هدى الحسيني
هناك قدر كبير من العمل يجب الانتهاء منه، ولن نضع جدولاً زمنيًا لعملية الموصل» هذا ما قاله برت ماغكورك المبعوث الخاص للرئيس الأميركي في التحالف الدولي لمكافحة «داعش» أثناء شهادته في يوليو (تموز) الماضي أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وأضاف: «لكن كون الزخم إلى جانبنا اليوم يمكننا القول إن أيام (داعش) صارت معدودة في الموصل حيث أعلن للعالم الخلافة الزائفة».
صباح الأحد الماضي، أشار مصدر كردي إلى أن الهجوم لاستعادة الموصل سيبدأ مساء الاثنين. وقد يكون ذلك تصريحًا للتشويش، إذ إنه مساء الأحد أعلن حيدر العبادي عبر التلفزيون العراقي بدء الحملة العسكرية.
تحمل الموصل دلالة رمزية قوية لـ«داعش»، حيث احتل التنظيم عناوين الأخبار العالمية، بعد أن غزا المدينة، واندحرت أمامه القوات النظامية العراقية. وبعدها اجتاح مساحات واسعة من الأراضي العراقية والسورية في بداية عام 2014، وفي يونيو (حزيران) من ذلك العام كانت الطلة اليتيمة لزعيم «داعش» أبو بكر البغدادي معلنًا من المسجد الكبير في الموصل قيام «الخلافة الإسلامية». وصارت الموصل مركز عمليات للتنظيم إلى جانب مقره الرئيسي في الرقة.
تشير التقارير الأخيرة إلى أن التنظيم حاول تعزيز دفاعاته حول الموصل، فطوق المدينة بشاحنات نفط لإشعالها بهدف وقف تقدم الجيش العراقي والقوات الحليفة، ويتردد أيضًا أن المدينة مزروعة بقنابل وعبوات ناسفة، كما حفر أنفاقًا لتحويل المعركة إلى حرب استنزاف، لكن الجهود المبذولة لاستعادة الموصل لها أبعاد جمة غير عسكرية، أبرزها كيفية الاستجابة للأزمة الإنسانية المؤكدة التي ستنتج عن ذلك، وأيضًا ماذا سيحدث في اليوم التالي بعد استعادة الموصل.
يقول جيم جيفري السفير الأميركي السابق لدى كل من العراق وتركيا: «كيف ستُخاض معركة الموصل وما سيليها، سيحدد ما إذا كان العراق سيبقى متماسكًا، وكذلك سيحدد دور الولايات المتحدة بعد هزيمة (داعش)».
أحد أبرز الأسئلة المطروحة التي تواجه المسؤولين العراقيين والأميركيين يتركز على مستوى انفتاح الحكومة المركزية العراقية على الموصل، فالحكومة العراقية برئاسة العبادي يسيطر عليها حاليًا الشيعة، في حين أن غالبية سكان الموصل من السنّة. وكان التوتر بين السنة وحكومة نوري المالكي ساعد على صعود «داعش»، وبالتالي احتلاله الموصل. كان يمكن للعبادي أن يقلب معادلة عدم الثقة، لو أنه حاول إعطاء ضمانات بأنه يسعى جاهدًا لتحقيق وحدة سياسية، لكن الآن فإن السنّة غير مقتنعين، وتعمل إيران مع ممثليها في بغداد بقوة للتأكد من أن هذا النوع من الوحدة السياسية في العراق لن يتحقق من جديد. وسبب ذلك واضح، لأن ما تريده إيران هو عراق ضعيف سياسيًا، غارق في الفساد، مُدجَّن، ويعتمد على إيران، وليس على الولايات المتحدة بالتحديد. من المؤكد أن إيران تريد إبعاد «داعش» عن العراق فهذا لمصلحتها، وكذلك لحماية حدودها، لكنها تريد أيضًا أن يشارك الحشد الشعبي، وكل الميليشيات الشيعية العراقية في الهجوم على الموصل. غير أن سجل هذا الحشد بعد معارك الفلوجة والرمادي مليء بالدم والمذابح واضطهاد السنّة، وحتى الآن لم يعد أبناء محافظة الأنبار إلى ديارهم.
تجدر ملاحظة أن الوجود التركي في القاعدة الجوية في بعشيقة شمال العراق يبرره جزئيًا الأتراك بأنه لمنع الحشد الشعبي من الهجوم على المدنيين السنّة، وبالذات التركمان في الموصل. لذلك هناك حاجة ملحّة للتنسيق بين مختلف المجموعات المشاركة في الهجوم على الموصل سواء أثناء العمليات العسكرية، أو بعدما يتم طرد «داعش». على الولايات المتحدة والمسؤولين العراقيين ترتيب مصالح خليط من الجماعات المتنافسة لاحقًا، وإلا فإن الفوضى ستعيد الموصل إلى الوضع الذي تكون قد خرجت منه للتو، إذ بمجرد استعادة الموصل فإن الانقسامات السياسية في العراق ستظهر أكثر، وسوف تتحدى فعالية الحكومة المركزية للمضي قدمًا، مع الإدراك العميق بأن أيدي إيران تغطي العراق كله منعًا لبروز وحدة سياسية.
مع بدء عمليات استعادة الموصل – لا أحد من المراقبين يقول: «تحرير الموصل»، وكأن الكواسر بدأت تحلق وتحوم بانتظار أن تغط لتنهش جثة المدينة - تدور أسئلة حول الاستراتيجية طويلة المدى، هذا إذا كانت هناك استراتيجية: هل ستجد الحكومة العراقية طريقة لإعادة دمج الموصل، ثم ما الدور الذي ستقوم به الولايات المتحدة في الشأن العراقي، هل ستعمل كي يستعيد العراق هويته واستقلاله، وتخفف من النفوذ الإيراني فيه؟ بانتظار الإجابة عن هذه التساؤلات، من الجدير القول إن مستقبل العراق والمنطقة يبقى مهددًا ومعقدًا. المشكلة أن الولايات المتحدة تركز على هزيمة «داعش» بأي وسيلة، وترحب بكل من يريد الانضمام لهذه المعركة. وكان ريان كروكر سفير الولايات المتحدة السابق لدى كل من العراق وأفغانستان حذر قبيل معركة الفلوجة قائلاً: «لقد استخدمنا تكتيكات مماثلة ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. لم تهمنا الوسيلة. ركّزنا فقط على النهاية».
بعد أفغانستان وخروج السوفيات، واجه العالم «طالبان» و«القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن. لكن المثير للسخرية في الظروف الحالية، أن روسيا وإيران، ونظام بشار الأسد يدعون كذبًا، أن الأولوية لديهم أيضًا هي محاربة «داعش»، ويبررون حملتهم الوحشية في سوريا، وعلى حلب بالذات، بأن كل من يعارضهم، إنما هو إرهابي تكفيري.
ليس واضحًا نوع المقاومة التي سيبديها التنظيم. المرة الأخيرة والوحيدة التي قاوم فيها كانت في «كوباني» الكردية - السورية، حيث تكبد خسائر مذهلة. ومنذ هزيمته في كوباني لم يكرر نوع المقاومة تلك في أية مدينة شمال العراق، لم يقاوم بكل ثقله في الرمادي، ولم يقاوم في الفلوجة. حتى في سوريا عندما دخلت المعارضة السورية المدعومة من تركيا، وصلت إلى دابق واستردتها، ولم يسقط قتيل واحد لـ«داعش». دفع التنظيم غالبية قواته إلى الانسحاب ليبقيها للقتال في معركة أخرى. المراقبون العسكريون يرون أن أكثر ما يخيف «داعش» في معارك الموصل هو أن تفتح القوات البرية العراقية نيرانها المتواصلة بحيث تمنع مقاتليه من المناورة والانسحاب، وبعد ذلك يتم تدميرهم بالقوة الجوية للتحالف.
هناك توتر على كل الأصعدة في العراق، وليست «الوحدة» التي تجمع العراقيين لاستعادة الموصل، هي ذهب يلمع. لذلك فإن معركة الموصل وما سيتبعها من تداعيات أمور تحدد ما إذا كان العراق لا يزال قادرًا على أن يبقى موحدًا. الفصائل العراقية الثلاثة: الشيعة والسنّة والأكراد تلتقي قواتهم حول الموصل. كذلك ستحدد الموصل مسؤولية الولايات المتحدة وثقلها. فالعراق بثروته النفطية أساسي في أي صراع ما بين إيران وروسيا من جهة، والدول العربية السنّية في المنطقة وتركيا وإسرائيل من جهة أخرى. لهذا إذا سيطرت إيران على جنوب العراق الشيعي الغني بالنفط، فإن إنتاج النفط والغاز مجتمعًا من الدولتين بقيادة إيران، سيعيد ترتيب المنطقة لتروق للأهواء والطموحات الإيرانية. لهذا من الضروري أن تثبت الولايات المتحدة أنها مع استعادة الموصل، عادت إلى دورها في المنطقة ولمدى طويل، وأن المنطقة لن تسقط بين فكي روسيا وإيران. إن الدفاع الناجح عن النظام الإقليمي يتطلب أكثر من قوة عسكرية، يتطلب دبلوماسية حذقة. المشكلة مع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، أنه لم يحجّم طموحات إيران الإقليمية، وأطلق العنان لبطش الرئيس السوري بشار الأسد، ومنع أميركا من ردة فعل حازمة بالنسبة إلى الدخول الروسي إلى سوريا.
الجوهري الآن، «تحرير» الموصل، وتجنب كارثة إنسانية وتأمين الأمن والنظام في المدينة في اليوم التالي لاستعادتها، عن طريق الحد من تدخل الأتراك والحلفاء الآخرين بمن فيهم الأكراد، ومنع وصول الميليشيات الشيعية «العراقية» التي أنشأتها إيران.
«داعش»، كما هزم في الفلوجة سيهزم في نهاية المطاف في الموصل، لكن الحياة لم تعد إلى الفلوجة، لا، بل صار العراق إما إرهابًا أو ظلامًا أسود. على الرغم من هذا الحزن، فإن وحدة العراق على المحك، إما أن يكون العبادي رئيس الوزراء باستعادته الموصل أعاد وحدة العراق وحرية أبنائه، أو أن على العراق السلام حتى لو هزم «داعش»!
1003 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع