محمد حسين الداغستاني
الدهشة ... مخاض الكلمة العسير !! (*)
قراءة في نصوص للشاعرة آمنة محمود
" لا خلق وبالتالي لا شعر إلاّ إذا إستطاع الشاعر بالمراس الشديد والأخلاص العنيف أن (يحني ) اللغة لمنحنى فكره بدقة "
تي . أي. هيوم
في بدايتها حين ولجت الساحة الأدبية والشعرية , لم يتسن لي الألتقاء بها سـوى لبرهة ٍوجيزة في إحـدى المناسبات الثقافية البعيدة , لكن إسمها ظل يقفز أمامي بين آ ونة وأخرى مع عدد من نصوصها الأولى وهي تشق غمار دربها الشائك , فتهيأت لي فرص الإطلاع على بعض نتاجها الإبداعي , لقد وجدتها خلال تلك النشريات إنسانة موهوبة تجوس هائمة في ثنايا الأسطر والجمل , تمارس الكتابة بأسلوب حديث ، يتلبسها شيطان الشعر، ويضنيها التعبيرلرغبتها في تفادي اليسير المانع ، والسهل المألوف .شجعني ذلك للعودة الى كتاباتها السابقة لأمعن النظر فيها وأتعرف عن كثب على شاعرةٍ مبدعة ، تتخطى حواجزاللغة ، وتستكين الى فئ الحرف ... شاعرة إسمها آمنة محمود ! (**)
ولأنها أدركت أن من أساسيات الشعر أن يفلح الشاعر في تطويع المفردة اللغوية ، أي أن يحقق تلك السيطرة الكلية التي تفرضها البناء اللغوي على مجمل النص , التي في النهاية تستهدف الضغط على الكلمة بشدة لإنتزاع أقصى مكنوناتها في التعبير عن إتجاهات الذهن ، والتي هي الأخرى ناجمة عن شحن الحرف بكـم ٍ هائل من التأزم و التوتر , فقد تاقت الى التعامل مع العقدة في النص رغم قصره الشديد أمام النهاية غيرالمتوقعة ، وخلق الدهشة التي هي إحدى أساسيات الشعر الحديث . قالت في (كلمات ليست للبيع ) :
أعلم ُ أنك لم تكن تقصد
حين طعنتني في فؤادى
أقسم إنني أعلم
لم تكن تعنيها في الفؤاد
لولا انني إلتفت فجأة إليك ، تلك اللحظة !
لقد نجح النص في التعبير بصورة دينامية فاعلة عن مدى القسوة والحقد والغدر الذي يمكن أن يمور في دخيلة الفاعل حين يسفرعن دواخله الرمادية ، وينوي غرس سكينه في ظهر حبيبته ، فالطعنة النجلاء كانت في طريقها الى المقصد وتلك أعلى مستويات الخيانة ، وإذا بها تغور في الصدر لأنها كانت قد إلتفتت إليه في لحظة الطعن !
يؤكـد (ألن . آر. جونز) أستاذ الأدب الأنكليزى في جامعة هل سابقا ً في كتابه ( حياة هيوم وآرائه ) على أن التناقض الظاهـر هو مصدر السحر الكامن في الشعر , فهو لا يعمل في النفس عـن طريق الذهـن ( المنطق ) بقدر ما يفعل عن طريق الحدس , ذلك الحس الداخلـي الفجائي الذي يمتاز به الخلاقون ويحاولون إثارته في أنفس الآخرين بإبداعهم ، وهذا كان واضحا في تضاد الفعل في النص بين ماهية القصد وبين المتحقق الفعلي :
ولإن الشعر فن ٌ لصناعة الدهشة ، لذا فقد نجحت آمنة بنصها الفريد هذا أيضاً في تجسيد الومضة الشعرية البارقة من خلال التكثيف الشديد والمهارة التصويرية التي تستفز عقل وفكرالمتلقي لتمنحه المتعة الروحية الفائقة ، إمتدادا مع عبارة الجاحظ الشهيرة (فإنما الشعر صياغة وضرب من النسج و جنس من التصوير) .
وفي نص (إهرامات رملية) تعمل آمنة بقوة على تعزيز قدرتها التصويرية ، وإظهار مدى ما تتحلى به من براعة في معينها الشعري ، واعتمادها أسلوبا سايكولوجيا مفعما بالمعاني ومشاعر الخيبة لتؤطر دهشتها في هذا السؤال المرير :
لديك وجوه عديدة
كيف يمكنك غسلها جميعاً كل صباح ؟!
و
بينما كنت أتفادى واعية سهام عشقك
أصابني في الغفلة شي من غدرك !
وتتراءى الصور الخلاقة في النصوص الأولى لآمنة فتذهب حيث تتقمص بطلتها السماحة والإنسجام العاطفي في محاولة لإخفاء الحقيقة الصادمة التي تتناقض تماماً مع ما تعلنها على الملأ ، وتلك مأساة في غاية التعقيد نتيجة ترويض النفس القسري على القبول بغير ما تؤمن به :
حتى يجمع كلٌ مناّ أشلاءه من
أرض غيره
سنبقى أمام الدنيا
أعز صديقين !!
ورغم أن الجرأة تتآلف مع الوعي المنفتح والأنتقاء المركزللحدث في نصوص آمنة , فإن معاناة الأنثى في مجتمعٍ ذكري تتضاعف ، تحسبا ًمن الوقوع في مربع سوء الفهم , لكن ما العمل والشحنة الهائلة التي تمور في الأعماق تحتاج إلى سبيل ٍ ومنفذ ؟ وهكذا جاءت آمنة بطراوة ومباشرة , تتلاعب بالكلمة لتجسد ما تريد في ( إفتراضات مؤكدة ) :
أحيانا أكون جريئة
أحياناً يقال عن الجرأة وقاحة
كثيرا ً ما تبطن الجرأة بالوقاحـة
كثيرا ً ماتغلف
الوقاحة بالجرأة !
وفي خضم صراعها الداخلي ، تدفع آمنة برأسها خارج الذات لتعيش مأسأة مدينتها وناسها , وتستعين بالنقاء الذي ترمز إليه بالطفل الصغير الذي يجابه تحديات الإشكال الخارجي المؤلم :
طفل صغير ، يحمل مدينة كبيرة
يقف في متوسط الجرح !
وأدركت آمنة في وقت مبكر أهمية توظيف االلون بإعتباره عنصراً مهماً من عناصر البناء الفني للنص الشعري وفي إيصال الفكرة الى المتلقى , ذلك لما للون من دلالات عميقة وإنعكاس إيحائي وتأويلي عميق شكلاً ومضمونا ً، فضلاً عن إمكانات اللون الساحرة وخاصة اللون الأخضرفي إضفاء السمة الجمالية على النص ليتحول الى طاقة مشعة تفسر الدلالات المخفية فيما وراء السطور .. لكنها هنا تناقض معطيات الأخضر بإعتباره رمزاً للإستقرار والجمال والنماء ، بل وترفضه لأنها معنية بالصراعات الدائرة في أعماقها مشيحة بنظرها عن عرض السلام والتوأمة ..
قلم أهديتنيه لست أريده
هو لا يكتب إلاّ بالأخضر
ذلك لون لا يتفق مع حروبي الداخلية !
في إحدى لقاءتها المتأخرة قالت آمنة : (إن زمن الكتابة بالحبر الأبيض إنتهى ، وإنني أتعلم فن النظر من شقوق الجراح بطريقة حضارية .. تغيرتُ كثيراً أصبحت أردم جراحي بالقصائد ..) لكن آمنة كانت منذ البداية قد إستدركت القيمة اللاشعورية لتفاعلات الحب ، فعادت في نصها (بدايات ربما نهايات) لتعلن الهدنة بين الفؤاد وبين نصوصها المقاتلة التي تستفز الذهن , وتشـــعل الحرائق , وتتناغم مع التوتر والتأزم وتنحي بإتجاه توظيف المنحى الرومانسي المترع بالرقة والأمل والتفاؤل ، لتضفي على نصها جواً من البهاء والنور وتوحي أيضا ً بالإرادة القادرة على تجاوز الألم والمعاناة بإتجاه الأفق الذي كان يبدو بعيداً جداً ...
صباح الخير حتى في المساء
لأن الشمس لا تشرق إلا لهذا البهاء !
و
أقبلتَ فأبتسمتْ جراحي
ومضيتَ فأبتعد الأفق !
بهذا العنفوان إقتحمت آمنة البوابة السحرية لمملكة الشعر !
آمنة محمود ... سارت بعد أن تأبطت نصوصها المبكرة بتؤدة وإصرار على بلاط الشعر المرصوف بعناية , لترتقي معترك البحث الدؤوب عن الحرف الصعب ، والكلمة المضيئة ، والومضة التي تفجر شلال الدهشة مُشعلة ً الحرائق في بنية النصوص القادمة ، وواشيةَ بالأحلام المحتشدة على باب الرجاء واليُمن الوفير بعد أن إمتلكت أسرار المقاصد الخفية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشر المقال في جريدة الاتحاد اليومية / بغداد بعددها الصادر في 17/1/2016 .
(**) آمنة محمود .. شاعرة وناقدة من كركوك لها مجموعتان شعريتان مطبوعتان : (فراشات آمنة /2010 ) و (كتاب الحب / 2012) .
3853 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع