عبد الوهاب بدرخان
منذ شهور، ثمة مدينتان عربيتان في الواجهة، كانتا من أهم وأجمل الحواضر، وأي تصفح معمق، أو حتى عاجل، يظهر تاريخهما الممعن في القِدم، وقد كان مشتركاً في بعض الحقب قبل أن تصبحا في دولتين تفصل بينهما حدود رسمت قبل مئة عام، لكنهما أكملتا مسيرتيهما الحيويتين، واستطاعتا أن تبلورا تجربتين إنسانيتين متشابهتين.
ولم يكن متوقعاً أن تعيدهما الظروف إلى أحلك الأيام، إلى ما قبل التاريخ والحضارة، وأن تستبد بهما أكثر العقول تخلفاً في هذا العصر، فتُحاصر حلب وتُعرَّض للتجويع ويُحرم أهلها من أبسط مقومات الحياة، وتُحتَل الموصل من جماعة ظلامية فتخضِع أهلَها بالترهيب وتطبّق عليهم أعتى أنماط التسلط، متنكرةً بالإسلام في أكثر الإساءات انحطاطاً للإسلام.
في أي مسار حضاري يُعتد به تلعب المدن الدور الأبرز، فيها تتمازج التنوعات كافة، تحتك الأفكار والعقائد في تصارع وتقارب وانصهار، وتتخلق الثقافات والتعايشات. قليلة هي المدن التي تشبه حلب والموصل، لكن معظمها يقع في المنطقة العربية، وساهم في صنع روح الشرق المتميز، أو الذي –كان- متميزاً بتعايش أبناء الأديان والمذاهب، ولعله مندفعٌ بتهور واستهتار نحو أفوله الكبير. حلب والموصل كانتا نموذجين لهذا التعايش.
لم تعد حلب التي نعرفها توجد إلا في الكتب والصور القديمة، في المواقع الإلكترونية أكثر ما يمكن أن تصادفه صورةٌ لكنيسة إلى جانب مسجد في الشارع نفسه، عاش أكرادٌ وأرمن مع الغالبية العربية، وعاش مع المسلمين مسيحيون في تجمعهم الكبير الثاني بعد بيروت من السريان واللاتين والموارنة والكاثوليك والأرثوذكس والكلدانيين.
وفي الموصل، كان الأكراد والتركمان والأرمن إلى جانب العرب، وفيما كانت نينوى التاريخية المركز الأهم لتجمّع السريان وكنائسهم كافة، تقاسم المسلمون مع المسيحيين والصابئة المندائيين والأيزيديين والشبك الموروثات وتقلبات العصور.
لم تكن هذه الأقوام لتتواصل وتستمر في العيش معاً إلا بفضل أمان اجتماعي تضافرت جهود الفئات في صنعه، أكثر مما كان ثمرة إرادةٍ سياسية داخلية أو خارجية؛ بل إن ما تشهده حلب والموصل هو العكس، فالصراعات الدولية والإقليمية وظفت كل ما لديها في التكالب على العمران هنا وهناك، على كل الرموز التي تجذب أبناء الأديان والأعراق للبقاء في أرضهم رغم الإكراهات المتكاثرة.
ولو لم يكن النموذجان هما المستهدفين في نهاية المطاف، لما جعلت قبلة المدن العراقية والسورية بؤراً للمواجهات القتالية التي تستقطب الآن القوتين العظميين، لتجربا أحدث ما في الترسانات الروسية والأمريكية من أدوات القتل والتدمير. وليست صدفة أن تكون قوتان إقليميتان، إسرائيل وإيران، مستفيدتين وحيدتين في سعيهما إلى النفوذ والهيمنة على العرب. ولا هي صدفة أن يكون تنظيم "داعش" الذي ساهم الجميع في صنعه هو الذريعة التي يستخدمونها لتمرير مصالحهم.
منذ نشأت إسرائيل وهي تعتبر أن تعايش الأقوام والأديان في الشرق الخطر الأكبر عليها، فجعلت من اختراقه أحد أهدافها الاستراتيجية. حاولت زعزعة النموذج اللبناني ولم تتوصل إلى تحطيمه، وإنْ لم يعد كما كان. دعمت المشروع الانفصالي لأكراد العراق، وشجعت على ترجيح الحكم الأقلي في سوريا، ليبقى هذان البلدان في حال صراعات مشتعلة أو كامنة قبل أن تصبح متفجرة.
وفي سعيها إلى الهيمنة، استنسخت إيران الكثير من الوسائل الإسرائيلية، خصوصاً في التغيير الديموغرافي في العراق وسوريا. ولم يعترض الروس والأمريكيون على هذه المشاريع؛ بل يتشاركون إدارتها ورعايتها.
1010 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع