د. علي محمد فخرو
في العصر العولمي الحالي، الذي يهيمن على كل مناحي مسيرته الموضوع الاقتصادي من جهة وثقافة الاستهلاك النُهم السطحية من جهة ثانية، يتركُز الاهتمام على مسؤولية النظام التعليمي في إعداد الطلبة لحاجات أسواق الحاضر والمستقبل.
ففي كل يوم يجأر السياسيون والاقتصاديون بالشكوى من أن النظام التعليمي لا يخرِّج شباباً قادرين على العمل بفهم وكفاءة في شتَى مؤسسات العمل المحلية والدولية، وبالطبع فإنه لا يوجد أي خلاف حول ضرورة إعداد أجيال المستقبل من النواحي المعرفية والمهنية والسلوكية ليكونوا صالحين لمتطلبات أسواق العمل. لكن هل هذه هي المهمَة الأهم، التي تعلو على كل مهمَة، أم أن هناك مهمَة أخرى لا تقل في أهميتها وضرورة تحقًّقها عن هدف إعداد القوى العاملة لمتطلبات الأسواق؟ ليس هذا بالسؤال الجديد، غير أنه لا يطرح بما فيه الكفاية وبنفس القوة من قبل أنظمة الحكم ومؤسسات المجتمع المدني. ذلك أنه من النادر أن يطرح موضوع مهمًة مؤسسات التعليم والتربية في إعداد الشابات والشباب لمتطلبات الحياة التي سيعيشونها.
من هنا أهمية طرح ذلك الموضوع خلال الأسبوع الماضي في مناسبتين: الأولى في اجتماع بالكويت ضمّ مسؤولين من الجامعة العربية المفتوحة مع مسؤولين من الجامعة البريطانية المفتوحة، والمناسبة الثانية في محاضرة عامة في إحدى قاعات الجامعة الأميركية في بيروت، لقد طرح الموضوع في شكل سؤالين. السؤال الأول: ما الذي يميز الحياة العصرية الحالية التي يعيشها الإنسان؟ والسؤال الثاني: ما المطلوب من النظام التعليمي من أجل إعداد أجيال قادرة على التعامل مع تلك الحياة العصرية؟
السؤالان مطروحان على مستوى العالم، وبالتالي على مستوى الوطن العربي.
الجواب عن السؤال الأول يتلخَص في ظاهرتين عالميتين بارزتين. فأما الظاهرة الأولى فهي ظاهرة التعقَد الشديد لنشاطات الحياة العصرية الذي يقود شيئاً فشيئاً إلى تشابك وتداخل حقول المعرفة مع بعضها بعضا. فمثلاً لو أخذنا حقل الاقتصاد فانه يوًثر على ويتأثًر بحقل السياسة وتقلباتها، وبحقل البيئة المعقَد بدوره بسبب تشابك علوم الإنسان والحيوان والنباتات والجراثيم والمياه وتقلبات الطقس، وبحقول التاريخ والجغرافيا والدين والأمراض النفسية وفلسفة الأخلاق والقيم، إلخ، كل تلك الحقول هي أيضاً تؤثَر على بعضها بعضا ومتشابكة مع بعضها بعضا، وأما الظاهرة الثانية فهي ظاهرة المراجعات الكبرى لليقينيات السابقة الكبرى. كل ما اعتقدنا أن قرون التاريخ الماضية قد حسمته يطرح الآن لعمليات المراجعة والتحليل والنَقد. وذلك من أجل تجاوزه ليقينيات جديدة، إذ هناك مراجعة نقدية لموضوع النظام الرأسمالي العولمي الحالي المليء بالنواقص والأخطار والذي أدى الى اقتصاد الواحد في المئة، أي امتلاك واحد في المئة من البشر لأغلب ثروات العالم في حين ترزح الغالبية في الفقر والعوز، وهناك مراجعة لعلم السياسية، وعلى الأخص للنواقص الكثيرة في الأنظمة الديموقراطية التي سمحت بصعود تنظيمات اليمين الأصولي المتطرف وبوجود أنظمة انتخابات تهيمن عليها احتكارات المال والإعلام، وهناك مراجعات لشعارات الأنوار الأوروبية وللحداثة والتي لم تنجح في إبعاد العالم عن ظواهر الاستعمار والعنف والانحلالات الأخلاقية وشتَى أشكال الظلم.
وهناك مراجعة للكثير من الجوانب السلبية لحقلي التقدم العلمي والتقدم التكنولوجي، خصوصاً فيما يتعلق بغياب الضوابط الأخلاقية والقيمية التي يجب أن تحكم مسيرتهما.
وهناك مراجعة للجوانب السلبية الكثيرة في حقل «الانترنت»، سواء من ناحية سلوكيات وفساد الشركات التي تديره، أو من ناحية أخطار إمكانية محوه للكثير من المهن في المستقبل وبالتالي حدوث الزيادة في البطالة والنواقص الشديدة في فرص العمل، أو من ناحية ظهور بوادر سوء استعمال شبكات الانترنت من قبل الموتورين والمجانين.
إذن نحن نعيش في عالم معقد ومتشابك، وفي عالم خاضع للمراجعات الكبرى. فما المطلوب من النظام التعليمي لإعداد أجيال ستواجه تلك الظاهرتين وستضطر أن تتعامل مع كليهما، فهماً وتفاعلاً ومساهمة في المساعدة على مواجهتهما؟، هذا هو السؤال الذي طرح في المناسبتين المذكورتين. الجواب ليس بالسهل، وسنكتفي بذكر ثلاثة نقاط أثيرت في المناسبتين.
الأولى تتعلق بالأهمية القصوى لتمهين التعليم ليصبح مهنة لا تقلً في الإعداد لخريجيها وفي تنظيمها المهني عن مهن من مثل الطب أو الهندسة أو المحاماة. المعلم الممتهن المطلوب يجب أن يكون متمكناً من متطلبات علم التربية ومتطلبات التخصًص في تعليم المادة التي سيدرًسها ومتطلبات، وهذا بالغ الأهمية، حصوله على ثقافة عامة تشمل مختلف العلوم الإنسانية من مثل التاريخ والآداب والفنون والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والسياسة وغيرها. المطلوب هو المعلًم المثقًّف الملتزم بقضايا أمته وقضايا الإنسانية القادر على تخريج إنسان هو الآخر مثقًف.
النقطة الثانية تتعلق بوجود مقرر مشترك في العلوم الإنسانية تلك يدرسه جميع طلبة الجامعات، أيًا يكون تخصُصهم، لكي يستطيعوا التعامل مع ظاهرة التعقُّد الحياتية التي ذكرنا ومع تشابك العلوم ومع القدرة في إدماج العلوم لتخدم ممارسة اختصاصاتهم في المستقبل.
النقطة الثالثة تتعلق بوجود مقرًر مشترك لجميع الطلاب، أيًا يكون تخصصهم، يتعلق بطرح المراجعات الكبرى التي تجري في العالم، حتى يكونوا على بيًنة بما قد يحمله المستقبل من تغيرات فكرية وقيميًة.
تلك النقاط الثلاث ستحتاج للعودة إليها في المستقبل، لإبراز أهميتها في جميع المراحل الدراسية، وليس المرحلة الجامعية فقط، وللدخول في تفاصيلها، وخصوصاً موقعها في الواقع العربي المأساوي الذي نعيشه الآن.
588 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع