السطوة الثاقبة!! (*)

                                                        

                         محمد حسين الداغستاني

              

        

 السطوة  الثاقبة!! (*) قراءة في المجموعة  القصصية ( كسيح أمام المرقص)للاديب قحطان الهرمزي  (**)


" من أشباح الماضي أصنع ليلاً مريحاً ، إن الحاضر الراهن شمس لوشئت ، والمستقبل سماء زرقاء ، وإذا كان نظرك حاداً فإنه يخترق الجدران ويتجاوزها ، فإذا الجدران لا تحجب الأفق "
  يوجين يونسكو / الهروب

  توطئة

يخشى الكثير من كتاب القصة السياسية الوقوع في مصيدة المباشرة والتقرير ،   وعلى الضد منهم واجه قحطان الهرمزي في مجموعته القصصية القصيرة ( كسيح امام المرقص) ـ هذا التحدي في جملة من الإختيارات الصعبة لتطويع الفكرة ولإضفاء بعدٍ إبداعي على نتاجٍ أدبي يتناول بلغة ٍ سلسة ، هموماً تضج مضاجع الآخرين ، في مجتمع ٍ بدأ يفقدُ نضارته ، ويتراجع فيه التآلف الى بُعد ٍ مريع ، فيما جهد الهرمزي نفسه للبحث عن الأسلوب الأمثل لتجسيد رؤاه السياسية والإنسانية ، فيلج مسلكاً شائكاً ، متمترساً بأدوات دقيقة تتمثل بالإنسابية والتبسيط ، في مواجهة مواضيع في غاية الحساسية والتعقيد كالمدينة الهلامية المهددة بالتغيير والتطهير العرقي والإستيطان القسري ، والإنتماء والهوية والمصير الواحد .. واخيراً وربما أولاً الحب !
 والبساطة المقترنة بمقتربات الرمز والإيحاء سمةٌ لازمةٌ لأدب قحطان الهرمزي منذ عقودٍ مضت ، وها هو يعود لأسلوبه المعهود في مئة قصة قصيرة وقصة متلاحقة ، إستطاع بحرفيةٍ عالية أن يأخذ بتلابيب القارئ ليقحمه في مسائل ٍملّ منها وعزف عنها منذ زمن طويل ، إنه يتكلم عن حب ٍ آسر وإنسان ٍ تكالبت عليه العسس والهوام ، لينتزعوا منه داره ، ومدينته الجميلة الآمنة ، وحتى إسمه الذي لا يملك غيره ، فكان عليه أن يتكأ على الخبرة المحكمة لهذا الأديب الفذ ، ليطرح قضيته أمام الملأ ، بجملٍ عادية  ، غير مركبة ، تتصدى لمعادلة ٍ صعبة ، ومعقدة ، أي الى وضع مشروع البساطة في مواجهة مأزق الإنفلات من الوقوع في شِرك الإسفاف الأسلوبي ، فإختار مفردةً بديلة ، موحية ، وسخية ، وحيّة ، مفردة تجسد المعنى وتصيب الهدف ، بلغة ٍ رمزية مفعمة بالإحساس والمعاناة والتدرج بالحب المزدوج (الإنسان/ الوطن) و(الحبيبة) الى حيث الدهشة ، في تلقائية ٍ فريدة تتحدى أحياناً حتى قدرات اللغة التقليدية .
فالرمز إذن في قصص( كسيح أمام المرقص) ليس هو الرمز الذي يصفه الناقد الكبير إدمون ولسون في كتابه الممتع (قلعة أكسل) ، بأنه محاولة إيصال مشاعر ٍ شخصية  عن طريق وسائل مدروسة بعناية بواسطة (تداع ٍ معقد للأفكار) ناجم ٍ عن خليطٍ من الصور ، الرمز في هذه المجموعة تعبير عن قضايا يومية ، وهموم مؤرقة معتادة في حياة شريحة من الناس هم جزء من عائلة الوطن الكبيرة ، كما أنه تجسيد لأحداثٍ تجرح الإنسان في الصميم ، بفعل شبكة من التأثيرات السياسية المخطط لها بدهاء في أقبية سرّية معتمة ، ولكن بلغة ٍ غير مباشرة ، لذا إختار الكاتب توظيفه في مفردات تحمل أكثر من تفسير ، بحيث لا تعين على خلق أداة جديدة تضاف الى تراثٍ ضخمٍ من تلك الأدوات القسرية التي حطمت إنسانية الإنسان ، وجردته من أبسط حقوقه في الأمان والقوت اليومي، وعزاؤه في ذلك إضفاء مسحة من الأمل على عالمٍ يعتريه العنف والظلم والعقم والفوضى  ، عبر خلق ٍ إنساني فني رفيع ، يجسد ذلك الأمل النبيل ببراعة ناجحة محسوبة  ، وصقل ظاهر ممتع  !

المدينة .. الدخيلة الصامتة !
يبرر بطل (كلا) إنهيار منظومة التعاضد الإجتماعي في المدينة من منطلق عمومية المشكلة التي أحاقت بالجميع دون إستثناء ، فطبيب الباطنية في القصة قال :      

إن رئتيك لم تعد تتحملان هذه المدينـــــــة فعليك مغادرتها فوراً ، ثم سأله بعد ان وجد منه الرفض : هل يمنحك أحد من مواطني هذه المدينة الذين أحببتهم رئتيه ؟ أجاب : كلا .. قال : لماذا ؟ قلت : الإصابة عامة !!  

وتلك معضلة لا حلّ لها كما يبدو ، إلاّ ان تحديد حجم هذه المعضلة والتصدي لها يوجب أصلاً أن يدرك الجميع حجمها ، وأن يواجهوا ظاهرة (الغرباء) الذين إنتشروا في نسيج المدينة كالأرضة أو الفيروس ، لا بل إحتلوا الدور ، وشردوا مالكيها وسكانها حيث الخيام الكبيرة المنصوبة أزائها بوقاحة لا نظير لها ، خيام تقضم نوازع الكبت المكظوم والغضب المضطرم بفك ٍ مفترس !
هذا الفهم قد يبدوا بسيطاً للبعض ، لكنه عارمٌ بالعاطفة ، فالمدينة جذرٌ ومنبت ، والمدينة نسغ شجرة الحياة  ، تمدّ الإنسان بعصارة التواصل ، وهي ذاتها ، مشحونةٌ بالإحتمالات المتعددة ، ومنها أن يخسر الإنسان وعيه فيها بإرادته ، وهذا الإحتمال يتوافق مع مضمون قصة الغلاف  (كسيح أمام المرقص) حيث يجد البطل ضالته في مشرب المرقص القريب :
من الخيمة المنصوبة في العراء ، حدّق الرجل الى الدار الكبيرة القائمة أمام الخيمة .. إستنفر قواه من خلال صمته الذي يمور بإصطخابٍ مكبوت ، ولكنه لم يستطع أن يتذكر ما حدث ، إن هاجسه المضطرم كان يُشعره بأن الدار داره ، وكان هو وعائلته يسكنونها تحت ظلال وارفة من السعادة : ما الذي جرى ؟ ولماذا هو الآن أمام المرقص كالكسيح ؟ ومن هم هؤلاء الغرباء الذين حلوّا محله في داره؟  تذكر ولده في قاعة الإعدام .. غاص في عمق شعوره وتمتم : يجب أن يلتذ المرء بالشراب حتى ينهار كل شئ حوله.

الغرباء هم الذين تبادلوا الأدوار،  فسكنوا دارصاحب الداربالقوة الغاشمة ، فيما لاذ الأخير من هجير العسف الى الخيمة الكبيرة ، إنها مأساة الإنسان في مدينته عندما تنهار من حوله المرئيات والموجودات بل والقيم الداعمة لوحدة النسيج الإجتماعي والإنساني التي تضمن وحدة الأوطان والبشر . فالغرباء كما في قصة (المسافر قسراً ) لم يكتفوا بإغتصاب الدار وإنما إمتدت أيديهم الى محتوياتها الزاخرة ليحشروا حجم حقيبة سفرصغيرة واحدة فقط وقالوا له : خذها وإرحل ، وكان عليه أن لا يعترض ، لكن ..

أدركتُ أن العيون المحدقة اليّ والمتطايرة شررا ًسوف تحرقني إذا أتيتُ بأية حركة ٍ معاكسة ، لذا كان عليّ أن أسافر بلا حقيبة !.

فإذا كانت مأساة المدينة الضبابية ، الضائعة ، المنكوبة ، المتداعية في العقل والقلب معاً ، ترتقي الى مستوى الفاجعة ، وتتغلل عميقاً في سلوك المؤسسات القمعية المتراصة مع الغرباء في إجتثاث إبن المدينة من ترابها، فإن مأساة الإنسان لا تقل عنها ، إلاّ أنها مأساة إنتماء وهوية ، وتلك لعمري أبشع حالات الإضطهاد التي تستهدف الإنسان في زمنٍ يفترض إنتمائه الى عصرالمساواة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني .
     وقد يظن القارئ بأن إنسان قحطان الهرمزي مهزوم في داخله ، يختار التقهقر الى الوراء ، بل هو مجرد كيان ضائع لا يدرك ما يدور حوله ، خاصة ً أن (الغرباء) باشروا بنصب جسر بين ضفتي المدينة حيث بدأ الناس

يطأونني أثناء عبورهم من والى الضفة الأخرى ، وعندما لم أجد أحداً أعرفه بين العابرين ، إبتسمت في ذاتي إبتسامة أسف وأنا أقول :  يا للغفوة لكم إمتلأت مدينتي بالغربــاء وأنا لا أدري ؟ 

ـ قصة الغرباء ـ

لكنه ذات البطل الذي لا يكل عن المحاولة ، إنه سيزيف كركوك وهذه ميزة  نادرة تسجل له  ، فتسلق الجبل العاصي لإعادة حمامة عنيدة الى عشها محنة يومية شاقة ، فلا هو يستطيع رفض المحاولة ولا الحمامة تكف عن الطيران ، لذا فهو يظل يصعد ويهبط وتظل الحمامة تحط وتطير ، فيفقد الزمن هنا خاصيته بإعتباره جزء من أجزاء المد الكوني ، إنه يعود ويعود مفجراُ نفسه كالقنبلة المتشظية على إمتداد مساحة العمر كله !  
   هل إكتفوا بتهجيره وسلبه مدينته ؟

يوماً بعد يوم رأيتني أتضاءل ، ولما وجدوا ضخامة مخدعي لم تعد تتلائم وجسمي الضامر المنكمش على نفسه بفعل عمليات تقطيع الأوصال التي مارسوها ضدي طعنوني الطعنة الأخيرة وألغوا إسمي من سجلات الأحياء وكتبوا على إضبارتي : ليس له حق الحياة !
 
الإنسان .. مقهوراً .. متمرداً

لنسلم إبتداءً بأن الخيط المشترك الذي يربط قصص المجموعة يتمثل بالقهر اليومي ، والنهايات المنطوية على الحزن ، وفي التشتيت القسري عن مدينة  مهددة بالضياع في جحيم من الإحساس بالقلق ، فيكرر أبطالها أنفسهم من خلاله بشئ من الإلحاح الممض الذي قد يقود الى الملل أحياناً ، ومثلما وجدنا فأن الموت رغم أنه لا يقهر العشق ( ألم نتفق على لقاءٍ في زاوية من زوايا الجنة ؟) ، فإنه من الطبيعي أن يجد القارئ نفسه  بعد كل قصة أمام تساؤل ٍ منطقي : ما هو الجديد في القصة التالية ؟ ، فالشخصيات والمواقف والأمكنة ولحظات الألم والكبت والعزاء ، هي أنساق مسلكية  ،وكل هذه المعطيات السيكولوجية والسيسلوجية تنبع من نفس المعادلة وتؤشر الى المغزى ذاته ، لكن الذي يدفع القارئ الى المجاراة حتى النهاية ، هو ما تتمتع به بما يسميه (ملارميه) أكبر شعراء زمانه الفرنسيين بـ (كبرياء الحياة الداخلية) ، ذلك لأن البطل (صبور ، غير مكترث، فيه رقة مع شموخ، وهو يتأمل قبل أن يتكلم ، ويصوغ دائماً حديثه في صيغة سؤال) ، والكبرياء هو الذي يقود الى التوتر الذي أصله الحياد والدعة الحقيقية ، وكأننا في حضرة ذهنية فلسفية تسعى الى فهم الأسباب والدوافع ، وتربط بين عناصر الفكرة المتباينة لبلوغ الذروة .
لنتريث برهة ونسأل : هل المرارة تكمن في إنحياز المرء الى ما لايريده لنفسه من الإمتهان الشكلي ، والمذلة الظاهرة ؟
     
عندما كانت القوافل تسير ، تعلقتُ بأثواب قافلة متقدمة ، قائلاً : وأنا ؟ ، قالت القافلة : ودورك في المسيرة ماذا يكون ؟ أجبتُ بسرعة ٍ خارقة : النباح ياسيدتي ! ـ النباح ـ

من الواضح أن سلب إنسانية المرء ، آدميته ، هو جزء من مؤامرة فعلية ، وهو حافز مقنع لرفض هذا الهوان ، ولو بأقل الإحتمالات تواضعاً ، أي في إمتناع كلامي لايقترن بفعل ٍ عنيف ضد هؤلاء العتاة :

سلبني كل ما أملك !  
* ماذا فعلتَ ؟  
ــ  قدمتُ شكوى ضده  
* لن ينفعك  ـ
ـ كيف أسترد ما سلبه إذن ؟
* بالقوة  ـ
ـ ليس لي القدر الكافي منها   
* إذن إسحب شكواك !
ـ الشكوى ـ
     
إنهم يستكثرون الشكوى ، مجرد الرفض غير المقترن بالفعل ، ولكن بالمقابل هناك من ينفخ في الروح عسى أن يدفعه ليقول ( كلا)  فقط .
عندما إنفعلتُ تمتت شفتاي لا ، قال عما قليل ستهدأ وتقول نعم ، ونادى : إجلبوا السياط !)
                                                                                      ـ الرجل الذي قال لا  ـ

التقهقر الى الداخل خيار شائك ، هناك في القعر المنزوي بعيداً عن أعين الآخرين ، يجد الفرار ضالته في حديث ذو شجون ، يتجاهل ما حوله ، يهيم في الطرقات  ، ولا يدرك للأسف أنه يفتقر الى خصوصية باتت هي الأخرى عسيرة المنال :
    
كنتُ أسير في الشارع وكان رجل البوليس يمشي خلفي في الشارع نفسه، ظهراً رجعتُ فوجدتُ سكان المحلة كلهم في بيتي ، ولما سألتُ :  ما الذي جرى ؟ اجابوني في دفعة واحدة : بل قل لنا كيف نجوت ؟ 

ـ رجل البوليس ـ .

في دخيلته رفضٌ مذل ، بل وصراخٌ صامت ، لإنه الفعل المحرك الذي يعصف في صدره ، وفي شرايينه ، ولا يستطيع أقرب الناس إليه أن يدرك أبعاده ، إنه ذلك المبهم المستحيل ، الرائع الرهيب ، الذي يجعل الخوف يسطع كالبرق ثم يختفي ، إنه الخوف الذي يقود الى أن لا يكون من يكون !!
في قصة (من أنا) طلب منه رجل السلطة بطاقته فعندما قدم هويته التقاعدية التي تثبت كونه موظف دولة متقاعد طالبه بدليل ، وهكذا في سياق مسلسل البرهان على كائن موجود ، قدم له الجنسية العراقية  ثم هوية الأحوال ، ثم بطاقة السكن المصدقة .. ثم عرفه بنفسه . إلا ّأنه ( عن طريق جميع هذه البطاقات والتي تحمل صورتي الشخصية الحديثة لم أستطع إقناعه من اكون ؟ بدأت أحاور نفسي : إن لم اكن من خلال هذه الأدلة القطعية :  قحطان الهرمزي .. إذن من اكون ؟ )

إنه لا يكتف بإزاحة الستار عن البطل ، إنه يبادر الى تحطيم الحائط الرابع لنكون معه على مسرح الأحداث وجهاً لوجه !

ولإزالة سوء الفهم ، لندلف الى أجواء واحدة من اجمل وأروع قصص المجموعة من حيث الدلالة والمعنى ـ الإحتلال ـ والتي كتبت عام 1994 ، وقال عنها قحطان الهرمزي بأنها قصة حدسية ، وهي كذلك ، لإنه شكلت إختراقاً لجدران لم تتمكن من حجب الأفق نحو المستقبل ، والقصة تحكي وقوف البطل أمام الضابط الذي هو الحاكم العسكري المحتل للمدينة (!) ، منتصباً ، شامخاً ، متحدياً ، فيسأله الحاكم عما إذا لقي معاملة غير لا ئقة عند إستدعائه فينفي ذلك ثم يسأله  : لقد درسنا طلبك ، ألاّ تنوي بناء دار تسكن فيها عائلتك ؟ ألم يمض على طلبك خمسين عاماً ؟ ثم سأله : لماذا كانوا يرفضون طلبك ؟ فيجيبه : كانوا يقولون أنت ضيف والضيوف لا يبنون بيوتاً . يعود الحالكم ليسأل بخبث ٍ لعين : خمسون عاماً تعيش على هذه الأرض ويعتبرونك ضيفاً ؟  فيجيبه : بل الآف السنين ، هي أرض أجدادي من السومرييين الى الآن ، ثم لندع القصة تكمل نفسها :
 
هز الضابط المحتل رأسه بأسف وقال لي : الآن أنت حر في بناء بيتك وإقتناء ما تريد . لحظتئذٍ مرّت أمامي  وجوه الحكام السمراء الذين كانوا يستدعونني .. كان حراسهم يسوقونني إليهم بالسياط يلهب ظهري وأنا معصوب العينين بخرقة سوداء ، وكنتُ دائماً أصل الى المسؤول فاقد الشعور ، مشوش الرؤيا ، دامي الجسد ، وكان المسؤول يمطرني بدوره بوابل من الشتائم ، ويمطر الحراس بشتائم أقبح لأنهم لم يؤدبوني جيداً . ثم يعود ليقول لي : لا حق لك في بناء سكن ، انت ضيف .. أفهمت أنت ضيف ، وفي إحدى المرات بغتة جاءتني شجاعة  وقلت للمسؤول : وهل من الأصول سوق الضيوف الى جبهات القتال الأمامية ؟
وبقامتي المنتصبة نفسها ، وبنبض ثابت لقلبي مضافاً إليهما حبي لوطني قلت للضابط المحتل : أرفض طلبكم !!  .

 يا إلهي .. إنه قاب قوسين او أدنى من حلم العمر، جدوى حياته الطويلة المعجونة بالألم والإنتظار ، وإذا به يرفض العطاء القادم من محتلٍ يهب ما لا يملك ، ذلك لأنه كان وفياً لكل تلك العذابات .. لا أيها المحتل أرفض عطاياك !
إنك أيها الكاتب الممنوع من الصرف ، امير أسطوري تجيد لغة القرون السحيقة .. تنحاز الى الوطن الجائر دون مواربة ، وتركب متن الريح العاصف لتمرق الى القلب دون إستئذان  !
       
الحب ..مكشوفاً

وكالمزنة الباذخة في يوم قائظ ، تطل الحبيبة ، ومثلما يقول وليم بتلرينس .. إنها تشكل صوت الوحشة ، الصوت الصارخ في البرية ، الصوت الواعد في النهاية بالخلاص ، لكن الحبيبة المغرمة كالوطن الجريح ، كالناس الملسوعين بفقدان القدرة على التعبير عن الرأي الآخر ، تعاني هي الأخرى من داء الصمت وفقدان أداة التعبير !
   
( في مطعم صيفي ، إتفقنا أن نأكل سمكاً ، ولما جاءت صينية الأكل بدأنا نلتهم محتوياتها ، وعندما تمت مراسيم الأكل وجدنا السمكة لم يلمسها أحدٌ من .. وعند مغادرتنا للمطعم تحسسنا أننا بلا شفاه !)                                                              ـ في مطعم صيفي ـ
    
و( ثلاث ساعات جلسنا جنب الى جنب صامتين ، لا يكلم أحدنا الآخر ، ولمّا إنتهت الجلسة  قالت لي : لم أرتو من حديثك بعد !)                                   ـ الصمت الناطق ـ

وعلى مائدة المرأة الباذخة لا مفر من الحديث عن موضوعها الأثير لدى قحطان الهرمزي ، ربما يظن القارئ نفسه عندما يغوص في كنه الصور الأكثر جرأة في كتاباته و ضمن المفاهيم التقليدية إنه امام نتاج ٍ صارخ ٍ ينتمي الى الأدب الإباحي ، فسطوة الجسد الذي يئن تحت وطئة الرغبة المحمومة في هذه الكتابات ، هي ذاتها سطوة النفس الثاقبة التواقة الى الإنعتاق والحرية  والتحليق في الفضاء اللامتناهي ، إلاّ أن التعامل  وفق هذه المعالجة الجاهزة والأحادية لأدب قحطان الهرمزي في المرأة والجنس لن يكون منصفاً .
وفي مجموعة (الكسيح أمام المرقص) تنهمك قصص مثل ( الرضيع ، حمامتان ، نهداك للمرة الألف ، نهداك للمرة بعد الألف ، طيران ... ) في إثارة زخم شجي من هذا الأدب الرومانسي المعجون بالواقعية (الصدمة) والمثير للجدل ، وفي طرح ٍ يجعل المتلقي كالمراهق الذي يشهق لمرأى إمرأة عارية للمرأة الأولى في حياته  :
       
( تطلعتُ الى نهديك النائمين من خلال فتحة قميصك ونحن جالسان تحت ظل شجرة صنوبر شامخة ، ولما قلت : هل أوقظهما بلسمة ٍ من يدي ؟  قلتِ : لا  ، قلت : لماذا ؟ أجبتيني : إذ توقظهما سوف يأويان الى حضنك ويتركاني وحيدة أتألم في غيابهما ) ـ نهداك للمرة الألف ـ   

إلاّ أن الجنس هنا موضوع ٌ سام يرتقي الى مرتبة التقديس ، إنه سيلٌ متدفق من الأحاسيس  الراقية كما لدى كيتس وأراغون ومحمد الماغوط ونزار القباني وأدونيس وغيرهم ، فالشفتان نذير نضج ســـنبلتا  قمح ٍ ممتلئتان تتناجيان في الحقل المجاور ، والحلمتان مزنة صيفٍ مدهشة تشيع النماء في الجدب  وتمنح الوليد نعمة الأمان ، والقبلة رمزٌ زاخر بمدلولات توّحد الجزء في الكل ، إنها بمجموعها متوالية زاخرة من العصف ، ونبع يتفجر بين الصخور في هجير الظمأ المقدس ، في مفردة تضج بالنبل والرقي ، تكتسح وجل العشاق وخجلهم الطفولي .
( عندما داعبتُ حمامتيها العاريتين ، قالت لي :  ولما الإندهاش من صخب غرورهما ، ألستَ الذي عودتهما أن يقتاتا إلاّ العسل في جوف يديك ؟ ) ـ حمامتان ـ
بهذا الفيض من التلقائية ، أقحمنا قحطان الهرمزي الى عالمه المسحورمع كسيحه  الفيلسوف الواقف أمام مسرح التناقضات والتآلف صعب المنال ، وهو في السياسة والحياة يجد أنه بالتسامح، لا بل بالحب وحده يستطيع أن يقمع السطوة العمياء الثاقبة ، وبه أيضاً يفتح مغاليق الأسرار والدخائل ، ويسترد الشهيق المتلاشي في بيداء العنت ونداء الجسد المحموم .  

هذا ما فعله صديقي المفضل ، لقد إنحاز في النهاية الى القلب تماماً !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)نشرت الدراسة في اسبوعية (الاديب) بعددها (153) الصادر في 10/ 10/ 2007
(**)   أديب وشاعر وكاتب مسرحي باللغتين العربية والتركية  . ولد في العام    1936 ونشـر الكثير من القصائد والقصص والمسرحيات  في الصـــحف المحلـية والعربية , له عدد من المجاميع المطبوعة منها ( أيام شديدة البؤس) و ( نخب العالم المنهار ) و ( كسيح أمام المرقص) و(قارب في الصحراء)  و ( الخروج من الجنة ) والأخيرة صدرت باللغة التركمانية  ، هو أحد مؤسسي جماعة كركوك ،  توفي في نيسان من العام 2009 م اثر نوبة قلبية مفاجئة وذلك اثناء مشاركته بمؤتمر في إسطنبول بتركيا .  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

617 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع