د.صلاح الصالحي
المؤرخ بوليبيوس يصف سقوط قرطاج عام 146 ق.م
يعتبر ملكارت إله قاسي دموي يخشى منه ومن بطشه ولهذا يقدم له قرابين بشرية، صور كانسان برأس ثور دليل القوة، وكان القرطاجيين يقدمون أطفالهم كقرابين له حيث يتم رميهم في ناره المقدسة في الصورة كاهن يقدم طفل رضيع للإله قبل رميه في النار، وعندما كان الحصار الروماني شديدا (146) ق.م، برر كهنة ملكارت بان الإله غير راضي على ما قدم له من قرابين بشرية لأنهم أولاد البربر الذين يتم شرائهم وتقديمهم كقرابين وليس أبناء النبلاء القرطاجيين
تأسست قرطاج في القرن التاسع قبل الميلاد على يد الفينيقيين، فهي تقع على تلة تهيمن على خليج تونس والسهل المحيط بها، وقد رافق تأسيس المدينة اسطورة الملكة ديدو (Dido) أو عليسا (Elissa) (814-760) ق.م وهي من مدينة صور (لبنان)، وما يهمنا أن المدينة منذ القرن السادس فصاعدا، تطورت إلى إمبراطورية تجارية كبيرة تضم الكثير من مناطق البحر المتوسط (ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب، واسبانيا، وصقلية ..الخ)، وكانت موطنا لحضارة رائعة لعبت دورا كبيرا في العصور القديمة كإمبراطورية تجارية عظيمة، وابهرت غنى المدينة واتساع مينائها القنصل الروماني كاتو (Cato) الذي زار المدينة قبيل الحرب البونية الثالثة واعلن عبارته الشهيرة (يجب تدمير قرطاج)، وكانت المدينة تحت سلطة الأسر الغنية التي جمعت ثروات طائلة من خلال نشاطهم التجاري مثل اسرة ماجو (Mago) التي تتابع أفرادها على حكم قرطاج طيلة ثلاثة أجيال ومنهم همليكار (Hamilcar)، وصدر بعل، وحن بعل (هانيبال)، وقاتل هؤلاء القادة القرطاجيين معارك قوية ضد روما التي برزت كمنافس لهم في تجارة البحر المتوسط، وعرفت الحروب الرومانية القرطاجية باسم الحروب (البونيقية) (Punic)، وهي ثلاث حروب الحرب البونية الأولى (264-241) ق.م، والثانية (218-201) ق.م، والثالثة (149-146) ق.م، وكلمة بوني باللاتيني تعني الصبغة الحمراء الارجوانية وهي ترجمة لكلمة فينيقي وتعني اللون الارجواني التي اشتهر في صناعتها الفينيقيين ويستخرج من محار يعيش في البحر المتوسط.
حاصر الرومان مدينة قرطاج في الحرب البونية الثالثة (149-146) ق.م، وقد تولى العمليات العسكرية قائد روماني يدعى كورنيلوس اسقيبو امليانوس افريكانوس (Cornelius Scipio Aemilianus Africanus)، اشتهر والده في معارك اسبانيا (اطلق على اسبانيا مقبرة الرومان) واكتسب الابن خبرة عسكرية هناك، وعندما حاصر القائد اسقيبو افريكانوس قرطاج كان يرافقه المؤرخ الروماني (ذو الأصل يوناني) بوليبيوس (Polybius)، الذي قدم وصفا لسقوط وتدمير مدينة قرطاج بعد حصارها لمدة ثلاث سنوات ضربت خلالها المدينة الباسلة وسكانها من ضروب الشجاعة ما ادهش الأعداء، فقد تخلى عنها البربر سكان شمال افريقيا وانضموا للرومان، كما تخلى عنها إله المدينة ملكارت أو ملقارت (Melqart) الذي يوصف بانه (ملك المدينة) و (بعل صور) هذا الإله الدموي الذي تقدم له سنويا الاضاحي البشرية من الأطفال على ناره المقدسة، فخلال الحصار قدم له (300) شاب من الأسر القرطاجية كتضحية بشرية حتى يرفع الحصار الروماني عن مدينتهم لكن دون جدوى، وقدم المؤرخ بوليبيوس وصفا الأيام الأخيرة لقرطاج : (كانت الشوارع المؤدية من ميدان السوق إلى القلعة (البرسا) يقف على جانبيها صفان من العمارات التي ترتفع لستة طوابق ومنها كان يصب المدافعون سيلا من القذائف على الرومان، وعندما وصل المهاجمون إلى داخل المباني استمرت المقاومة من الأسطح وعلى أعمدة السقوف، وقد سقط الكثيرون من الأسطح أو على رؤوس رماح المقاتلين في الشوارع، وأمر القائد اسقيبو بحرق القسم الذي احتلته قواته الرومانية وتنظف المنطقة حتى يعطي ممرا لفرقه، وقد نفذ الامر وسقط بسقوط الجدران كثيرون من الذين اختبئوا اثناء القتال ولاقوا حتفهم حرقا اثناء اشعال النيران، وكان هناك الكثير من الجرحى والذين أصيبوا في الحريق، وخصص القائد اسقيبو فرقة من جنوده لتخلي الشوارع من القتلى والجرحى ضمانا لسرعة حركة قواته فكانت هذه الفرقة تلقي بالقتلى والجرحى في الحفر، وكثيرا ما كان هؤلاء الجرحى يسحقون تحت اقدام خيول الفرسان اثناء مرورهم السريع إلى آتون المعركة) وفي النهاية دمرت المدينة تدميرا تاما وسويت بالأرض، وسيق من بقي من أهلها الى جزيرة ديلوس اليونانية حيث تم بيعهم كعبيد في سوق النخاسة، ويقول المؤرخ بوليبيوس في وصف ذلك :
(ونظر القائد اسقيبو إلى المدينة التي ازدهرت لأكثر من (700) سنة منذ انشائها والتي حكمت بلادا كثيرة وجزر عديدة وسيطرت على البحار والتي كتنت قوية السلاح، عظيمة الاسطول ولديها الفيلة المقاتلة والأموال الطائلة شأنها في ذلك شأن الامبراطوريات الكبيرة إلا أنها فاقتهم في الشجاعة والوعي، وعلى الرغم من انها جردت من كل سلاحها واسطولها قاومت الحصار والجوع لمدة ثلاث سنين وجاءت نهايتها أخيرا لتدمر وتسوى بالأرض، وبكى القائد اسقيبو افريكانوس ورثى لمصير عدوه بعد أن أكد مرارا لا الأشخاص فقط هم الذين يموتون بل أيضا المدن والأمم والامبراطوريات ستلاقي هي أيضا يوما ما مصيرها المحتوم، وتذكر نهاية طروادة التي كانت يوما ما مدينة مزدهرة، وتذكر سقوط الاشوريين والبابليين والميديين والفرس وكذلك امبراطورية الاسكندر المقدوني التي دمرت هي الأخرى، وردد القائد اسقيبو افريكانوس قول هكتور (Hector) في هومرية الالياذة : سيأتي اليوم الذي ستسقط فيه طروادة (Troy) المقدسة ويسقط فيه الملك بريام (Priam) وكل جنوده المحاربين معه، وسأله بوليبيوس ماذا تعني أيها القائد، فأخذ القائد اسقيبو بوليبيوس من يده وقال له : هذه لحظة مجيدة يابوليبيوس ومع ذلك فأن الخوف يتملكني واخشى انه سيأتي يوم ستلاقي فيها روما نفس المصير) .
كانت مخاوف القائد اسقيبو افريكانوس في مكانها وتحقق ما كان يخشاه فبعد ان قسمت الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية عاصمتها القسطنطينية وثقافتها يونانية، أصبحت روما عاصمة القسم الغربي وثقافتها لاتينية، وقد دمرت واحرقت روما على يد القبائل القوط الشرقيين عام (476) م، كما قام الاتراك العثمانيين بإسقاط القسطنطينية (1453) م، وتغير اسمها الى إسطنبول كعاصمة للدولة العثمانية، وهكذا أصبحت الإمبراطورية الرومانية نسيا منسيا.
692 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع