الملك البديل وظاهرتي (الكسوف والخسوف) في الفكر العراقي القديم

                                                  

                      أ.د.صلاح رشيد الصالحي

الملك البديل وظاهرتي (الكسوف والخسوف) في الفكر العراقي القديم

                           

صورة خيالية تصور كاهن يشرح للملك الاشوري ظاهرة مراحل القمر في السماء من أعلى الزقورة

لقد رأى سكان بلاد الرافدين في ظاهرتي الكسوف والخسوف رزية شريرة ونية شر يضمرها سبعة عفاريت ذوي طابع كوني، ينقضون بضراوتهم على سبعة آلهة – كواكب عليا (تجسدهم خمسة كواكب والشمس والقمر)، وتعتبر الزقورة (المعبد المدرج) أو ما يشبه البرج العالي هي المرصد الفلكي للمدينة ،حيث يتم الرصد يوميا (نهاري وليلي) لتحديد مسار الشمس في النهار، وتحديد مواقع النجوم واشكالها ليلا، وتتكون الزقورة من ثلاث إلى سبعة طوابق أحيانا، وهي مبنية على شكل مصاطب الواحد فوق الاخر، وكل واحد من هذه الطوابق يمثل كوكبا سماويا جوالا (كما كانوا يطلقون عليها بسبب حركتها اليومية) وهي على عدد الكواكب التي اطلقوا عليها الأسماء: عطارد (GU4 UD)، والزهرة (dele-bat)، وزحل (GENNA)، والمريخ (AN)، والمشتري (múl-babbar)، والشمس(šamaš)، والقمر(Sin)، وكان الفلكي يقوم بأرصاده اليومي من قمة الزقورة (وهو عادة كاهن) ويكون الارصاد الليلي خاص بالنجوم والقمر والكواكب، والارصاد النهاري خاص بالشمس ومسيرتها اليومية من الشروق وحتى الغروب، وبذلك يمكن أن نعتبر هؤلاء الكهنة الفلكيون ضابطي الوقت (ميقاتي، أو مسجل الوقت) لمجتمعهم لانهم المسؤولين عن المحافظة على مسار الدورة السنوية التي يعتمد عليها رفاه مجتمعهم الزراعي والتجاري .
ويمكن ان يدرك سير القمر في السماء فظاهرة الخسوف المتكررة كل (18) عام والتي رصدها الفلكي العراقي القديم وللفترة بين عامي (703) و (378) ق.م، أو عندما يكون في سمت جبروته مستديرا استدارة مثالية (أي انه يصبح بدرا كاملا) حيث يهاجم وجه الإله سين (القمر) المشرق (غبش محمر) مثل الظل وكأنه الموت، ونفس الحالة يطارد الإله شمش اذ يزحف على وجه في وضح النهار قرص اسود وعندئذ ينفتح في السماء ثقب في سواد ظلمته (المقصود ظل القمر الذي يحجب بقرصه وجه الشمس وهو الكسوف الكلي للشمس حيث يعم الظلام الكون وتذهب الطيور والحيوانات إلى اعشاشها)، عموما ظاهرة كسوف الشمس وخسوف القمر نذير بحدوث فيضانات وانتشار الأوبئة والطاعون والامراض والموت الذي يحيل الناس إلى رماد، ولا ينجو منه حتى الملك نفسه من العلة، وفي بعض الأحيان كان امد الخطر يدوم مائة يوم، فينتقل الملك إلى مقره الريفي حيث يخدعون العفاريت الشريرة بتسميته فلاحا وعليه الطاعة للآلهة العظام .
وفي تلك الاثناء يجلس على العرش (ملك بديل) (في الأكدية شار بوخي ar pūḫiš) ويتم تزويجه بفتاة عذراء (بتولو، ارداتو) (بالعربي بتول تعني العذراء) يجري اختياره لتأدية ذلك الحدث الطقوسي لمدة مائة يوم، ومهمته هي تحمل كل النتائج والعواقب الشريرة التي تهدد الملك الحقيقي، حيث يعيش بديل الملك في القصر بينما يواصل الملك الحكم من وراء الستار، وكانوا يقولون (أخذ السيادة الإله (بيل) على البلاد) و (بيل تعني السيد بمعنى الإله مردوخ) وهي ليست سيادة حقيقية على البلاد، وعندما تنتهي مرحلة الخطر يدفع هذا الشخص حياته ثمنا لتحقيق نبوءة السماء عن هلاك الملك بسبب ظاهرة التعتيم، فيقولن (عليه أن يذهب إلى مصيره)، وهذه العبارة تعني باللغة الأكدية (مات موتا طبيعيا) ، وبعد ان تصفي الآلهة الحساب مع عفاريت الشر ويعود الضياء إلى الكواكب كان الملك الحقيقي يعود إلى قصره في احتفال فخم، وحدثت حالة خاصة ذكرت في نص تأريخي يعود إلى بواكير العصر البابلي القديم وملخصها:
بأن الملك انليل-باني (Enlil-bāni) (1860-1837) ق.م الذي حكم (24) عاما، ومعنى اسمه (الإله انليل الخالق)، قد استلم الحكم بعد موت الملك ايرٌا-إيميتي (Erra-imitti) أو (Irra-imitti) (1868-1861) ق.م، اما عن الطريقة التي انتهى فيها حكم الملك ايرَا-إيميتي، فتذكر المصادر التاريخية قصة الموت المبكر لهذا الملك حيث توفي في قصره إثر التسميط والحرق الذي ألم به بسبب انسكاب ثريد ساخن حارق عليه في وليمة ( الوليمة بالأكدية قارتايُ) (mQāritāiu) بعد مراسيم تتويج الملك البديل (أنليل-باني)، والملك البديل تقليد عراقي قديم، تجري مراسيمه على إثر كسوف الشمس، فقد تنبأ الكهنة بان الملك ومملكته في خطر، لذا يجب عليه ان يعمد إلى اختيار شخص بديل عنه، فوقع الاختيار على بستاني يعمل في قصر الملك، والتقليد يقضي بان يحكم الملك البديل، مائة يوم قبل ان يصار إلى قتله، وعودة الملك الحقيقي إلى حكم مملكته، ويعامل الملك البديل بعد قتله معاملة الملوك من حيث مراسيم الدفن فيحظى باهتمام كبير، ويجهز تجهيز الملوك وتصف لنا وثيقة تاريخية ما حدث في مدينة إيسن، ويحتمل ان موت الملك ايرا-إيميتي قد دبر له مكيدة للتخلص منه وربما بالاتفاق بين الكهنة و(إنليل-باني). وجاء في أحد النصوص المسمارية ما نصه:
(من اجل استمرار السلالة، الملك إيرّا-إيميتي جعل، البستاني انليل-باني يحل محله ويجلس على عرشه ووضع التاج الملكي على رأسه، مات إيرّا-إيميتي في قصره لأنه تناول حساءاً حاراً، أنليل-باني الذي كان على العرش لم يتنازل عن العرش وعين ملكاً)، كما جاء في نشيد مكرس لهذا الملك: (أنت الذي تحب ان تمنح الحياة)، وعلى اثر حادثة مقتل الملك الشرعي واستلام الملك البديل الحكم أصبح ملوك بلاد الرافدين يختارون (رجل مجنون) ليكون البديل للملك الشرعي عند حدوث كسوف الشمس.
لقد درس الكهنة اطوار القمر والخسوف والكسوف ووضعوا على أساسها تكهنات كانت واحدا من مشاهد مراسم الاحتفال الجديد والمصير خلال عام كامل فعلى سبيل المثال: (يقع الكسوف أو الخسوف في شهر نيسانو (اذار-نيسان) وقت دورية الحرس الليلي الأولى: يحل الخراب ويقتل الأخ اخاه)، و(يحدث الكسوف في شهر أيارو (نيسان – أيار) يموت الملك ولا يستوي أبناؤه على عرش والدهم)، و(يحدث الكسوف في شهر آبو (تموز – اب) يثير الإله ادد الفيضانات في البلاد)، و(إذا خسف القمر في اليوم الرابع عشر من شهر دموزي.. فهو نذير للملك الـﮔوتي: سوف يسقط الـﮔوتيون بالمعركة وتتحرر البلاد).

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

651 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع