زيد الحلي
كثيرون ،كتبوا مذكراتهم وذكرياتهم ومشاهداتهم ،لكن الملاحظ إن معظمهم وقعوا في شرك التهويل والمبالغة حيث أعطوا لآنفسهم أدوارا مهمة في مسيرة الحياة ،هيأها لهم ،عقلهم الباطن ،فرسموا لتلك الادوار ، أحداثا مضخمة ، يشعرون القارىّ بأنهم كانوا (السوبر مان) او مثل علاء الدين ومصباحه السحري الشهير في فك الألغاز او دلو الماء الذي يخمد حريق الفتن والفوضى ... وقد تحدثت مرة مع (.....) بعد أن ،قرأت كتاب مذكراته الذي أهداني إياه مستفسرا عن بعض ما جاء فيه من نقاط تخصه ، فأذا به يتعكز على ذاكرة هشة وتاه في الجواب وكانني أسأله عن شىّ أخر غير الذي كتبه عن نفسه..!
وبالمقابل ،هناك العديد من الاشخاص تركوا كلمة (الأنا) في كتابة مذكراتهم وذكرياتهم ومشاهداتهم ،جانبا فكتبوا بموضوعية عن فصول من حياتهم بتجرد ، يأخذ بلب القارىّ ،لأنهم سردوا بتواضع ،وثقة بالنفس ، ما مروا به من أحداث وماشغلوا من مواقع بروح بسيطة ،تغلب عليها المصداقية والنضج الفكري ..
وقد ،خرجت بانطباع وأنا أقرأ مذكرات الشخصية العراقية ، المرموقة السيد(عبد الجبار الراوي) بأن هذا الرجل ،كان من حملة ،نكران الذات بامتياز، وله آراء في الحياة والسيرة ،ما يفخر به فثّبت في سفره "مذكرات عبد الجبار الراوي" نقاطا ، كل واحدة منها تشكل مساحة كبيرة للتأمل
ولذلك لم أجد من الغرابة ، أن يبادر العلامة الكبير المرحوم "محمد بهجت الاثري" الحامل لعضوية خمسة من اكبرالمجامع العلمية واللغوية في الوطن العربي (بغداد،القاهرة،دمشق ،عمّان،الرباط) أن يكتب مقدمة لهذا الكتاب ،مشيدا بموضوعية كاتبه ... وهذا العلامة لم يُعرف عنه إنه يكتب مقدمات لكتب عابرة لأنه يعي مسؤلية أن يكتب علاّمة ، مثله مقدمات قد تكون جواز مرورلعالم (شهرة) لإشخاص لايستحقونها!!
وأوكد إن العلامة الكبير،كتب تلك المقدمة بروح شابها الصدق والثقة بمن كتب له وعن قناعة بمسؤولية ورصانة ما جاء بالمذكرات ودور كاتبها في الحياة العراقية بمختلف صنوفها وتحولاتها.
وحسنا فعلت عائلة المرحوم" الراوي" بأن جعلت تلك المقدمة تظهر للقراْء بخط يد العلامة الاثري ولم يحولونها الى حروف طباعية ..
لقد تمتعت ،كما تمتع القراء بمشاهدة خط العلامة الكبير،حيث السلاسة والاسلوب الأخاذ المعجون بمداد قلم ( الباركر) في إناقة لافتة لخط يفوق الوصف لرجل تجاوز الثمانين ..عاما !
قدر للسيد" الراوي" أن يكون في الوظيفة العامة في ثلاثة عهود تداولت الحكم في العراق ..كانت وظائفه فيها ذات صلة وطيدة بجزأ مهم من تاريخ العراق .
العهد الاول حين كان العراق ، تابعا للدولة العثمانية ..وفي هذه الجزئية يصف الحالة عند إعلان الحرب العالمية الاولى عام 1914 ودخول الدولة العثمانية فيها الى جانب المانيا .حيث أعلن الخليفة العثماني انذاك ،الجهاد مما أصبح مفروضا على المسلمين تلبية أمر الجهاد وأداء (الواجب الديني) وما لبث العراق أن غدا ساحة حرب بين العثمانيين والبريطانيين..
ويصف " الراوي " أيضا بصورة رائعة بما يشابه وصف علماء الاجتماع مشاهداته وطبيعة الحياة والدراسة وكيفية إعداد الجنود والضباط الاحتياط لإشراكهم في ميادين القتال وكيف تولى مع زملائه الضباط محاصرة الجنرال البريطاني" تاونزند" وقواته في (كوت الامارة) مركز محافظة واسط حاليا .. كما يسرد تفاصيل صد هجمات القوات البريطانية الاخرى التي حاولت فك الحصار عن الجنرال المذكور ، وايضا يصف بشكل دراماتيكي وطني مشاعره ومشاعر العراقيين أثناء تمكن القوات البريطانية بقيادة الجنرال " مود " من دخول بغداد.
الحلم الذي.. ضاع !!
وفي العهد الثاني ، اى عهد الإحتلال البريطاني وإندحار العهد العثماني ، يكشف السيد " الراوي " النقاب عن موضوع لم يشر اليه الباحثون سابقا (على حد علمي) وهو يتعلق بقدوم ضابط عراقي إسمه " جمال علي " ممثلا ومندوما عن الثورة التي قامت في الحجاز بزعامة الشريف " حسين بن علي " امير مكة وكانت من مهامه ترغيب الضباط العراقيين في الإنضمام الى تلك الثورة ..ويقول ( إنني أبديت رغبتي في التطوع ، ويحدوني الأمل في قيام دولة عربية ،قومية،مستقلة) وشرح (طريق البحر) الذي سلكه للإلتحاق بجيش الثورة الشمالي ، ودوّن آراء " طالب باشا النقيب " في هذه الثورة حيث كان منفيا في القاهرة وذلك أثناء توجهه الى (العقبة).. كما وصف أوضاع جيش الثورة منذ إنضمامه اليه حتى دخوله الى دمشق وتأليف الحكومة العربية فيها وتتويج " فيصل بن الشريف حسين بن علي " ملكا عليها .. تلك الحكومة التي كانت (..مناط آمال أبناء الضاد) ويشرح بألم الحملة التي قادها الجنرال الفرنس " غورو " لإسقاط هذه الحكومة وكيف ( تشتت العاملون فيها من رجال السيف والقلم العرب وعودتهم الى بلدانهم ،بعد ضياع جهودهم في إنشاء الدولة العربية ، مفجوعين بخيبة آمالهم القومية)
وذكر بالتفصيل ،كيفية عودته الى العراق عن طريق الصحراء واصفا الأماكن التي مرّ بها..
ما أشبه الليلة بالبارحة..!
والعهد الثالث ، الذي عاشه ،فهو العهد (الوطني) المتمثل بانشاء الحكومة العراقية وإستحداث وزارة الدفاع وتنصيب فيصلا ملكا على العراق .. وقد وصف الوضع أثناء ذلك بتفصيل ، صافي النظرات وبموضوعية إستحق عليها الثناء ، حيث بيّن أسباب وظروف إعلان العفو العام وكيفية دعوة الضباط العائدين ، أمثاله،للتسجيل في المدرسة العسكرية عام 1921 وتدريبهم على يد هيأة تدريب بريطانية وكيف( بعد أنهى دراسته ) نُقل الى الشرطة لقيادة ( الهجاّنة الشمالية) ..الخ.
وذكر الأحداث المهمة في أوائل أيام ذلك الحكم ومنها قدوم لجنة من "عصبة الأمم" الى الموصل للتعرف على رأى اهلها في مطالبة تركيا بالموصل ، كما تطرق الى طبيعة العمل والأحوال في تلك الايام.
من وضع خطير ،تمثل في ثورة من سمُوا( الاخوان النجديين) وكذلك الظروف التي جابهها عندما تولى منصب (مدير شرطة الديوانية) حيث قامت العشاعر في تلك المدينة بتمرد كبير عام 1934 ..ويتحدث عن ذكرياته أثناء إنقلاب " بكر صدقي" من منظورستراتيجي كونه كان يشغل موقع مدير شرطة بغداد.
ويمكن للقارىّ ، الباحث ، ان يتعرف على الحياة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والنفسية للعراقيين من خلال هذه المذكرات ، إذ يطلع على تداعيات قانون إدارة (الالوية) الذي ما زلنا نعيش مساؤه لحد الان ، ونظام دعاوى العشائر والتدخل الحكومي في الإنتخابات النيابية
( ما أشبه اليوم بالبارحة!!) من خلال تلمّس كاتب المذكرات لهذه التدخلات من خلف الكواليس حيث شغل موقعا إداريا مهما وهو منصب متصرف الحلة وأيضا معرفة أوضاع السجون ، كونه تولى موقع المدير العام للسجون .. وسلط الأضواء على ظروف ترشيحه لعضوية مجلس النواب بعد إنتخابه ممثلا للواء الدليم (الانبارحاليا) وإختياره لعضوية "مجلس الاتحاد العربي" الذي تم انشاؤه مع المملكة الاردنية الهاشمية ، ووصف بدقة الحالة العربية آنذاك حتى قيام الثورة على الملكية عام 1958 ..
الكتاب الذي أنجزه الاستاذ "سنان" نجل السيد عبد الجبار الراوي بناء على رغبة والده ،ليس (سيرة شخصية) او تاريخا للأيام التي عاصرها" الراوي" بل هي سرد ،نظيف،نموذجي ،معاش لأحداث مهمة جرت في العراق ومنها يمكن أن يتعظ السياسيون والمثقفون..لأنها شهادة حياة تؤرخ الـ89 عاما.!!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
شروحات صور الموضوع ..
مهرجان في ساحة الكشافه سنه (1946) ، الملك فيصل الثاني يوزع الجوائز وخلفه من اليمين الامير عبد الاله الوصي على العرش والامير رعــد بن زيد ، والفريق الركن صالح صائب الجبوري رئيس اركان الجيش وسعد صالح وزير الداخلية وعبد الجبار الراوي مدير الشرطة العام بالملابــس المدنية
في دمشق (1919) من اليمين : مالك الفتيان ، الحاج يوسف الرفاعي ، وعبد الجبار الراوي ملازم اول في الجيش العربي .
عبد الجبار الراوي عضو (مجلس الاتحاد العربي) سنه 1958
اثناء اخماد ثورة العشائر في الرميثة في (لواء الديوانية) سنة 1935 .. وفي اقصى اليمين بكـــر صدقي قائد القوات وجعفر العسكري وزير الدفاع في اقصى اليــسار .. وعبد الجبار الراوي مدير شرطة( لواء الديوانية) كممثل سياسي للقوات الحكومية بالملابس المدينة ..
صورة لخـــط العلامة (محمد بهجت الاثري) الذي كتب مقدمة للكتاب .
399 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع