سالم إيليا
كان يقود سيارته في وسط البلد في إحدى المدن الغربية التي إضطرته ظروف بلده للهجرة اليها ـ ـ ـ
نظر " ثائر " الى الرصيف على يمينهِ فشاهد مجموعة من الأشخاص من كلا الجنسين وقد تدلّت من رقابهم لوحات كارتونية بيضاء كتبوا عليها مطاليبهم ـ ـ ـ نطالب برفع الأجور ـ ـ ـ نطالب بتحسين ظروف العمل ـ ـ ـ لا لزيادة ساعات العمل ؟؟ .
تمعّن في وجوههم ولباسهم الرسمي الذي كانوا يرتدونه فإستطاعَ من خلاله تحديد هويتهم على أنهم موظفي دائرة البريد في مدينته ـ ـ ـ تذكر التنبيه المتكرر لوسائل الإعلام المحلية بإنواعها المرئية والمسموعة والمقروءة بإحتمال بطئ إنسيابية الخدمات البريدية للمواطنين خلال الأيام القادمة .
كانَ المتظاهرون في حركةٍ دائبةٍ ذهاباً وإياباً على جانب السياج الحديدي الذي يفصلهم عن حافة الطريق العام لسير العجلات ـ ـ ـ كان بعضهم يحتسي قهوته الصباحية والبعض الآخر مشغول في التحدث الى زميلٍ أو زميلةٍ له .
عاد " ثائر " بذاكرتهِ الى عام 1968م عندما كان لا يزال في المرحلة الأخيرة من دراستهِ الإبتدائية حيثُ لم يكن عمره يزيد على الأثني عشر عاماً ، يومها كان لا يزال الشعور الثوري على أشدهِ بين أبناء بلدهِ وخاصة الطلبة منهم ـ ـ ـ كانت التظاهرات الطلابية شبه يومية في العاصمة بغداد ـ ـ ـ وكانوا زملائه الطلبة الجالسين بجانب النوافذ المطلّة على الشارع العام يترقبون طلائع طلبة المدارس الثانوية القريبة من مدرستهم ليأتوا لإخراجهم للإنضمام اليهم على الرغم من إنزعاج أساتذتهم لعدم إستطاعتهم إكمال مناهجهم التدريسية المقررة حيث تباطئ العمل بالجدول المقرر .
كانت اللجان الطلابية للمدارس الثانوية قد أعدت مسبقاً برنامجها للخروج في التظاهرة ربما لتأييد قرار أتخذته الحكومة أو لإستنكار قرار مفاجئ للدول " الإمبريالية " المعادية أو نتيجة لحدث معين في المنطقة التي كانت تتوالى فيها الأحداث بتسارعٍ كبيرٍ .
لم يكن يهتم " ثائر " وزملائه كثيراً بماهية الحدث للخروج في التظاهرةِ لصغرِ سنهم ـ ـ ـ كل الذي كان في تفكيرهم هو هروبهم من سجنهم اليومي ومحاسبة المعلمين لهم لعدم إكمالهم لواجباتهم البيتية .
إنطلقت التظاهرة المشتركة للجنسين في وسط أحد الشوارع الرئيسية للعاصمة ، حيثُ إنتظمْنَ الطالبات بكراديس أحتلّت الجانب الأيمن من الشارع الرئيسي ، فيما إحتلّت كراديس الطلاّب جانبه الأيسر يفصل بينهما الجزرة الوسطية المزروعة بشجيرات " الدفلة " والمشغولة بعدد من أعضاء اللجان الطلابية للمحافظة على حرمة التقاليد في عدم إختلاط الجنسين في مثل تلك الفعاليات .
كانت التظاهرة متجهة الى مركز التجمع في إحدى الساحات الكبيرة لأحد الأحياء المهمة في بغداد والذي لا يبعد أكثر من أربعة كيلومترات عن محل سكنهم ـ ـ .
كانت حناجر المتظاهرين تصدح بقوةٍ بهتافٍ واحدٍ لا يتغير ـ ـ ـ " أمريكا ضد العرب شيلوا سفارتها " !! .
تفرّسَ " ثائر " في وجوه زملائهِ المُتظاهرين القريبة منهُ والأخرى على الجانب الأيمن من التظاهرة ، فشاهدها وقد زادها الحماس الثوري وأشعة الشمس الملتهبة إحمراراً على الرغم من سحنة بشرتهم السمراء ـ ـ ـ فزاده هذا المنظر نشاطاً وهتافاً أكثر حتى كادت حنجرته أن تقفز خارجةً مع هتافهِ " أمريكا ضد العرب شيلوا سفارتها " !! ـ ـ ـ نظر الى الجماهير المُتفرجة والمحتشدة على جانبي الطريق التي علت وجوهها الإبتسامات العريضة والتي كادت أن تتحول الى ضحكات مسموعة حيثُ فسّرها بحدسه الطفولي البرئ على أنها رسائل تأييد قوية لهتافهم !! ، مما زاده إفتراضه هذا حماسة الى رفع صوته أكثر ليكون مميزاً بين زملائه الذين فعلوا الشئ نفسه !!.
أحتلّت جموع الطلبة الغاضبة الساحة الكبيرة ومحيطها حيثُ وضِعَ في وسطها مقصورة خشبية صغيرة تتسع لوقوف بضعة أشخاص عليها وطاولة صغيرة وضِعَت فوقها مكبرة صوت يدوية .
كان المتظاهرون يهتفون بأعلى أصواتهم حين إعتلى المنصة عدد محدود من قياديي اللجان الطلابية التي تقود التظاهرة يتقدمهم طالب كان يبدو من أنه في مرحلته الأخيرة لدراسته الجامعية حيثُ قدمه عريف الحفل على أنه رئيس اللجان الطلاّبية للقاطع الطلاّبي الجنوبي للعاصمة بغداد .
ناول عريف الحفل مكبرة الصوت للمسؤول الطلابي الذي إستهلّ كلمته الحماسية بتحية جموع الطلبة ، ثمّ تلا كلمته التي الهبت المشاعر الثورية لكل من كان في الساحة ـ ـ ـ فتعالت الهتافات بالموت للإمبريالية والصهيونية !! ، ثمّ تبعها الهتاف الذي أطرب جموع الطلبة منذ إنطلاقة التظاهرة التي أوشكت على النهاية !! : " أمريكا ضد العرب شيلوا سفارتها " !! .
هَمسَ المسؤول الطلابي في إذن زميله عريف الحفل الذي إختطف مكبرة الصوت بسرعة من يدهِ وخاطب جموع الطلبة قائلاً :
" زملاء غيروا الهتاف ـ ـ لأن أمريكا أنغلقت سفارتها في العراق منذ حرب الخامس من حزيران سنة 1967 " !!!! .
*إنتباهة : القصّة ذو مدلولات أدبية بحتة ولا تعبر عن أي مدلول أو مغزى سياسي على الرغم من عنوانها الذي أبدلته من "تظاهرة ثورية" الى "تظاهرة حماسية" ، إضافة الى فترة الحدث الذي قد يوحي عكس ذلك ، لذا أتمنى على القرّاء الأكارم أن يتجنبوا التداخلات ذو الطابع السياسي ، فللجميع إحترامي وتقديري لما يحملوه من أفكار ، وقد إستخدمتُ الحدث كرمز في التنويه لظاهرة إجتماعية منتشرة في كل مفاصل الحياة ليس فقط في مجتمعنا فحسب وإنما في مجتمعات العالم الثالث عموماً ، إضافة لمدلول الشعور المشروع بالكراهية للمعتدي والمُستعمر حتى وإن لم يكن المعني بالحدث المباشر .
984 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع