مهند النابلسي
هاري: الملاك القاتل: هيتشكوك بالنكهة الفرنسية
(الفيلم الحائز على السعفة الذهبية بكان 2000)
احذر "الشر الغامض" المغلف بالكرم والمظاهر اللطيفة!
يلتقي ميشال (لوران لوكا) بصديقه القديم هاري (سيرغي لوبيز) بالصدفة في أحد المراحيض العامة، وسرعان ما يقحم صديق أيام الدراسة نفسه بحياة ميشال تدريجيا، ويبالغ باظهار الود والكرم فيشتري لصديقه القديم سيارة جيب عصرية جديدة بدلا من سيارته القديمة التي تتعطل باستمرار، كما يقنعه بمواهبه القديمة ويحفزه للمباشرة بانجاز كتاب كان قد باشر بكتابته عندما كانا طالبين، ويستمر بتماديه وتسلطه فيقنعه اخيرا أن زوجته وبناته الثلاث الصغيرات لسن سوى عبء كبير على حياته، نظرا لأن القلق المستمر الذي يعاني منه ميشال ناتج للضغوط التي يتعرض لها من عائلته المزعجة! هذه هي الثيمة الغريبة التي يستند لها المخرج الألماني-الفرنسي دومينيك مول بفيلمه الغريب "هاري صديق يريد الخير لكم"، ساعيا لاحداث انقلاب بالقيم والعواطف بحياة صديقه القديم ليفتح المجال لطريق الجحيم أمام العائلة الوديعة محرضا ومدمرا لوجودهم الآمن المستقر ...فيلم مدهش "بنفس تشويقي هيتشكوكي" واضح، ومتجانس فنيا من حيث براعة السيناريو والاخراج والتمثيل: انه بمثابة خلطة فريدة تجمع ما بين الكوميديا السوداء والرعب والجمال والتشويق، فهاري "المتطفل" يجسد النزوة البشرية المتوحشة المخلوطة بالعبث والتحريض، ويبدو كرجل مستقل لا يعتمد على احد، بينما يكمن شيطان داخله يدفعه للحقد والحسد والتدمير، وعلى النقيض يمثل ميشال الرجل لمنعزل الشكاك والمسكون بوسواس قاهر وبطاقة سلبية كامنة تزدحم بالأفكار المزعجة، ولا يهدأ حتى يدمر حياته العائلية التي توفر له الاستقرار والآمان والحب، حيث ينجح صديقه "الملاك المدمر" بدفعه لحافة الهاوية وتدمير عائلته...هذا الفيلم يحدث صدمة مزعجة بوعي المشاهد بالرغم من متعة مشاهدته، بالرغم من كونه لا يخلو من الأفكار السوداء المرعبة، وببساطة لأن المخرج العبقري مول يثير مسائل الانفصام والتناقضات والهواجس السوداء الغامضة بالعلاقة المعقدة بين هاري وميشال ضمن اطار استحواذي يجمع ما بين الانبهار والاشمئزاز، ويقودك ببراعة لكي تعيش المعاناة حتى تكاد تتفاعل معها بوعيك وحسك كمشاهد حيادي!
هذا الفيلم هو اكثر من مخيف ومقلق ومرعب بل هو استحواذي بكل معنى الكلمة، بل يكاد يتفوق على أفلام هيتشكوك النفسية لأنه أخذنا كمشاهدين لمناطق وحدود سايكلوجية جديدة نادرا ما تأخذنا السينما اليها، وتجاوز صبغته "التشويقية-الترفيهية" ليتحول الى تحفة سينمائية "سايكو-اجتماعية" بجدارة يستحقها: من هنا نفهم تعصب لوك بيسون (كرئيس للجنة التحكيم بمهرحان كان للعام2000) وتصويته له لكي ينال جائزة السعفة الذهبية!
نزهة عائلية تتحول الى الجحيم:
تبدأ القصة مع ميشال(لوران لوكاس) وكلير(ماتبلد سيغنر) وهما على حافة الانهيار في سيارة ساخنة متهالكة وضيقة ومع ثلاثة أطفال يصرخون بمحاذاة استراحة على جانب الطريق...وبالصدفة بالمرحاض العام يلتقي ميشال مع هاري (سيرجي لوبيز) ويذكره بانهما ذهبا معا الى المدرسة الثانوية، وتكون هذه بداية تدخل هاري وصديقته سوفي جوليين بحياة ميشال وزوجته كلير، ثم يتبعان لاحقا العائلة لكوخهما الصيفي المتداعي. لكن بالرغم من صداقة هاري الظاهرية الا ان ميشال وكلير يلاحظان أن هناك شيئا غير طبيعي بتصرقات وحماس صديقهما الجديد هاري، يتمثل باستعادة ذاكرته لقصيدة قديمة كان ميشال قد كتبها قبل عشرين عاما! كما انه أقدم بشكل مفاجىء على شراء سيارة جيب حديثة لهما عندما تعطلت سيارتهما القديمة، اما الشيء الغريب فهو اكتشافهما بأنه يملك ميول شاذة اجرامية لقتل الناس اللذين يزعجونه ويستفزونه وبلا ادنى شعور بالذنب! يبدو هاري ظاهريا كهبة من السماء ...كريم ومخلص عندما يصر على تشجيع ميشال للعودة للكتابةلأنه باعتقاده كاتب "عظيم"، ولكنه يبقى مثيرا للشك لدى كلير التي لا ترتاح "بحدسها" لوجوده وفرض نفسه، ولكن ميشال نفسه يعاني من ازمة وجود نفسية وقد حبس نفسه يسجن متوحد مسيج بالشك والعدوانية، مما جعله فريسة سهلة لهاري الشرير الذي يحاول ان يظهر كملاك! يحقق ميشال لهاردي رغبته فيمسك القلم ويباشر الكتابة ثم يتخلى تدريجيا عن عائلته، يسعد هاري كثيرا بذلك وتأخذ الامور منعطفا شريرا وتتوالى الأشياء المشبوهة، ويبدو هاردي كرئيس استحواذي لميشال المسكين الذي فقد السيطرة على ذاته وشؤون حياته، هكذا يتسلل هذا القيلم لأسفل جلدك ويتركك لساعات بحالة غير مريحة، ويقدم وصفة متكاملة سامة مشحونة بالشر الشيطاني ومدمجة بلقطات طريفة (وأحيانا كوميديا غير مرحب بها ) وعنف "لاعقلاني" تصاعدي، ونرى ميشال يتغير فاقدا براءته وعفويته ويتمزق تدريجيا بتأثير حالة معقدة من "الذهان" النفسي الصعب، ويحدث تشويق واثارة مسلية يغلفها الدهاء والاستحواذ وتتصاعد ياسلوب تهكمي جاذب وصولا لذروة التوتر. أميل كثيرا للمقارنة لأن السينما فن تكاملي لا يعيش بالفراغ، وأجد هنا ربما تماثلا واضحا مع فيلمي "غرباء في القطار" و"السيد ريبلي الموهوب". أبدع الممثلون الثلاثة لورنت لوكاس وسيرجي لونيز وماتيلد سايغنر بالأدوار الرئيسية، كما قدم جيلي مارشان سيناريو متماسك استثنائي ومتوازن يشجع المشاهد العادي "للصراخ واطلاق المكبوت"، اما دومينيك مول فقد قدم تحفة اخراجية نادرة ربما سيعجز لاحقا عن تقليدها! وكعادتي السيئة باسقاط مضمون الأفلام على الواقع، فقد ظهرت شخصية هاري من عقالها بثورات الربيع العربي البائسة، فهذا الملاك "المغلف بالدين والقدسية" تمكن بدهاء شيطاني استحواذي من التغلل لبنية المجتمعات العربية الجاهلة والساذجة والمتخلفة، مستغلا حالات الطغيان والشمولية والفساد والقمع، مدركا حجم الشر الطبيعي بالشخصية الانسانية ومغلفا نواياه الغامضة ومتعللا بالقدسية وتأويل التاريخ والماضي والخرافة ليفتح أبواب الجحيم، ويبدو انه نجح نسبيا!
مهند النابلسي
كاتب وباحث وناقد سينمائي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
602 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع