف على المبنى لجأ النواب والصحفيون إلى قاعة الاجتماعات الصغرى البعيدة عن واجهة " البيت الأبيض" هربا من القذائف العابرة للنوافذ. وكان معنا بنيامين سوكولوف رئيس مجلس الجمهورية في مجلس السوفيت الأعلى لروسيا.
البروفيسور سوكولوف عالم فيزياء، له عشرات المؤلفات ومئات المقالات، وحائز على أوسمة رفيعة، وكان معارضا لحل البرلمان فرابط مع المعتصمين.
اقتحمت قوات مكافحة الشغب المبنى وبدأت بإخراج المعتصمين وسط جثث القتلى من الشبان والشباب والرجال المعتصمين. وفتحت عربات السجن بواباتها لابتلاع القادة المستسلمين.
قلت لزملائي، علينا أن نخلص البروفيسور سوكولوف من براثن قوات مكافحة الشغب ومن الغوغاء التي كانت تسعى لإهانة النواب. وكنت قرأت في عيون البروفيسور خشيته من التعرض للامتهان.
كان زميلنا الصحفي الإسباني فرناندو، مع سيارة تحمل رقما دبلوماسيا، فيما كانت سيارتي تحمل لوحة مراسل الأقل حصانة. فأخذنا البروفيسور سوكولوف ومعنا صحفي عربي آخر، وخرجنا من الباب المخصص للصحفيين مستغلين حال الفوضى التي عمت المكان. ولم يتعرف مكافحو الشغب على الرئيس سوكلوف لأنهم غير متابعين للأخبار، ويبدو أنهم لا يشاهدون التلفاز حتى، عدا أن الرجل كان غاية في التواضع قليل الظهور والتصريحات .
أدخلناه إلى سيارة فرنادندو، وتحرك زميلنا الإسباني بسرعة خارج المنطقة، وكنت اتبعه بسيارتي، حتى تلاشت ضوضاء المدينة، فانتقل إلى سيارتي باللوحة الصفراء المخصصة للمراسلين، وانطلقنا نحو ضواحي العاصمة التي كان الغسق الحزين يلف سماءها الغائمة. أوصلته إلى بيت ريفي، وكلفني الاتصال بصديق له في موسكو كي يطمئن أسرته.
ولعدة أيام بقينا على اتصال للتأكد من سلامته. إلى أن وجد زملاء البروفيسور سوكولوف من العلماء، سبيلا يجنبه الاعتقال كبقية قادة البرلمان المنحل الذي أطلق يلتسين سراحهم على دفعات بعد وقت ليس بالطويل من أحداث أكتوبر الدموية، في خطوة لتعزيز الوفاق الاجتماعي ولوضع حد لدورة العنف والانتقام.
هكذا مارسنا نحن الصحفيين الأجانب الثلاثة، دورا خارج النشر ويقترب من العمل السياسي الذي لا ينبغي أن يتورط به الصحفي المحايد.
بيد أن لا خيار آخر ؛؛ إما أن يهان البروفيسور سوكولوف على يد الرعاع، أو أن نغامر ونوفر له ملاذا آمنا!
ووقعنا بصمت على الخيار الثاني!
سلام مسافر
981 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع