حامد خيري الحيدر
العراقيون وقيلولة الظهيرة
خلال دراستي الجامعية في قسم الآثار/ كلية الآداب قبل سنوات طويلة مضت، وضمن مادة الانثروبولوجي (علم الانسان)، القى علينا يوماً مُدرس المادة آنذاك أستاذ الآثار القديمة الراحل الدكتور وليد محمود الجادر (شقيق الفنان الراحل خالد الجادر) محاضرة ً عنوانها (أثر البيئة والطعام على سلوك الانسان). أحتدم خلالها نقاش أكاديمي حاد في منتهى المتعة... على أثرها سرد لنا أستاذنا الراحل الذي عُرف بروحه المرحة وأحاديثه الشيقة، حادثة ً في غاية الطرافة جرت معه لدى إكماله دراسته العليا في جامعة باريس عند ستينيات القرن الماضي... حيث يقول الدكتور الجادر.....
كان له زميل دراسة من النمسا شديد الحنق كثير التهكم على العراقيين، متهماً إياهم بالكسل وقلة العمل، معللاً ذلك بأنهم شعب بليد يقضي ساعات طويلة في النوم عند فترة الظهيرة، يدّعون في التاريخ ما ليس لهم وإن كل ما يقولوه وما نسبته اليهم كتب الآثار والحضارة عن أمجاد أسلافهم السومريين والبابليين والاشوريين زوراً وبهتاناً، أذ كيف استطاعوا من تشييد تلك الحضارة (المزعومة) التي يتفاخرون بها، بينما هم يقضون نصف يومهم نياماً، لذلك فحضارة ما بين النهرين لابد أنها قد شيُدت من قبل شعب آخر عمل ليلا ً ونهاراً ليتمكن من بناء حضارة بهذه العظمة.. كان ذلك الحديث يثير سُخط وغضب الطلبة العراقيين بشكل لا يوصف، خاصة أن الزميل النمساوي لم يقتنع بكل المبررات التي قدموها له، بأن مناخ العراق الحار وطول فترة نهاره، أضافة الى طبيعة ونوعية طعامه المُميز، قد حتّمت على أهل الرافدين هذه الممارسة... لذلك قرر الدكتور وليد وبعض زملائه أثبات تلك الحقيقة لزميلهم الحانق حسب قاعدة الاقناع الآثارية (أن ترى الشيء بعينك وتلمسه بيدك).. فدعوه في احد الأيام الى تناول وجبة غداء عراقية خالصة في محل اقامة بعض الطلبة العراقيين.
بالطبع لبى زميلهم الدعوة شاكراً غير داري بـ(المكيدة) التي دُبرت له. كانت تلك الوجبة عبارة عن (مرقة بامية بلحم غنم مع الأرز، أضافة الى رقي ولبن) أعدّها أحد الزملاء المتمرسين في الطبخ.. وعند المائدة أخذ صاحبنا يتناول الطعام بشراهة غير طبيعية كحال جميع الأوربيين حين يكون الطعام مجاناً، حتى أمتلئ تماماً.. ولم ينتظر به (الغادرون) فقدموا له بعدها مباشرة ً صينية مليئة بشرائح الرقي البارد (المجرّش). وما كاد يُنهي ما تيسر له حتى باغته زميل آخر بـ(دولكة لبن أبو الثلجاية)، ليحتسي منها بعد الحاح شديد كأس وأخرى، لتظهر بعد ذلك نتائج المؤامرة بشكل سريع وفعّال، حيث أخذت جفون الزميل النمساوي بالانغلاق تدريجيا ً مثل ستارة المسرح، حتى أسدلت تماماً (حسب وصف الدكتور الجادر)، فلم يعد يشعر بشيء من ما كان يدور حوله من ضحكات وكلمات سُخرية. وبعد دقائق أستعاد الرجل شيئاً من توازنه ليقول فقط كلمتين لا غير (كم الساعة)، ثم ما لبث أن أنطرح على أريكة كانت بجانبه ليغط في نوم ٍ عميق أستمر لأكثر من ساعة، أستيقظ بعدها ليرى الزملاء يُحيطون به ضاحكين مليء أفواههم، ففهم الموضوع برمته، ليشاركهم الضحك هو الآخر معترفا ًبالحقيقة (المُرّة).
وفي اليوم التالي مباشرة ً أنقلب الزميل النمساوي مائة وثمانون درجة، حيث أخذ يقول بصوت عال وبين الجميع وأينما حّل، أن أهل العراق أعظم شعوب الدنيا، فبالرغم من ساعات نومهم الطويلة شيدوا أروع حضارة في التاريخ.
رحم الله أستاذنا الراحل الدكتور وليد محمود الجادر، فقد كان أستاذاً رائعاً وعالماً فذاً، ومُربياً فاضلاً، وموسوعةً لا تُمل للأحاديث الطريفة.
3254 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع