د.محمد زاير
السيد الذي فصل الدين عن الدولة
فسبق زمانه بعشرات السنين
إن أكرمكم عند االله أتقاكم وقل اعملوا فسيرى الله أعمالكم
ولا تنابزوا في الألقاب لكم دينكم ولي ديني. لأ إكراه في الدين
طعامهم حل لكم وطعامكم حل لهم
صدق الله العظيم
أرسل لي الأخ العزيز الكاتب عباس العلوي كتابا من القطع المتوسط (135 صفحة)تناول فيه حياة المرحوم والده طيب الله ثراه: الذي كانت صورته مع السيدية تُزين غلاف الكتاب.
أعترف وأقول وبدون مجاملات أن هذه الصورة نقلتني ألي أيام زمان في طفولتي حينما أخبرتني المرحومة والدتي مرارا وتكرارا وبكل فخر وقالت.: من صار عمرك سنتين أخذناك إلى حضرة العباس (ع) وأنت بملابسك الحلوة والحياصة الفضية والطوكَ الذهبي والتراجي والجناجل.... كَام سيد مهدي أبو اخشوم إوسلًبًك!! فأخذ الطوكَ والتراجي والجناجل وأنته ساكت... وحينما أراد ان يأخذ ملابسك الحلوة مع الحياصة الفضيه بدأت بالصياح والبكاء والاحتجاج والعويل رغم المحاولات لإسكاتك. لم يتحمل الوالد ذاك المنظر فاضطر إلى شراء ملابسك الحلوة مع الحياصة الفضية التي ما زلت أحتفظ بها إلى يومنا هذا.
سألت والدتي: هذه إشلون سيد إيسلًب الجهال ويخليهم يبجون عند حضرة العباس (ع) والعلم في الصغر كالنقش عالحجر!! كانت إجابتها مع الابتسامة مو إنته جنت منذور.
عذر أقبح من ذنب ذكرني عما قيل عن الخليفة هارون الرشيد حينما كان واقفا بانحناء فجائه أبو نؤاس ومسكه من قلأقيله الحدرانيه, فصاح الخليفة: ويحك ماذا تفعل؟ فأجابه أبو نؤاس: العفو ياأمير المؤمنين وسيد المرسلين أني عبالي انته سته زبيده! عذر أقبح من ذنب!!
بقيت تلك الحادثة تلاحقني وتؤلمني طيلة حياتي أردت أم أبيت بل ازدادت بعد احتلال العراق من الأجانب بمساعدة بعض العمائم والبهائم فاستولوا على بيوت الشعب دون رقيب أو حسيب وقبضوا الأموال من بريمرالتي ذكرها في مذكراته. بهذه المشاعر والذكريات المؤلمة قرأت الكتاب الذي أنهيته بعد بضع ساعات!!
لقد تطرق الكاتب باختصار إلى السيرة الذاتية للمرحوم والده وهو شيئ مع احترامي الشديد لما قيل لأ أستطيع التعليق عليه لأنني لم أسكن النجف الشريف ولم ألتقي بالمرحوم الوالد. لكنني أعترف بكل صراحة وأقول إنني صُعقت لما رأيت: سيد يلبس السيديه رمز العفة والدين لكنه لم يستغلها وينادي بخمس الجد وتسليب الأطفال في حضرة العباس (ع) ويجعل بعضهم يحتجون ويبكون وهم في بداية طفولتهم وحياتهم.
ورغم كونه صارم التمسك بدينه، كان رجلا حضاريا متمدًنا يرى أن المجتمع يجب أن يشق عن نفسه غبار التخلف ويفتح أبوابه على العالم المتحضر وألا يكون أسير خرافات بعض الأدعياء المحسوبين على الدين. كان أول رجل في النجف أدخل التلفزيون في بيته عام 1958 وعلى الأثر شنوا عليه حملة ظالمة، أخرجوه من الملًة، إتهموه بالفسق، أصبح حديث البيوت والمقاهي. الحادثة هذه تُذكرني بالفتوي التي أصدرها أية الله الخالصي حينما إحتج وقال: تتركون حميرة الله وتركبون الشمندفر (القطار) لكنه نسى ما قيل في القرأن الكريم: ويخلق مالا تعلمون!!!
أدخل بناته المدارس في الوقت الذي كان عامة الناس يعتبرون المدرسة دار فسق وفجور وبعث بأولاده إلى أوربا لإكمال دراستهم العالية في وقت كان سرطان الأمية ينخر جسد المجتمع الذي يعيش فيه. لم يجد حرجا في تزويج بنته من مسلم سني ينتمي لعشيرة الجبور دليلأ على كرهه للطائفية المقيتة التي رأيناها بعد احتلال بلدنا العراق وتسلط بعض العمائم والبهائم. كوًن نفسه من عرق جبينه وجهد متواصل وتنقًل من مهنة إلى أخرى فأصبح سائق حافلة كبيرة لنقل البضائع وأحيانا المسافرين وبمساعدة مهنية من شقيق زوجته المتخصص في الحدادة والهيدروليك وأساتذة أخرين تحول إلى صاحب ورشة للحدادة متعددة المهمات تتوسط كراج كبير بالنجف الأشرف. وتمر الأيام وفي عام 1940 قام بفتح محل لبيع قطع غيار السيارات الجديدة والمستعملة في شارع الشيخ عمر قبالة مستشفى الطوارئ.
وتمر الأيام وفي الفترة 1940- 1958 أصبح بها الوكيل العام لإطارات الدنلوب الشهيرة في العراق مع تجارة العقار وقطع غيارات السيارات الجديدة والمستعملة. وفي نهاية عام 1957 بداية 1958 أنهى ورشة الحدادة وتخلص من أطنان السكراب وقطع الغيار المستعمل ليحصل على فسحة في كراجه بغية تأسيس مصنع حديث لنوابض السيارات حمل اسم المعمل الأوتوماتيكي الحديث لصناعة السبرنكات. وفي أقل من سنة تم إكمال الصرح الصناعي الذي كان يُعد الثاني من نوعه في العراق- مكائن متطورة متعددة تم استيرادها من أوربا وباشر المعمل بالإنتاج فسد فراغا كبيرا في السوق العراقي. وبعد ثورة تموز 1958 انفتح الى نظام الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي فخلق نوع من التوازن ما بين الدولة والقطاع الخاص, إضافة إلى مشاريع الإسكان والمدارس والمستشفيات وغيرها, فوجد العميد (ألمرحوم الوالد) فرصته لإن يكون أحد اللاعبين الكبار في ميدان التجارة فشوهد عدة مرات في التلفزيون العراقي يتحدث عن سفرياته إلى دول أوربا والعقود التجارية التي أبرمها هناك. وكانت سفرته الأولى عام 1959 إلى ألمانيا الشرقية بتكليف من الزعيم عبد الكريم قاسم ليمثل العراق في معرض لأيبزك الدولي في برلين وصادف أن كان الزعيم السوفيتي خروتشوف ورئيس الوزراء الصيني تشوان لأي حاضران فجرت مصافحة تاريخية معهم نُشرت صورها في اليوم الثاني. سأله الزعيم عن البلد الذي ينتمي إليه؟ فأجابه العراق الذي يقوده الزعيم عبد الكريم قاسم ارتاح الزعيم إلى جوابه ثم أردف كلأمه قائلأ: هل لك من كلمة أو طلب؟ فأجابه نعم أريد منكم دعم العراق في كافة المجالات لتكون منفعة لكلأ الشعبين (تصفيق مدوي من الحاضرين).
كان يلبس ملابس الأوربيين أثناء سفراته التجارية والتي لها صداها النفسية التي تُقرب المشاعر والاتصالات لخدمة العراق الذي كان ومازال في حاجة إلى التطور في كل المجالات العلمية التي يفتقدها والدليل أن الهند قد أرسلت مركبتها إلى المريخ وحكامنا الحاليين الذين جاؤا مع المحتلين لم يقدموا شيئا عمليا واحدا واضحا لخدمة العراق اللهم إلا الطائفية المقيتة والسرقات والمحاصصات والحروب الداخلية المتناحرة بينهم التي لا تنتهي. رحمك الله أيها العراقي الأبي الذي حافظت على دينك ومعتقداتك وشرفك دون أن تفرض الرأي أو تستغل الدين لكي تعيش عليه وإنما كافحت بعرق جبينك وإصرارك أن تنشر العلم والتقدم في بلدنا العراق الحبيب.
وتمر الأيام وكان ما كان فكان منفاك الإجباري الذي هو أقسى عقاب يواجه الإنسان في حياته وانتقلت إلى رحمة الله حزينا غريبا عن وطنك العراق الحبيب الذي خدمته وأردت تقدمه وازدهاره. رحمك الله وأسكنك فسيح جنانه وإنا لله وإنا إليه لراجعون.
وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
د. محمد زاير
1368 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع