بقلم: الدكتور عصام شرتح
الفكر الحضاري المتطور في كتاب "إشكالية التربية والتعليم وإعادة إنتاج التخلف في الوطن العربي")لمؤلفه علاء الدين الأعرجي
لاشك في أن البحث في قيمة الفكر الحضاري لدى أي كاتب، أو مؤلف تظهر من خلال منتوجه الفكري، وحسه الإبداعي، وعمق تحليلاته للمواقف، والأحداث الجارية، وتحليلها بعمق، ووعي وشمولية، وإدراك معرفي ،شامل، بالمواقف، والأحداث الجارية على أرض الواقع. وأول ما يلفتنا في مؤلفات الأعرجي، دقة المصطلحات وتعريفاتها، وبُعد مراميها، وقوة المحاكمة العقلية في تحليل الوقائع والظواهر، بعين الحسّ الجمالي، والخبرة المعرفية، والمنظورات العميقة. ولهذا، تجده يطرح الكثير من القضايا بوعي، وإدراك، وفهم شامل لمختلف الأحداث، وتحليلها بعين ثاقبة، ورؤى دقيقة، تنم عن مهارة في الكشف، والتحليل، واستقصاء الظواهر، واستخلاص الأحكام، والرؤى، والمقترحات.
ومن يدقق في مؤلفات الأعرجي يلحظ أنها متكاملة، مترابطة، وكأنها سلاسل تشد بعضها بعضاً، وتطلب بعضها بعضاً، وهذا ما يجعل من فكر الأعرجي خلاصة معرفية شاملة متكاملة، ولذلك، لابد للقارئ العربي من متابعة هذه الأعمال مجتمعة، ليقف على عمق المخيلة، وبداعة الفكر النيّر الذي يملكه الأعرجي، وبُعد المنظور التحليلي الثاقب، لما تعانيه أمتنا ماضياً وحاضراً، وما هو متوقع لها مستقبلاً.
وبتقديرنا : إن الفكر النير، والمهارة في الاستقصاء، والتحليل، المدعوم بالأمثلة الواقعية التوضيحية ، هي من مغريات هذه المؤلفات على الصعيد الفكري. فالأعرجي لا يقف على الظاهرة منعزلة، وإنما يربطها بالظواهر الأخرى.
ففي كتابه الموسوم بـ( إشكالية التربية والتعليم وإعادة إنتاج التخلف في الوطن العربي)، يقف على ظاهرة التخلف في مجال التربية والتعليم، ويرصد أسباب التخلف، وانعكاسه على الفرد، والأمة والمجتمع، خاصة مجتمعاتنا العربية التي تغط بظلام دامس، من الجهل، والتخلف، والأمية؛ ويرى الأعرجي: "أننا قصرنا في أمور كثيرة، منها على سبيل المثال: أننا لم نأخذ بناصية العلم، والتكنولوجيا منذ البداية، ولأننا لم نخلق قاعدة رصينة لأولادنا، وتمسكنا بقشور تراثنا، وتركنا أصوله التي تدعو إلى أخذ الحكمة من أي وعاء خرجت، وكل ذلك، لأننا خضعنا لعقلنا المجتمعي الذي تبلور بوجه خاص خلال الفترة المظلمة. كما خضعنا لوليده الشرعي: عقلنا المنفعل الخاضع للعقل المجتمعي المتخلف".
ويرى الأعرجي في فكره النير:"أن من الأسباب الرئيسة لتخلفنا،هي عدم أخذنا بالعقلانية والعلم، وكذلك فشلنا في تقديم التربية الملائمة، والتعليم الصحيح والجاد للإنسان العربي". وهذا الرأي سرعان ما دعمه قائلاً:" لقد فشلنا بالقضاء على الأمية التي ضربت فيها الأمة العربية رقماً قياسياً على الصعيد العالمي، إذ بلغت نسبة الأمية(28 بالمئة في عام2013) بالنسبة للذكور، وبلغت لدى الإناث(60 بالمئة) كما تشير تقارير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
ويؤكد الأعرجي في مؤلفه أن من الأسباب التي كانت وراء تخلفنا في هذا المجال هو تغليب العقل المنفعل، على العقل الفاعل أو المنتج. ففي بلداننا العربية نمهد للعقل المنفعل، لا العقل الفاعل المنتج المغيِّر أو المتغيِّر الذي يرتقي بالفكر إلى درجات عالية من الإبداع والاختراع. هذا الفكر لابد من العمل الجاد والمثمر حتى نستطيع إنتاجه، ومن ثم قطف ثماره إبداعاً نيراً وتطوراً فكرياً مواكباً للتطورات السريعة التي تشهدها البلدان المتطورة.
ويرى الأعرجي أن هناك ثلاث سمات أساسية على ناتج التعليم في البلدان العربية، من حيث التخلف والتدني الملحوظ في هذا المجال، ألا وهي:( تدني التحصيل المعرفي، وضعف القدرات التحليلية الابتكارية، واطراد التدهور فيها)، ويرى سبب ذلك كله هو سيطرة العقل المجتمعي السائد على العقل المنفعل، وضمور العقل الفاعل الذي ينزع إلى الإبداع والابتكار.
ولعل أبرز ما يميز هذا الكتاب أنه يضع اليد على الجرح أو النزيف الذي تنزف منه بلداننا العربية في مجال التخلف، وتدهور التربية والتعليم في معظم أقطارنا العربية، ويقترح العلاج الناجع لهذا التخلف، وهو العمل المثمر على تربية العقل الفاعل لا المنفعل، العقل المبدع لا العقل المستهلك، العقل المحرّض لا العقل الراكد المستكين الذي يتقبل الأشياء دون وعي، وإدراك، واستقصاء، وتمحيص، وتحليل ومحاكمة عقلية ناجعة، تمحّص، وتكشف، وتستنتج.
ولعل أبرز ما يطرحه الكتاب من رؤى، ومنظورات جديدة، أنه فتح أفق الوعي للواقع الراهن فيما يتعلق بمسألة التخلف التي تعاني منها بلداننا العربية ،لاسيما ما يخص قطاع التربية والتعليم. فهو يرى على سبيل المثال:" أن إعادة إنتاج التخلف أخطر جداً من واقعة التخلف عينها، لأن هذه الأخيرة تعني وجود إشكالية مهمة لاحظنا وجودها، وأدركنا أخطارها، وربما عرفنا أبعادها، ومن ثم نحن بصدد معالجتها وحلها، أما إعادة إنتاج التخلف فمعناه أننا لانزال نعيد تكريس التخلف ونضاعفه. إما لعدم وعينا إياه ابتداء، أو أن إدراكنا أبعاده كان ناقصاً، أو أن الحلول المقترحة والمطبقة كانت فاشلة.
وهذا الوعي في مسألة التخلف وإنتاج التخلف، هي نقطة مفصلية في رفع سوية البناء الفكري للكتاب، والبناء المعرفي لهذه المسألة الشائكة فيما يخص التخلف، وإعادة إنتاج التخلف التي مازالت تسيطر على بلداننا العربية منذ زمن طويل، وقد نوه الأعرجي إلى هذه الآفة الخطيرة التي أصابت التربية والتعليم في بلداننا العربية. ولا يكتفي بذلك، وإنما يطرح رؤيته بجسارة ووعي معرفي. ويرى أن هذه المسألة من أشد الآفات التي تعرضت لها بلداننا العربية، أي مسألة التربية والتعليم التي تعد أهم محطات تطور الفكر النير وإنتاجه. وقد طرح المؤلف نظريته الموسومة بنظرية (العقل المجتمعي) وهي التي تستند إلى رؤية مفادها أن هناك عقلاً مجتمعياً، يتحكم بالعقل الفردي، ويقرر وجهته كما يقرر المفاهيم المسبقة التي يبني عليها المجتمع والأفراد تصوراتهم ورؤيتهم ومسالكهم، وقد طرح نظرية( العقل الفاعل والمنفعل)، وهذه المسألة من أهم النقاط المفصلية في رفع سوية الرؤية المعرفية للتطور والوعي التقني فيما يخص التطوير والوعي الثقافي والمعرفي، فأي إنتاج فكري أو إبداعي منتج لابد لتحقيقه من عقل فاعل، ومخيلةٍ منتجةٍ قادرة على المحاكمة والإنتاج، ولهذا، وضح المؤلف مقصوده بهذه النظرية بجلاء مشيراً إلى أن نظرية العقل الفاعل و العقل المنفعل) هي التي تستند إلى رؤية مفادها أن لكل مجتمع عقل متميز أطلق عليه تعبير"العقل المجتمعي"، يؤثر على أعضائه (أي الأفراد) فيخضع معظمهم له بعقلهم المنفعل، إذ يتبعون أوامره ونواهيه بدون مناقشة أو تمحيص، بل بلا وعي. أما الأقلية القليلة المتنورة، صاحبة العقل الفاعل فإنها تناقشه وتحاكمه وتتساءل عن مصداقيته. هذه الفئة هي التي ترفع من شان مجتمعها، لأنها تبشر بالتجديد والتطوير والابتكار، ما يؤدي إلى تقدم مجتمعها. في حين يظل المجتمع في ظل الفئة الأولى راكداً ومتخلفاً.
وهكذا فالعقل الفاعل عقل نقدي منتج ومؤثر ودافع على التجديد، ومواكبة متطلبات التغير، والتطور، والثاني(منفعل) وهو على العكس من الأول مستسلم للمفاهيم المسبقة، أو متأثر ودافع إلى التقليد، والركون إلى الماضي، ورفض التحديث.
وهذا الرأي هو دليل وعي الأعرجي بالآفة الخطيرة والتنبيه إلى خطرها وهي إعادة إنتاج التخلف، فالعقل الفاعل المنفتح هو الذي يغير ويطور، وهو الذي ترتكز عليه المجتمعات المتطورة في رفع مستواها المعرفي والفكري، والمضي في ركب الحضارة المتسارع.
أما نظريته التي مفادها( عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة على نحو يكفي لمحو الخصائص البدوية) التي ماتزال قابعة في العقل المجتمعي المتخلف،فهي المسؤولة عن عدم نمو المفاهيم التي ترتبط بأنماط الاقتصاد الحديث، الأمر الذي حال دون توفر الفرصة لنمو وتطور( عقل المجتمع العربي) لكي ينتسب إلى بيئة مفاهيم جديدة تفرضها علاقات ووسائل الإنتاج الجديدة.
والواقع أن أطروحات الأعرجي في هذه النظريات تدفع القارئ إلى تتبع أثرها، ومنعكساتها الميدانية على بلداننا العربية، فبلداننا العربية مازالت تبحث عن كيانها في طريق تنموي خاطئ، أراد الإعرجي التنويه إليه في هذا الكتاب الذي يُعدّ ثورة في الكشف، وتقصي، وإدراك المخاطر، والمزالق التي مرت بها التربية والتعليم في بلداننا العربية، ويرى الأعرجي أن( التنمية الإنسانية هي تنمية الناس،ومن أجل الناس،ومن قبل الناس)،وهذا يعني أن تقدم الأمم يقاس تاريخياً،وخصوصاً اليوم، بتقدم أبنائها. فالإنسان أعظم رأس مال بالنسبة لأية أمة. والدليل على ذلك – حسب الاعرجي-أن العامل الحاكم في التقدم هو الاستثمار الكثيف في البشر، أو ما يسمى بناء رأس المال البشري، أو توفير الموارد البشرية الملائمة كماً وكيفاً. وتأتي بعدها الموارد الطبيعية مثل المياه، والأرض، وثمارها الظاهرة، وثرواتها الباطنة، بدليل أن جميع الموارد الطبيعية ستكون عاطلة أو معطلة، إذا لم يتمكن الإنسان المتعلم والمتنور بقدراته المبدعة من استخدامها وتحويلها إلى سلع وخدمات مفيدة تساهم في عملية التنمية أو تسريعها في ذلك المجتمع أو غيره من المجتمعات"وهذا الرأي أردفه بمجموعات آراء داعمة للتنمية الصحيحة والراقية التي تنمي الفكر المنتج لا الفكر المستهلك.
وقد خلص الأعرجي إلى نتيجة مهمة وهي:"أن هنك علاقة جدلية وثيقة وعميقة، متبادلة ومتشابكة بين هذه العناصر الأربعة ) الإنسان- التربية- التنمية- ومن ثم الحضارة والتقدم)،فهذه العناصر هي الركائز المؤثرة في تطور التربية والتعليم، ومن ثم المضي في التسارع الحضاري، والقضاء على ما أسماه الأعرجي إعادة التخلف.
ويؤكد الأعرجي على مسألة مهمة وهي التنمية، كيف تتحقق، وماهي ثمراتها؟ ومؤشراتها؟،ومستلزماتها الضرورية إذ يقول:" ففي الوقت الذي يضطلع الإنسان بالتنمية، ويحصل على ثمراتها، يعود إلى زيادة تعزيزها وتطويرها، فيستفيد من عوائدها على نحو أكبر، وتتحسن ظروف معيشته، وبذلك يعيد الدورة الإنتاجية السعيدة فتتزايد وتيرة الحركة الإنمائية.".
وهذا القول ينطوي على وعي الأعرجي الكبير بالمتغيرات التي تقطفها التنمية الصحيحة في الرقي بالمجتمع خاصة في مجال التربية والتعليم، إذا يعتمد نجاح هذه العملية المركبة على مدى قدرات ذلك الإنسان الناتجة عن تربيته وتعليمه، فكلما كان متنوراً بالمعرفة العلمية، ومتسلحاً بالدراية التقنية، وحائزاً على روح الإبداع والابتكار متسلحاً بعقله الفاعل، ارتفعت حصائل التنمية الاقتصادية، ومن ثم التنمية البشرية نفسها، ثم الرفاهية، والتقدم للناس، الأمر الذي يزيد من قابليات هؤلاء الناس في استخدام كفاءاتهم في مضاعفة وتيرة التقدم، وهذا ما حصل فعلاً، خاصة منذ تفجرت الثورة الصناعية الأولى في أوروبا وأمريكا، وما حصل بعد ذلك في اليابان ودول النمور الآسيوية مؤخراَ وصولاً إلى الثورة المعلوماتية الأخيرة التي تزداد كل يوم.
الكتاب لاشك في أنه يطرح الكثير من القضايا المهمة، لابد من فحص الكثير منها، وتمحيصها، لكن نخلص في مجملها إلى النقاط المميزة التي ضاعفت قيمته وهي على العموم تتلخص فيما يلي:
1-انسجام الأفكار،وترابط الرؤى، والكشف عن دقائقها وتفاصيلها مدعمة بالأمثلة.
2-دقة المصطلح والوقوف على الظواهر بدقة وموضوعية وشمولية.
3-القوة في الطرح والجرأة في التعبير
4-سهولة اللغة ورشاقتها، وبساطتها ووضوح مقصديتها.
5-الوعي بالظاهرة المدروسة والإحاطة بجوانبها كلها.
6-ثراء المصادر قيمة، ومرجعية.
7-الحرص على الموضوعية، والأمانة العلمية، في الاقتباسات ومناقشتها والإفادة منها في مواضعها.
8-النتائج الدقيقة والأحكام الموضوعية المستخلصة.
وفي الختام ، نشكر جهود الأعرجي في مؤلفه القيم، ونشكر القائمين على طبعه، نظراً لأفقه الرؤيوي المتطور والفكر النير الذي ينادي به الأعرجي في جل مؤلفاته.
*
تعليق المؤلف: بمناسبة إشارة الناقد إلى نظرية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة، وعدم شرحه لها، سنحاول عرضها باختصار أدناه، لمن يرغب في فهمها، فنجنبه الرجوع إلى مصادرها الأصلية في الكتاب:
العرب الذين كان معظمهم من البدْو أو الخاضعين للعقليَّة البدويَّة، حتَّى الذين كانوا يسكنون المدن الصغيرة، عندما حقَّقوا تلك الفتوح العظيمة بعد الإسلام، أصبحوا الأسياد في تلك البلدان، التي كانت متحضِّرة ومتقدِّمة، (بمقاييس عصرها) ولاسيَّما بلاد العراق والشام ومصر؛ أقول إنَّ هؤلاء العرب الفاتحين، انتقلوا من مرحلة البداوة إلى مرحلة "التحضُّر"، أي مجرد الاستقرار في المدن، -بدلاً من الترَحُّلِ المتواصل وراء الكلإ والماء- وليس الحضارة بمعناها الحديث المعروف اليوم . معنى ذلك أنهم لم يمرُّوا بمرحلة الزراعة بشكلٍ طبيعيٍّ، كما مرَّ بها أجدادُهم العرب ُ القدامى، الذين هاجروا قبل ذلك بآلاف السنين، بسبب الجفاف الذي حلَّ بالجزيرة العربيَّة في نهاية العصر الجليديِّ الأخير، قبل حوالى عشرين ألف عام. حيث قلَّتِ الأمطارُ فماتتُ الأشجارُ المثمرة ونفقت الحيوانات، التي كان الإنسان القديم يعتاش عليها.(وقد أطلقنا على تلك الفترة "مرحلة البداوة الأُولى").وهكذا هاجر الكثير من سُكَّان تلك الأصقاع شمالاً، إلى منطقة الهلال الخصيب بما فيه أرض النيل. وهناك اكتشفوا الزراعة، التي اقتضت الاستقرار بالأرض وبناء المساكن، التي تجمَّعت فشكَّلت قرىً ثمَّ مُدناً، حصل فيها تقسيم العمل،ِ (نظريَّة دوركايم)، كعنصرٍ مهمٍّ في بناء الحضارة. وتمخَّضت تلك الثورة الزراعيَّةُ الناعمةُ، عن بناء أعظم الحضارات الأُولى في التاريخ البشريِّ، ومنها الحضارة السومريَّة و المصريَّة والأكديَّة والبابليَّة والآشوريَّة والفينيقيَّة وغيرها. ثم تمخضت تلك الحضارات، فظهرت فيها هذه الأديان الثلاثة الموحِدة، الأولى في تاريخ البشرية، التي تتوجت بالإسلام،كثورة على العقل المجتمعي البدوي الذي كان سائداً في الجزيرة العربية.
1708 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع