د.ضرغام الدباغ
عندما يكون الصمت بطلاً
صمت البحر"Le Silence de la mer " رواية من أدب المقاومة، تأليف جان بروليه تحت الاسم المستعار (فيركور). نشرت الرواية سرا في باريس إبان الاحتلال النازي في عام 1942، وسرعان ما أصبحت رمزا للمقاومة العقلية ضد الاحتلال الألماني وانتشرت في جميع أرجاء العالم.
عن المؤلف
ولد فيركور في العام 1902 من أب مجري ومن أم فرنسية استقر في فرنسا، وبدأ حياته رساماً كاريكاتورياً في المجلات والصحف، قبل أن يتجه لكتابة الرواية، وكانت صمت البحر أولى رواياته، وكان فيركور يسارياً، وعضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكنه استقال منه في العام 1956، احتجاجاً على اقتحام الجيش السوفياتي للمجر، وبسبب تعاطفه مع ثوار الجزائر. وعمل مساعداً لنجار في قريته، وما لبث أن اتصل بعناصر المقاومة وأسس مع الروائي الشهير فرنسوا مورياك والشاعر أرجوان داراً أطلقا عليها اسم دار نصف الليل كرمز لكفاحهم السري ضد الاحتلال. أعاد في العام 1957 إلى رئيس الجمهورية الفرنسي وسام الشرف الذي منح له بسبب دوره أثناء المقاومة للاحتلال النازي، وبعد الحرب وفي العام 1948 قدم جون بير ملفل رواية صمت البحر في فيلم سينمائي، وقدمت على المسرح الفرنسي في العام التالي.
ورواية صمت البحر واحدة من أشهر أعمال أدب المقاومة في فرنسا، بل في العالم بأسره، إذ كتبت عام 1941، أثناء الاحتلال النازي لها خلال الحرب العالمية الثانية، ووزعت كمنشور سرّي، ضمن 25 كتاباً آخر، وقد صدرت الرواية ما بين 1941ـــ 4194، عن دار نشر سرّية باسم مينوى (أي نصف الليل)، كان يديرها مؤلف رواية جون برولار الذي اختار فيركور اسماً مستعار له، وهو اسم المكان الذي اختبأ فيه من مطاردة النازيين، واسم مقاطعة فرنسية اشتهرت بمقاومة الألمان. وحين قرأ شاعر المقاومة الشهير لويس أرجوان رواية صمت البحر أدهشه صدقها وتدفقها، فقال: هذا ليس مالرو (أحد كتاب المقاومة)، لأنه لا يعرف كيف يكتب، مشيراً بذلك إلى كتابة تخلو من أية صنعة أو تكلف.
يصف فيركور روايته "صمت البحر" بأنها ليست سيرة ذاتية. مؤكداً: " أن القصة كلها من اختراعي، والشيء الوحيد الذي لم أخترعه هو صمت الفتاة، لأن الصمت قصتي". وجد فيركور منزله، الذي يبعد خمسين كيلومتراً عن باريس، وقد احتله ضابط ألماني كان يجيد الفرنسية. وعنه يتحدث بروييه ــ فيركور قائلاً: «عندما شاهدته في الشارع ألقى علي التحية. لكنني وجدت نفسي غير مكترث به. وتكررت الحال مرة ثانية. وبعد ذلك أصبح من المستحيل أن أحييه حتى لو أردت أنا ذلك».
في رواية "صمت البحر" استحضر بروييه ــ فيركور رجلاً عجوزاً "لا أستطيع عامداً أن أؤذي إنساناً دون معاناة، حتى لو كان عدوي". وهذا ما حصل لفيركور مع الضابط الألماني. فالأذى ليس متعمداً بل أصبح ضرورياً. للرواية هدف معلوم وهو تحذير الكتاب الفرنسيين من مخاطر إظهار العطف على الألمان النازيين. والرواية بعد هذا تحمل نداء للمثقفين الفرنسيين للمقاومة وليس الانخداع بالألمان الطيبين.
كان إيمان فيركور بنجاح روايته ضعيف. في. فبعد صدورها أرسل معظم النسخ إلى المناطق غير المحتلة. كان فيركور عضو مقاومة مبكر. وبمعونة صديقه جان دي ليسكور أنشا داراً للنشر أصدرت أعمالاً لكتاب مثل مورياك، وأراغون، كما أنها أصدرت رواية "صمت البحر" أيضاً. طبعت من الرواية في بداية الأمر ثلاثمائة وخمسون نسخة. بيد أنها عرفت في أنحاء العالم، حتى أن مجلة "لايف" الأمريكية قامت بنشرها. وحصل فيركور على وسام المقاومة الذي لم يعلقه على صدره أبداً، وهو، كعضو في المقاومة، إنسان يمتلك ذكريات لا أحد يستطيع أن يشاطره إياه.ورفض عرض قبوله في أكاديمية العلوم الفرنسية، لكي لا يجازف بالفشل.
عندما يكون الصمت بطلا ... صمت البحر
قرأت هذه الرواية البديعة في مطلع شبابي. وللرواية حكاية مثيرة، وهي لوحدها رواية . لنعد إلى الخلف قليلاً .. فرنسا بعد حزيران / 1940 ألمانيا النازية تحتل فرنسا وعاصمتها باريس تحت الاحتلال. المقاومة السرية للشعب الفرنسي ابتدأت، ومن تلك المقاومة، أن تولى كتاباً أحرار المقاومة الفكرية، وكان أن انبثقت لجنة كتاب فرنسا الأحرار الذين رفضوا الاحتلال، فهناك من الكتاب ارتضوا عار أن يوالوا الاحتلال، وأن يصبحوا خونة... الكتاب الأحرار تواصلوا مع شعبهم بالإعلانات، والنشرات، والتنظيم السري، وفيما بعد تأسست إذاعة فرنسا الحرة وكانت تذيع من لندن.
كانت اللجنة تستلم أعمالاً أدبية : قصص قصيرة، روايات، وأشعار. ومن بين ما استلمت اللجنة قصة قصيرة نشرتها على شكل منشورات، قرأها الشعب، قصة تحرض الشعب على المقاومة. أيها الفرنسيون الأحرار لا ترتضوا أن تكونوا عبيداً للقوة الغاشمة، قاموا المحتل وأخلاقياته ومبرراته، فرنسا يجب أن تكون حرة. القصة عنوانها "صمت البحر" . الاحتلال كانت يطرح نفسه بطريقة راقية، يحاول أن يحيل القبج إلى جمال، ولكن هيهات، هيهات إذا تصدى لهذه المؤامرة الخبيثة مفكرين أحرار، أدباء مخلصون لشعبهم، رواية صمت البحر نشرت بأسم مستعار " فيركور " الكاتب الحر تصدى لإشكالية ثقافية، أن يطرح الاحتلال نفسه مقبولاً .. لأن ...ولأن ...ولأن، والكاتب الحر يتصدى لهذه بقوله: الاحتلال مرفوض، الاحتلال غير مقبول ..الاحتلال ينبغي أن يقاوم، أحتلال الوطن لا يواجه إلا بالمقاومة.
فتاة فرنسية، كادت أن تسمع نداء قلبها، وتحب أحد شباب المحتلين، ضابط مثقف، أنيق نظيف (غير معفن)، ولكن حب الوطن أكبر، بل رائحة الوطن ..فقاومت على طريقتها، إنها المقاومة العزلاء .. دون أن تطلق طلقة واحدة ... كيف ...! أظهر للمحتل أنك تحتقره، قل للمحتل ..قبل أن تتفوه بحرف واحد، أترك بلادي أولاً ... لا أستطيع أن أتقبلك وسلاحك مسدد إلى رأسي .. العلاقات في ابسط معانيها أن تكون متكافئة، والاحتلال لا ينطوي في جوهره على تكافؤ.
تذكرت رواية الفرنسي فيركور(جان مارسيل برولر) صمت البحر، فالبحر عند فيركور(وهو أسمه الحركي ككاتب في المقاومة ضد الاحتلال النازي) صمت احتجاج، صمت غدا مشهوراً، بل صاخباً بشهرته، عندما كتب رائعته الغير قابلة للنسيان " صمت البحر " والتي يعتبرها معظم النقاد من أجمل نتاجات أدب المقاومة العالمي، بل ونالت حقاً جائزة أفضل عمل أدبي أشهره كسيف ماض، قلم كاتب حر مقاوم بوجه الأحتلال النازي لبلاده فرنسا في الحرب العالمية الثانية. إذ تقرر فتاة عزلاء بمفردها مقاومة جبروت النازي المحتل لبلادها (فرنسا) مقاومة الغستابو والآلة الوحشية للأجهزة السرية، والإعدامات الجماعية، عندما تقرر مقاطعة تبادل الحديث مع ضابط نازي، فرضته إدارة الاحتلال للبلدة كضيف إجباري في بيتهم هي ووالدتها العجوز، في صمت بليغ .. فيه إهانة للمحتل المغتصب .. هو أضعف الأيمان ..!
راح الضابط الألماني، وكان وسيماً ومثقفاً، في محاولة يائسة لكسب ود الفتاة، يعزف بمهارة على البيانو الموجود في بيتها، يعزف روائع الكلاسيك العالمي، يحدثها عن الأدب العالمي، يخبرها بكلمات لزجة، يحاول بذكاء أن يكسب ودها، أن هناك سياسة دولية لها أبعادها، وأنه ليس مسؤولاً عن وجود النازي في بلادها، وهو الذي لم يكن ضابطاً مقاتلاً، بل ضابط أحتياط ملحق بالجيش كإداري، فهو لم يكن اليد التي تضرب، أو القدم التي ترفس ..... ولكنه كان الشريان الذي يمد الجيش بالمؤونة، فهو واجب أمضى من القتل .. بالسلاح، كان مهذباً وراقياً، وذلك تحريف ذكي للمحتل المكروه ... سيان أي رداء أرتدي ..
الفتاة أحبته بقلبها، وتلك عواطف إنسانية، ولكنها في عقلها كانت تدرك أن حبها الأول هو لبلادها وللراية الوطنية المثلثة الألوان، ولنشيد المارسلييز .. وليس موسيقى الكلاسيك الجميلة التي يجيد المحتل الوسيم المظهر والقبيح الجوهر عزفها .. قاطعته، لم تكن ترد حتى على تحية الصباح أو المساء التي يلقيها .. كانت تقمع قلبها .. فداء لوطنها ..
الضابط أدرك .. أنه تمكن من احتلال بلادها، ولكنه عاجز عن أحتلال قلبها .. تقول له بلغة العيون .. أنت قد تفلح بأحتلال الأرض بالدبابات والطائرات، بل ربما بوسعك أن تغتصب .. نعم هكذا يطلق عليها في قواميس ولغات العالم، هي بالألمانية Vergewaltigung أغتصاب، وبالفرنسية Violation وفي الإنكليزية Assault ، ولكن بمدلول واحد، أن تنال شيئ عنوة، ما ليس هو حقك .. أمر لا يمتع إلا المرضى العصابيون، أنا فتاة ربما لا أستطيع مقاومة جيش مدجج، لكنك هيهات أن تتمكن من قلبي، هيهات أن تنال احترامي، هيهات أن تنال بوحشيتك إعجاب أحد سوى الذئاب والكلاب المتوحشة ... كان صمتها كصمت البحر ... صمتاً بليغاً ..ولكن صمت البحر سرعان ما جاء صاخباً، يرد على لعلعة الرصاص بصمت الكبرياء ... وتحررت فرنسا ...
عندما وضعت الحرب أوزارها وتحرر الوطن الفرنسي وطرد المحتلون، عملاء العدو المحتل أهينوا بشكل تاريخي، دعى أتحاد الكتاب والأدباء الفرنسيين الأحرار إلى مسابقة لأخيار أجمل عمل أدبي خلال حقبة الاحتلال، كان هناك شبه إجماع أن صمت البحر هي الأبلغ هي الأقوى، ودعي كاتب الرواية ... لأستلام المجد قبل الجائزة ... لم يأت أحد .. الكاتب تنازل عن المجد الشخصي ..الرواية هي قصة الشعب الفرنسي .. كاتبها فيركور
أيها العراقيون .. أيها العرب .. لا تبتأسوا ... لكل أمة مكب نفاياتها، كتب أحد هؤلاء، الكاتب الفرنسي الخائن المتعاون مع العدو ديشانبرمان: " أنه أعمي من لا يعرف الدور الذي أوكله القدر إلى ألمانيا، بل منحطة وملعونة أي أمة أوربية لا تحي هذا السيف المرفوع ". ولكن الشاعر الحر بول فاليري كتب يرد : أواه كم رأيت وجوهاً فر الشرف من جباهها ..
والمحتلون الألمان كانوا يعدمون رهائن فرنسيين 50 فرنسي مقابل ألماني واحد ... وكان الخونة الفرنسيون يرددون متعقلين: هل ستخرج هذه العمليات وهذا العنف الألمان من فرنسا ؟ فرنسا تحررت .. والعار كان نصيب للخونة والمتعاونون يوم فرحة الشعب بالتحرير.. وكتب بول فاليري يوم التحرير: ليس هناك نهار أكثر ألقاً، من اليوم الذي يقتل فيه الخونة ..
هكذا هو ديدن المحتل ..يخلق جواسيس ومتعاونون ...ولكنه يفرز أبطاًل وقادة للشعب، وهكذا يفعل أصحاب الأقلام الشريفة الذين يكتبون بدمائهم، والذين يمتلكون أفئدة حرة لا تجزع، وإلى الأفق بلا خوف لا وجل .. يرددون وطن علمني القراءة والكتابة ...وله فقط أكتب .. الشرفاء يقسمون لك أيها الوطن أن لا يخونوا الكلمة ..
حاولت مخلصاً أن أنقل لكم جوهر القضية، ولكن لابد من قراءة الرواية نفسها، في متعة متزايدة ...البحر هنا كان صامتاً وما أروع صمته حين يكون مقاوماً بطلاً.
1769 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع