ألحق في الحياة، ذلك المَنسِيّ

                                              

                      د. زكي الجابر(1)

                  إعداد د. حياة جاسم محمد

ألحق في الحياة، ذلك المَنسِيّ


قد يكون في ذَيْنَكِ البِئرين 200 جثة، وذلك ما تناقلتْه في حينها أنباء عن اكتشاف مقبرتين جَماعيّتين في بئرين على مَبعُدةٍ تَقرُبُ من 20 كيلومتراً جنوب غرب العاصمة الجزائر. وأَحمِلُكَ معي إلى عام 1984 حين سقطتْ ’’جيسيكا ماكلينز‘‘، الطفلةُ التي لم تتجاوزْ عامَين من العمر، في بئر تمتدُّ عميقاً في تربة ’’ميدلاند‘‘ (Midland) بـــ’’تكساس‘‘. لقد تركَّزتْ كلُّ وسائل الإعلام الأمريكية على تلك البلدة خلال 58 ساعة استغرقتْها عمليّةُ الإنقاذ منصرفةً عن قضايا كبيرةٍ لها بُعدُها السياسيُّ والاقتصاديّ، أما حادثُ البِئرَين المقبرتينِ فقد مرَّ عابراً، وإذا ما كان هناك من إضافة فهي انتشالُ 67 جثة فقط من بِئرٍ واحدةٍ في عمليةٍ استغرقتْ 16 يوماً. أَذكُرُ كلَّ ذاك في زمن ’’الديمقراطيات الحديثة‘‘، الزمنِ الذي غدا فيه الجمهور ’’مشاهداً‘‘ لا ’’مشاركاً‘‘، وغدتْ موضوعاتِ ’’فرجةٍ‘‘ تلفزيَّةٍ أحداثُ إبادةٍ هناك، واكتشافُ مقابرَ جَماعيَّةٍ هنالك، والمُشاهَدةُ هي المشاهدة ذاتُها: ألرؤوسُ المنثورةُ بين أدغالِ ’’غواتيمالا‘‘، والجُثثُ المُثقَّبةُ بالرصاص في كمبوديا، والصُدورُ المُمَزَّقة في الشيشان، والقَتلَى بعدَ القتلى في صَيدا وسهل البِقاع كلما أزّ الطيران الإسرائيلي فوق جنوب لبنان، ومواكبُ الشهداء موكباً إِثْرَ موكبٍ كلَّما لعلع رصاص الصهاينة مطّاطاً وحيّاً، والمثقَّفون المُتحرِّرون والفنّانون المتميِّزون يُغتالون في أكثر من مكان عند مُنعَطفات الشوارع وعَتَبات الدُور.
أَقولُ كلَّ ذلك وشبكاتُ الأنباءِ نقلتْ وتتناقلُ الاحتفالَ الحادِيَ والخمسين بالإعلانِ العالميِّ لحُقوقِ الإنسان، ذلك الإعلانُ الذي اعتُمِد ونُشِر على الملأ بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 كانون الأول 1948. أَقولُ كلَّ ذلك مُؤَكِّداً على حَقٍّ مَنسِيٍّ من هذه الحقوق، ألحقُّ الذي أَورَدتْه المادة الثالثة: (لكل فردٍ الحقُّ في الحياة)!
قد لا يكون ثَمَّةَ مَن يُجادلكَ حتى تقولَ بأنَّ حقوقَ الإنسان كلٌّ لا يتجزأ، فلا يمكن مثلاً الفصلُ بين ما جاء في المادة الأولى بأنَّ جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوينَ في الحقوق، وما نصّتْ عليه المادّةُ الرابعةُ من حَظْرٍ لِلرِقِّ، وما أوردتْه المادةُ الخامسةُ من عدم جواز إِخضاع أيِّ إنسانٍ للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحَطِّ بالكرامة. ومع ذلك ففي زمن الإبادة الجَماعية التي تمرُّ مروراً عابراً دون إثارةٍ لا بدَّ من تذكيرٍ وإعادةِ تذكيرٍ بالحقِّ المَنسِيّ، حَقِّ الإنسان في الحياة، الحَقِّ الذي أكّدتْهُ المادةُ السادسةُ من العهد الدُوليِّ الخاصِّ بالحقوق المدنية والسياسية (آذار 1976) حين نصَّتْ على أن ’’الحَقَّ في الحياة حَقٌّ مُلازمٌ لكل إنسان، وعلى القانون أن يحميَ هذا الحَقَّ، ولا يجوز حرمانُ أحد من حياته تَعسُّفاً‘‘. إنّه الحَقُّ الذي يسبق، في اجتهادي المتواضِعِ، كلَّ الحقوق التي يَكثُر عنها الحديث ويحلو مثل التَمتُّع بأقصى الحرية والكرامة وحرية التعبير والإعلام والضمير وحق المشاركة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية على النحو الذي فصَّلتْه المادة الخامسة من الإعلان الذي أصدره المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان في طهران في أيار 1968.
نعم، إن سقوط الطفلة ’’جيسيكا ماكلينز‘‘ قد حَظِيَ، وينبغي أن يَحظَى، باهتمامات أجهزة الإعلام، ولكن مثل ذلك، إن لم نقلْ أَكثَرَ من مثل ذلك، ينبغي أن تُبرَزَ بكل جلاءٍ الزياداتُ التي حدثتْ في مجالات التحضير للحروب البيولوجية، ومثل ذلك ينبغي أن يُؤكَّدَ على أخطاء إطلاق مكّوك فضائي يحمل ما يَقربُ من ’’پاوند‘‘ واحد من الــ’’پلاتينوم‘‘ المُشِع، وهو ما يكفي، في حالة وقوع خطأٍ إنسانيٍّ، لإصابة كلِّ سُكّانِ الأرض بسرطان رِئويٍّ حادٍّ، ومثل ذلك ينبغي أن يُؤكَّدَ على السُمعة غير المؤكَّدة فيما يتصل بسلامة المفاعلات الذرية. وإذا ما سبَّبتْ حادثة ’’تشيرنوبل‘‘ في عام 1986 ما سبَّبتْه من مآسٍ وذُعرٍ فإن هناك ما يقرب من ثلاثة أحداث تسرُّب شعاعي سُجِّلت حتى عام 1986، وإن 24 في المائة منها وقعتْ في عام 1984، ولقد مرّتْ تلك الأحداث دون تغطية إعلامية.
إن حقَّ الإنسان في الحياة مهدَّدٌ ليس فقط من حماقة الديكتاتوريات ورعونة المتهوِّرين من حَمَلَةِ السلاح بل من أولئك العلماء ومن ورائهم فئة المهندسين والسياسيين ممن شيَّدوا المفاعلاتِ النوويةَ في أكثر من رُبعِ أقطار العالم، وإن هذه المفاعلات تولِّد أكثر من 15 في المائة من القوة الكهربائية. وإذا ما كان هناك 366 مفاعلاً نوويّاً حتى عام 1986 فإنه إلى حدود ذلك العام كان هناك 140 مُفاعِلاً آخر قَيدَ التخطيط والبناء. وفي ذلك العام ذاتِه تحدث ’’في. أي. ليڤاسوف‘‘، عضوُ أكاديمية العلوم الــ’’سوڤياتية‘‘ بعد الذي وقع في ’’تشيرنوبل‘‘ قائلاً: ’’إن التساؤُلَ الذي طرحه في أَوانِهِ المتخصِّصون الــ’’سوڤيات‘‘ حول ما إذا كان توظيفُ الطاقة الذرية صناعياً لم ينضجْ بعد، وإذا ما كان ذلك مدمِّراً لحضارتنا ونظام بيئتنا. كوكبُنا غنيٌّ جداً بمختلف أنواع مصادر الطاقة فلماذا لا نبحث هذا الأمر بهدوء. وفي هذا الشأن إننا أمام خِيار حقيقيٍّ على مستوى الدولة وعلى مستويات الأشخاص والمتخصِّصين‘‘. ويمضي ’’ليڤاسوف‘‘ ليؤكِّدَ على ما يجب بَذلُه من جهود لتطوير التكنولوجيا ذاتها، وكذلك تطويرِ معاييرَ نوعيَّة محدَّدة لضمان السلامة من أخطار هذه التكنولوجيا.
إن هذا الانتشارَ السريعَ للمُفاعلات الذرّية لا يمكن أن يكون مبرِّراً إلا في حالة توفُّر حلول حاسمةٍ لمشاكل التسّربات وتلافي ما يمكن أن يحدُثَ من خطأٍ إنسانيٍّ محتمَلٍ، وأيُّ إنسانٍ يخلو من الخطأ؟!
إِن الذي يُملي التذكيرَ بحقّ الإنسان في الحياة هو هذا الذي يُشاهَدُ يومياً من أحداث موتٍ جماعيٍّ في أكثر من بقعة من بقاع العالم. لقد قال في يوم ما شاعرٌ عربيٌّ:(2)
قَتْلُ امرِئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتَفَرْ
وقَتْلُ شعبٍ آمِنٍ مسألةٌ فيها نظرْ!

وما أقولُه، وتقولُه أنتَ، إِن قَتْلَ إنسانٍ في غابةٍ وتدميرَ شعبٍ آمِنٍ هما سَواء: جريمةٌ لا تُغْتَفَر. وإِن حقَّ الإنسانِ في الحياة ليس بمسألةٍ فيها نظر. إنه حقٌّ لن يكونَ مكانُه غيهَبَ النسيان. إنه حقٌّ يسبِق الدعوةَ إلى تمتُّع كلِّ إنسانٍ بنعيم الحياة.
ذلك ما أقولُه أنا، وتقولُه أنتَ، وكلانا على حق!

ـــــــــــــ
(1) إعلامي، أكاديمي وشاعر من العراق (1931-2012).
(2) إسحاق أديب (1856-1885) أرمني الأصل، ولد في دمشق ودرس فيها، أتقن العربية والفرنسية ثم انتقل إلى بيروت حيث تعلم اللغة التركية، ثم إلى الإسكندرية وبعدها إلى القاهرة حيث قابل جمال الدين الأفغاني وتأثر به. رحل إلى باريس في 1880 وتعرف على أدباء فرنسيين منهم فيكتور هوغو. عاد إلى القاهرة وأسهم في الحركة الوطنية ثم إلى بيروت، وتوفي في قرية ’’الحدث‘‘. (ويكيپيديا العربية)

نشرت في صحيفة العَلَم (المغرب)، 23-5-2000

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

990 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع