احمد جارالله ياسين
كلنا خرجنا من قلب بشرى البستاني
اقام قسم اللغة العربية بكلية الاداب / جامعة الموصل يوم 5/ 3/ 2018 احتفالية تحت عنوان ( اعلام قسم اللغة العربية ..شهادات واستذكار ) ..وهذه مقتطفات من كلمتي (( كلنا خرجنا من قلب بشرى البستاني )) ..التي اخترت النشر لها هذا اليوم الذي يحتفل فيه العالم بعيد المراة ..وهي الاجدر بان تكون الأنموذج الاجمل انسانيا وعلميا وابداعيا للمرأة ..
من الصعب اختصار الشمس بخيط من خيوط شعاعها المضيء الجميل ، هكذا وجدت نفسي أمام شمس اسمها بشرى البستاني ، لذلك لن اتحدث عن منجزها الشعري والنقدي او سيرتها فهي علم معروف في الشعر والنقد والدرس الاكاديمي ،والجهد الانساني في مجال قضايا المراة ..لكنني سانتخب من شهادتي محطات ذات ابعاد علمية وانسانية ..
لعل مادة العروض هي أول افلام الرعب التي يثيرها القبول في قسم اللغة العربية عند المطالعة الاولى للكتاب المنهجي ..لكن فلم الرعب سرعان ماتحول في اول محاضرة الى فيلم سلام جميل واطمئنان .. بعد المحاضرة الاولى لنا في مادة العروض التي قدمتها باسلوب شيق وسهل وغير تقليدي استاذة وشاعرة مبدعة اسمها بشرى البستاني ..كنا نسمع عنها واليوم اصبحنا نراها امامنا ..يالنا من جيل محظوظ حقا ..نحن الذين جئنا الى الجامعة في تسعينيات القرن الماضي ..
ولم تكتف بذلك في تلك المحاضرة بل اخبرتنا انها مستعدة لقراءة المحاولات الشعرية الاولى للطلبة المبدعين ، وغادرت القاعة بعد ان ودعتنا بابتسامة جميلة صححت بها فكرتنا التقليدية عن الاستاذ الجامعي ..التي كانت تظن ان العلم والابتسامة يتعارضان ولايمكن ان يلتقيا في ملامح الاستاذ الجامعي ..
من هذه المحاضرة ادركت ان آل البستاني ..قد اثمر غرسهم الطيب وردة اسمها بشرى البستاني ..التي نشرت لي وانا في المرحلة الاولية اول قصيدة نثر في جريدة الحدباء ..فاحتفلت باقتناء عشر نسخ من الجريدة كانت واحدة منهن قد وضعتها امام امي التي كانت امية لكنها قراتها بقلبها ..وعلمت اني متورط بفن جميل اسمه الشعر ..
كان لها دور مهم وكبير في جريدة الحدباء التي كانت منطلقا لادباء المدينة لاسيما في بداياتهم ، كنا نزورها في مقر الجريدة ونقرا لها النصوص وناخذ بنصائحها الفنية قبل نشر النصوص ,والامر نفسه كان يقوم به مع نصوصنا زملاء الدكتورة من كادر الجريدة : الشاعران المبدعان عبدالوهاب اسماعيل وذنون الاطرقجي .
في مادة الشعر الحديث للمرحلة الرابعة ..كنت معجبا بالجانب الانساني في قصيدة الرصافي التي يقول فيها : لقيتها ليتني لم القاها/ تمشي وقد اثقل الاملاق ممشاها
فعلّمتني ان الموضوع وحده لايصنع الشعر وقالت لي ان هذه قصيدة وصفية عادية فنيا، ومنذ ذلك الحين بدات اجد الاجابات عن سؤالي المتكرر ما الشعر ؟
وكي انال المزيد من الاجابات ..اخترت اكمال دراستي في الماجستير والدكتوراه تحت اشرافها ، وحتى اليوم كلما اشتقت لاجابة جديدة عن الشعر والحب والحياة ارسلت اليها اسئلتي ..فيفيض صندوق هاتفي باجابات معطرة بالياسمين ..وهذا مايعجز الماسنجر عن تفسيره ..
كانت غرفتها في الكلية صالونا أدبيا وثقافيا يجتمع فيه طلبة الدراسات العليا والضيوف من الأدباء واساتذة القسم ، وعندما تقف خلف الباب تسمع النقاشات النقدية والحوارات العلمية بينها وبين الطلبة ،تطرق الباب مستئذنا من أجل الاستفسار عن امر ما فتستقبلك الدكتورة بابتسامة جميلة وتمنحك الجواب الشافي مع قطعة من الشوكولاتة او الحلويات الموصلية ..وتخرج معبقا بعطر العلم والمحبة ..
في ذلك الصالون مثلا قد تجد صدفة الشاعر الكبير أمجد محمد سعيد ضيفا قادما من الخرطوم في زيارة خاطفة ، يخرج فيلتقيك الشاعر مؤيد عزيز عند الباب ، ثم يمضي ليحل ضيفا الدكتور حكمت صالح الذي كان يكتب اطروحة الدكتوراه تحت اشرافها ، واشهد ان قلبها الواسع الصبور كان أكبر من كل مساحات مؤلفاته التي لو فرشها لامتدت الى الصين ، لكن قلب الدكتورة بشرى كان يتجاوز حدود الصين في الصبر على اشكاليات الاشراف عليه وعلى كثير من امثاله من طلبة الدراسات العليا المختلفين ممن كان يصعب ترويضهم لاليات البحث الاكاديمي ومنهجيته على الرغم من كونهم مبدعين ويمتلكون قدرات عالية في التاليف الحر ..ومثل د. حكت صالح كان زميلي العزيز د. قتيبة محسن الذي كان يمتلك قدرات عبقرية في اللغة والادب والتحليل النقدي ، لكنه صعب البرمجة اكاديميا وفق الشروط التي يتطلبها البحث الاكاديمي ، مع ذلك وبمرور الوقت انجز تحت اشرافها اطروحة رائعة ..
ذلك القبول الشجاع بالاشراف على هذا النمط الإشكالي من الطلبة المختلفين كان امتيازا لسيرة الدكتورة في رحلة الاشراف .لان المنتصر في النهاية هما الطرفان المشرف والباحث ..
فضلا عن قبولها الاشراف على صنف اخر من الطلبة ممن يعانون من مشاكل اجتماعية معقدة لاسيما في فترة الحصار الاقتصادي تؤثر على مسيرتهم البحثية ، فكانت الدكتورة في وقت واحد مشرفة على رسائلهم واما لهم او اختا كبرى تصغي لهم، وتحاول جاهدة وبصبر طويل ايجاد الحلول لتلك المشاكل التي تلقي بظلها السلبي على المشاكل البحثية ، حتى تصل بالطلبة الى بر المناقشة والامان .
الدكتورة بشرى البستاني من الاساتذة الذين لاتنقطع الصلة بينها وبين طلبتها بعد انتهاء رحلة الاشراف ، بل تمتد تلك الصلة العلمية والانسانية والاجتماعية الى سنوات طويلة لتستمر ثمراتها الطيبة التي لاحدود لها .
اما على منصة المناقشة فان ابتسامتها تكفي لمنح الثقة الى طلبتها كي يشعروا بالاطمئنان العلمي والنفسي أمام لجنة المناقشة ، لان من عادتها انها لاتتخلى عن مؤازرة طلبتها والدفاع عن منجزهم العلمي حتى عندما تكون المناقشات محتدمة علميا ، وتتوج دفاعها عن الطالب بكلمة خضراء معطرة ينتظرها الجميع بشغف للاستمتاع بطابعها الادبي والانساني وحججها العلمية ..
في المواقف الادارية والعلمية الصعبة التي لاتحتاج الا قرارا حازما شجاعا وجريئا تجدها تتخذ مثل ذلك القرار بحكمة ومن دون تردد ..مرة في اطروحتي للدكتوراه وقع الاعتراض على توظيفنا لنصوص شعرية كان اصحابها من المختلفين مع السلطة لذلك اقترحوا علينا رفع تلك النصوص تجنبا للاشكاليات ، لكنها اجابت بحزم اننا ندرس نصوصا فنية ولاعلاقة لنا بالمواقف السياسية لاصحابها ..فابقينا النصوص ولم نحذفها ..وتكرر الامر سابقا مع رسائل اخرى ..
من فضائلها انها كانت تحث الجميع على الترقية العلمية في موعدها المحدد من دون تلكؤ او تقاعس ، واكثر ماكانت تفعل ذلك مع من هم في تخصصها نفسه وعلى العكس مما كان يفعله اخرون ممن يخشون كثرة المناظرين لهم في تخصصاتهم ..هي كانت تفعل ذلك لانها تشعر انها مسؤولة عن تطوير ذلك التخصص ورفده المستمر بالاسماء الجديدة ..فضلا عن رغبتها العلمية بتشكيل فريق حواري بحثي نقدي مهتم بالادب الحديث وبجناحيه الشعري والسردي يمنح كلية الاداب سمة مختلفة عن الكليات الاخرى .. فريق علمي هو اشبه بمدرسة للنقد الحديث الذي كان للدكتورة بشرى فضل في الانفتاح الواسع على موضوعاته الحداثية برسائل جامعية اشرفت عليها ووجهت الطلبة الى موضوعاتها منذ وقت مبكر ، فكان لها فضل الريادة في ذلك الانفتاح الذي بدا اواخر التسعينيات من القرن الماضي ..الذي اثمر تعرفنا على الحداثة ومابعد الحداثة والبنيوية والسيميائية والتفكيكية والتلقي والاستقبال ..واعضاء هذا الفريق ينتشرون الان في الجامعات العراقية ممن كانت الدكتورة مشرفة على رسائلهم او عضوة في لجان مناقشاتهم ..
ثمة عبارة مشهورة في مجال القص تقول : كلنا خرجنا من معطف غوغول ..
واقول : كلنا خرجنا من قلب بشرى البستاني ..
تلميذك : احمد جارالله ياسين
988 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع