د.صلاح الصالحي
بابل وقت الأزمة (1595) ق.م
لقد أكد حمورابي على أصله السامي الغربي باتخاذه ألقابا (ملك بلاد الاموريين كلها)، كما حافظ على أوثق العلاقات بالعادات والتقاليد المقدسة التي عرفها التاريخ السومري-والأكدى، ولم يؤله نفسه أو يقيم معبدا له أو يلبس التاج المقرن تشبها بالآلهة كما فعل (نرام-سين) ملك أكد سابقا، بل أصدر قوانينه الشاملة هادفا نشر العدالة في المجتمع، وبعد وفاة حمورابي استمرت إمبراطوريته يحكمها خمسة اجيال الابن يتبع أبيه في الجلوس على العرش، و حكموا أكثر من قرن ونصف من الزمن كان عليهم مواجهة الأعداء في الداخل والخارج دون ان يتحقق لهم النصر في النهاية أما لضعفهم او لأن قوتهم لم تكن كافية لإحراز النصر، ومن ثم فان جميع المدن الجنوبية في بلاد الرافدين اسميا تابعة لبابل وفعليا تم التخلي عنها ما بين (1738-1720) ق.م.
عندما أستلم الملك سمسو ديتانا (Samsu-Ditana) (1625-1595) ق.م عرش بابل، وهو ابن الملك عمي – صادوقا (Ammi-saduqa) (1649-1629) ق.م، كانت السيادة البابلية قد تقلصت كثيرا لتشمل بابل والمدن المجاورة لها، ومع هذا يمكن القول ان بداية حكم (سمسو- ديتانا) ما يزال هناك أمان فلا أعداء له ربما بفعل قوته أو بالأحرى ما ورثه من سمعة حربية من أجداده لاسيما من جده الأعلى (حمورابي)، فحتى الكاشيين سواء في جبال زاكروس أو في منطقة (خانه) (بالآشورية عانات URUa-na-at) (عانه الحالية) حيث أسسوا دويلتهم الصغيرة لم يتدخلوا في الشؤون البابلية، ولهذا كرس ملك بابل وقته في إقامة الاحتفالات الدينية في كل عام للآلهة العظام، وأطلق على سنوات حكمه أسماء تلك الأنشطة الاحتفالية .
وعلى النقيض من جده (حمورابي) فان (سمسو- ديتانا) على ما يبدو كان منعزلا وفضل البقاء في قصره (وهذه هي الانطوائية السياسية)، فحتى سنوات حكمه (31) عاما خلت من إي نشاط حربي أو مشاريع بناء، أو حفر قنوات جديدة، أو إصدار مرسوم ميشارم (méšarim) والذي يعني الحقيقة (truth) والحق (right) يقابله (Ṣedeq) (صدق) والعدالة (méšarim)، والميشارم هي القانون (mišpat) ويهدف إلى التخفيف الديون والأعباء عن المواطنين، إنما اقتصرت أعماله التي ذكرها في سنوات كافة على تقديم الهدايا الباهظة الثمن للأرباب، وإقامة تماثيل لنفسه وصورها في أوضاع مختلفة: ففي سنوات حكمه (8، 12، 13) أقام تماثيل لنفسه وبأوضاع مختلفة، ففي السنة (11): تمثال يحمل عصا مقوسة من الذهب (عصا الراعي)، وفي السنة (15): يقود قوة من الجنود، وفي السنة (17): في حالة سير، وفي السنة (21): جالس على عرش من الذهب: وفي السنة (24): يحمل الصولجان، وفي السنة (25) : يحمل خروف كهدية للآلهة، وفي السنة (27): يحمل صولجان العدالة، وهذه التماثيل –عشرة منها – وصفت بأنها قدمت للآلهة ووضعت في المعابد، فالهدف من وضع التماثيل إلى جانب تماثيل الآلهة في المعابد لكي يصلي الناس لها وبشكل مستمر وثابت نيابة عن الذي صورها، وهذا ما كان يصبوا اليه (سمسو-ديتانا) في وضع تماثيله في المعابد أو هكذا اعتقد! ولعله كان يحاول ان يسير على خطى أبيه وجده الذين بدورهم وضعوا العديد من تماثيلهم في المعابد، لكن أسلاف (سمسو-ديتانا) كانوا يشبهون حمورابي في أعمالهم فقد كان لديهم الوقت لبناء مدن، وحفر القنوات وإلغاء الديون بإصدار(الميشارم)، لكن بالنسبة لـ(سمسو- ديتانا) الحالة مختلفة جدا فلا مشاريع عمرانية ولا حربية، وحتى تماثيله كلها فقدت! ، وهناك رسالة موجهة إلى الملك البابلي من تاجر يطلب فيها مساعدة الملك وتدخله ضد جماعة تعرضت لسفينته مما يدل على تردي الوضع الإداري وتفشي الفساد وعدم استطاعة الموظفين الاخرين من حماية سفينته.
في الجانب الآخر استلم مورسيلي الأول (Mursili) (1600-1590) ق.م عرش مملكة حاتتي (المملكة الحثية عاصمتها حاتوشا Hattusa تبعد 140 كم شرق انقره في تركيا الحالية) (بالأكدية خاتي) بعد وفاة جده حاتوسيلي الأول (Hattusili)، كانت رغبة مورسيلي الأول معنى أسمه (لا يرحم) وهو اسم يطابق شخصية الملك الحثي بالانتقام من مملكة حلب بسبب جرح قاتل أصيب به جده خلال حربة الأخيرة عليها، كما ورد في النص: (إنه [مورسيلي] سار ضد حلب لينتقم لدماء جده، حاتوسيلي، اختاره ليتعامل مع حلب)، فقاد مورسيلي الأول حملة عسكرية كما ورد في النص (أنا ذهبت إلى بلاد بعيدة )، انهت حملته مملكة يمخد (يمخاض) (Iamhad)في حلب، ومن المؤسف أن سقوط حلب وتدمير المدينة برمتها جاء في نص حثي من سطرين يقول فيها: (هو سار إلى حلب، وهو دمر حلب، وجلب أسرى وممتلكات حلب إلى حاتوشا).
بعد هذا الانتصار السريع حتما زار مورسيلي الأراضي القريبة من حلب، وشاهد نهر الفرات وهو ينحدر جنوبا، وسأل السكان المحليين إلى أي مدن يصل النهر؟ لكنه يعرف ضمنا ان الفرات يؤدي إلى أرض غنية، فهو يحمل في ذاكرته قصص عن سرجون الأكدي الذي عاش قبل سبعمائة عام وعاصمته (اكادا) وموقعها في بلاد سومر، وكذلك سمع حكايات عن التجار تمكارو (بالأكديةtamkaru ) الآشوريين والبابليين الأغنياء الذين تاجروا بالمنسوجات والقصدير وجلبوها إلى بلاد الأناضول قبل قرنين من الزمان، وإذا ما غزا تلك المناطق فسوف يستولي على بابل الغنية بثروات معابدها، وسيترك أرثا أعظم بكثير من أعمال جده حاتوسيلي الأول.
فعلى ما يبدو لم يواجه مورسيلي وقواته مقاومة عنيفة خلال سيرهم نحو الجنوب، كما أن رسل ملك بابل في القلاع المنتشرة على طول الفرات نقلوا رسائل للملك (سمسو- ديتانا) تحمل أخبارا عن سير الغزاة وتقدمهم جنوبا، والمعروف أن حامل الرسالة لوحده سيكون أسرع سيرا من حركة جيش بكامله حتى ولو لم يواجه الغزاة مقاومه خلال مسيرتهم التي قطع فيها الجيش الحثي (800) كيلو متر نزولاً مع مجرى نهر الفرات نحو الجنوب، ومن الطبيعي القوات الغازية سلكت الطريق البري يرافقها السفن والأكلاك والقوارب، ويمكننا ان نتصور استغراب الجنود الحثيين الذين جاؤا من بلاد ذات هضاب وجبال صخرية عالية تغطيها الثلوج في الشتاء ومساكن شيدت من كسر الصخر، بينما الآن يشاهدون أرض سهلية جافة وحرارة مفرطة ومدن شيدت من الآجر الطيني، وأكواخ عامة الناس استعمل في بنائها اللبن والقش، وحتى لو فرضنا وجود قوة اعترضت طريق تقدم الجيش فحتما ستكون ضعيفة وليست بمستوى قوة الحثيين، ولهذا نحن نتساءل لماذا لم يستدعي (سمسو- ديتانا) قواته وحلفائه لمواجهة الجيش الحثي في معركة فاصلة ؟ أم فضل التراجع هو وشعبه والاحتماء داخل أسوار بابل.
ولكن هذا ما حدث فجأة وفي صيف (1595) ق.م ظهر عدو خارج أسوار بابل، هذا العدو لم يكن أحد يتوقعه لا في عقول ملوك بابل ولا سكانها حتى ذلك الوقت، جيش كامل التجهيز بعربات حربية تجرها الخيول وبقيادة ملك طموح ، فسرعان ما ضرب الجيش الحثي حصارا على المدينة، ثم دمر كل ما يحيط بها من القرى والمحاصيل الزراعية التي تجهز المدينة بالمؤن، بينما وقفت مدن الجنوب بعيدا عن نصرة المدينة، ربما بسبب ما يحمله السكان من حقد وضغينة وغالبيتهم ذوي أصول سومرية عاشوا حالة الإهمال والتدمير التي أصابت مدنهم سابقا (لاسيما أور)، وهكذا واجهت المدينة مصيرها المحتوم ولاسيما ضعف أسوارها وعدم صيانتها في عهد (سمسو – ديتانا)، فدخل الحثيون المدينة، ودمروا، ونهبوا، وسلبوا القصور والمعابد، وطال التدمير والتخريب حقولها وبساتينها وأسوارها وأبنيتها العامة فسلبوا ما استطاعوا واخذوا معهم الرهائن، كما جرت عمليات حرق المدينة وسرقة ممتلكاتها بما فيها تماثيل الإله مردوخ وزوجته صربانيتم والمحتويات الثمينة في معبد ايساكيلاً، ولابد وأنهم قسوا على المدينة كثيرا، فقد ظهرت في تنقيبات المدينة طبقة محروقة دليلاً ساطعاً على تلك السنة العصيبة التي انهارت فيها دولة بابل، وامتدت آثار التدمير لتشمل موضعين هما موضع (25ع2)، و (ح ح ط ك) فيهما التدمير بالنيران، ثم استدار مورسيلي عائدا إلى عاصمته حاتوشا حاملا الغنائم، ولم يترك حاكما في بابل ولا حتى حاميات عسكرية لفرض وتثبيت السيطرة الحثية مما يوحي بان مورسيلي الاول لم تكن لديه مصلحة في حكم بابل، فالحملة منذ البداية حددت أهدافها (التدمير والسرقة) كما جاء في النص ( فيما بعد سار إلى بابل، وهو دمر بابل، ونقل الأسرى وممتلكات بابل إلى حاتوشا)، وهكذا اخذ ثروات معبد ايساكيلا (Esagila) أو(الايساك إيلا) (è-sag-ila) (البيت العالي)، وهو من اغنى معابد الشرق الأدنى القديم ومقر الإله مردوخ (MERI.DUG) (بالسومرية AMAR.UTU) وزوجته الإلهة صربانيتم (Sarpanitum)، كما أخذ العديد من الأسرى البابليين، وكان مصير الملك البابلي مجهولا ربما أسر أو قتل، وتركت المدينة تتخبط في المجهول فلا ملك يدير شؤونها ولا إله يحميها، وكل ما وصلنا نص بابلي صغير يعبر عن الفوضى والضياع والغموض ( جيوش بلاد خاتي زحفت على سمسو- ديتانا وعلى بلاد أكد)! انتهى النص؟
693 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع