جيهان أبوزيد
لم أكن أعلم أنه يعاني أزمة نادرة إلا بعد أعوام كثيرة حين التقيت بإحدى زميلات العمل مصادفة، تبادلنا الأخبار المعتادة ثم قطَعتْ حديثي فجأة قائلة:
فاكرة «حسين» زميلنا اللي كان بيتكلم ببطء شوية؟
طبعا: أجبت.
تعيشي أنت. انتحر من سنتين.
«حسين» كان شابا حساسا، اكتشفتُ مصادفة أنه يكتب شعرا رفيع المستوى، لكنه لم يجرؤ أبداً على قراءته بصوت عال، نظرا لثقل لسانه، كان منطويا، وبرغم ذلك حصد حب الجميع.. أخوه يوم العزاء قال: إنه لم يعان في النطق إلا حين اكتشف أن أباه يعمل «عشماوي»، وهو اللقب المصري الذي يطلق على الشخص الذي يطبق عقوبة الإعدام، منذ هذا اليوم كف عن محادثة والده، لم يصدق أن وجه أبيه يحمل الموت ذاته للمئات. كان يود أن يسأله كم جسدا أسقط؟ وكم قبض مقابل القتل؟ لم يتحمل الشاب وجوه الموتى التي ظلت تطارده في نومه وفي صحوه، حتى قهرته وترك الحياة كلها يوم أتم الثلاثين عاما.
«حسين» ليس وحده الضحية، فضحايا أحكام الإعدام كثر، وأولهم المحكوم عليهم من الأطفال المراهقين والمقتولين غدرا برصاص قناص امتهن الموت. اليمن واحد من أربع دول في العالم تطبق عقوبة الإعدام على الأطفال الذين يطلق عليهم بلغة القانون «أحداث»، والطفل قانونا هو من لم يبلغ سن الثامنة عشرة، وفي سجون مكتظة يقبع مائتا حدث يمني في زنازين تحتوي الواحدة منها على ٤٠ شخصا، وفي السنوات الخمس فقط أعدمت الحكومة 15 حدثاً خلال السنوات الخمس الماضية.
والغريب أن عقوبة الإعدام تطبق برغم أن قانون العقوبات في اليمن يمنع تنفيذ حكم الإعدام فيمن يقل عمره عن ثمانية عشر عاما، ولكن الحظر الصريح في نص القانون بقي عاجزا عن حماية الأطفال من الإعدام، ويرجع الأمر إلى أسباب عدة من أبرزها أن كثيرا منهم يحاكمون أمام محكمة جنائية للبالغين، حيث إن قانون رعاية الأحداث في اليمن لا يطالب إلا بإحالة من يقل عمره عن 15 عاما إلى محاكم الأحداث، هذا علاوة على عجز الكثير من هؤلاء القُصر عن إثبات أن أعمارهم تقل عن 18 عاما حين وقوع الجريمة، وهذا الأمر الذي يبدو للوهلة الأولى غريبا، يجد تفسيره في كون اليمن لا يفرض نظاما لتسجيل المواليد، فمن بين تعداد سكاني يبلغ أكثر من 24 مليون نسمة، تسجل الحكومة %22 فقط من المواليد، و%5 فقط من المواليد في الأوساط الفقيرة والريفية، طبقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف»، ويصبح من الصعب إذاك إثبات تاريخ الميلاد الفعلي للشخص، ويمكن لأي فرد استخراج بطاقة شخصية أو وثيقة ميلاد، الأمر الذي غالبا ما يقود أجهزة النيابة أو القضاء غالبا إلى التشكيك بالوثائق الرسمية المتصلة بالعمر، أو إلى إهمالها.
هذا ويرجع تاريخ تطبيق أحكام الإعدام إلى بداية التاريخ المسجل في القرون الوسطى وبداية أوروبا الحديثة، قبل ظهور نظام السجن الحديث، كانت عقوبة الموت شائعة كشكل من أشكال العقاب، ففي بريطانيا عام 1700م، كانت هناك 222 جريمة يمكن معاقبتها بالإعدام منها جرائم قطع الأشجار وسرقة الحيوانات، لكنه ومع بلوغنا للألفية الثالثة، فإن ثلثي دول العالم قد ألغت تطبيق حكومة الإعدام قانونيا وعمليا، بينما ما زال هناك 58 دولة تحتفظ بالعقوبة وتطبقها، لكن ما لم تسجل عنه أرقام هو عقوبة الإعدام التي تنفذها أطراف خفية ولا يحكمها قانون ولا قواعد. ذلك الإعدام اللغز ينتشر في دول العالم الجنوبي، والذي ما زال كثير من دوله يدار بعصا السلطة، حيث يختفي المعارضين أو يقتلون غيلة، كما حدث قبل شهر واحد حين اغتيل السياسي التونسي «شكري بلعيد». وقبل سنوات اختفى من مصر الصحافي «رضا هلال»، والذي تمتع بمنزلة رفيعة بجريدة الأهرام لكن أمرا ما صدر بتغييبه، فاختفى. وفى الشهور القليلة الماضية اختفى عشرات من النشطاء السياسيين من الشباب، وبعد أيام قليلة فوجئنا بهم قتلى وعلى أجسامهم آثار تعذيب وحشي لتظل الدهشة عالقة على وجوه العباد. من أمر ومن عذب ومن قتل؟ أنه ذلك العشماوي اللعين الذي لم يعد بحاجة لبطاقة هوية تكشف عنه وتفضحه. أنه عشماوي جديد ابتكره النظام القديم واحتفظ به النظام الجديد ووظفه بكفاءة أعلى ودقة أدهى. القتلة الجدد انتشروا في مصر وفي تونس وفي ليبيا أيضاً. القتلة الجدد الذين لا يرتدون زيا موحدا كالقدامى، يستخدمون الرصاص والكهرباء والمدرعات والدخان وقنابل الخرطوش وحتى العصي في قتل المعارضين، ويستخدمون المال والسلطة والسلطان في قتل ضمائرهم. عشماوي الجديد كما القديم لا يميز بين النساء والرجال في القتل أو في التعذيب أو حتى السحل، وفى عصره عُذبت الفتيات وسحلن وقتلن، وآخرهن كانت الشهيدة صابرين التي ماتت قبل ما يقرب من شهر واحد. عشماوي الجديد منزعج أن الشباب والكبار نفَضوا الخوف من الموت، وأن الشهادة باتت تردد على لسان الجميع لحظة خروجه من بيته، وأن القتل ما عاد بالعقاب الذي ينشر الفزع. عشماوي حائر منزعج، وأنا فرحة كفرح الصغار.
1357 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع