نبيه البرجي
في نيسان 1982، كتب الجنرال ماكسويل تايلر، رئيس الاركان الاميركي السابق والمستشار العسكري السابق للرئيس جون كنيدي، عن «مائة يوم من الطوفان».
تايلر استعاد وقائع اللقاء الذي عقد في مطلع ذلك العام بين ارييل شارون والكسندر هيغ الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية في بدايات عهد الرئيس رونالد ريغان. الغاية كانت كسر القوس الاستراتيجي بين خراسان في ايران وجنوب لبنان...
هيغ الذي كان يشغل سابقا منصب قائد قوات حلف شمال الاطلسي شارك وزير الدفاع الاسرائيلي رأيه في ان اجتياح لبنان اذ يؤدي الى تحطيم الآلة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فهو، حتما، سيفجر سوريا من الداخل. هل كانت مصادفة ان يتزامن الاجتياح (تقريبا) مع محاولة «الاخوان المسلمين» الاستيلاء على حماه، ومنها على حمص وحلب، وبالتالي الذهاب بالحريق، الحريق الايديولوجي، الى دمشق...
في 5 حزيران 1982، بدأ الغزو الاسرائيلي للبنان، ولعب القدر لعبته حين تولى يوري اندروبوف زعامة الاتحاد السوفياتي وفتح ابواب الترسانة العسكرية، لا سيما الصواريخ المضادة للطائرات، امام السوريين، بعدما كان شارون قد خطط لتعيين رئيس جمهورية يوقع معاهدة سلام مع اسرائيل ويضع لبنان، استراتيجيا، تحت وصايتها...
لا بد من الاشارة الى انه غداة زيارة انور السادات لاورشليم(وهذه التسمية كنعانية وليست عبرانية)، قال الجنرال رافاييل ايتان «اذا كان الرئيس المصري قد وصل بالطائرة الى اورشليم، فإن حافظ الاسد، إن بقي، سيأتي سيرا على الاقدام».
هنا التاريخ، وربما الزمن، يبدو حينا كالراقص(رقصة الدراويش)، وحينا كالمهرج، وحينا آخر كحفار القبور. ألا يقال الان ان ما يحدث في العراق، وما يحدث في سوريا، هو لكسر القوس الاستراتيجي اياه، مع حديث ديفيد بولوك عن «المحرقة الايرانية» في النيران السورية؟
كل ما حدث في الموصل وفي الرقة مخطط له بدقة. تنظيم الدولة الاسلامية، بآخر نسخة له، لم ينزل من ثقب الاوزون، ولا من ثقب في الغيب، وانما هو اختراع استخباراتي جرى توظيفه لاغراض جيوسياسية، او جيوستراتيجية، محددة...
الثابت دور رجب طيب اردوغان في كل تفاصيل السيناريو السوري، في كل تفاصيل السيناريو العراقي. الرجل وقد تقمص شخصية السلطان، لم يكن يكتفي بـ «استعادة» حلب و الموصل، بل كان ينظر الى ابعد من ذلك بكثير. حاول ان يتمدد نحو الفسطاط في مصر..
السلطان النيو عثماني، وقد باتت لديه النيو انكشارية، كان يدرك تماما ان من يمسك بمصر انما يمسك بليبيا و بتونس و بالمغرب وبالجزائر. ها ان السلطة تعود الى بهائها على ظهر «الاخوان المسلمين» الذين ترعرع قادة «داعش» كما قادة «جبهة النصرة»، وصولا الى قادة القاعدة، في زواياهم وتحت عباءاتهم...
الان، القصة لم تعد قصة مائة يوم من الطوفان ، بل قصة مائة عام من الطوفان. كل القبور نبشت، وكل الغرائز استثيرت، فضلا عن الهواجس الامبراطورية التي وراء كل تلك التراجيديا الكبرى. العرب، وكما وصفهم برنارد لويس، «مهرجان القبائل».
لا فارق هنا بين مراقصة السراب ومراقصة العدم. من يتحطم سوى العرب، سنّة وشيعة؟ الاتراك بكل غطرستهم التي تتجاوز كل الحدود، والايرانيون بكل براغماتيتهم التي تتجاوز كل الحدود، ومن اتفاق فيينا الى مساندة اردوغان واقامة افضل العلاقات، بما في ذلك العلاقات السياسية، مع انقرة..
معركة الموصل اليوم هي معركة تقسيم العراق. حسنا فعل الحشد الشعبي بالبقاء خارج المدينة ، في حين يسمح للبشمركة ان تشارك، فهل يدرك مسعود برزاني ان مصلحته، ومصلحة الاكراد، كما هي مصلحة السنّة و الشيعة، الابقاء على العراق الموحد، وعلى سوريا الموحدة، لان تفجير البلدين طائفيا، واتنيا، يعني تحويل المنطقة الى جهنم؟
وعلى الذين ينتظرون ظهور المخلص ان يدركوا ان ازمات، وصراعات، المنطقة اكثر تعقيدا من ان يضع حدا لها اي مبعوث يأتي من السماء. ولقد دخلنا في الطوفان، طوفان المائة عام.
984 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع