جمهور كركوكلي
رَمَضان .. في قلعةِ كركوك قديماً ....
في العَددِ الماضي تحدّثنا عن يومياتِ قلعةِ كركوك في رَمضان ، ويبدو أنّ الأمرَ قد حَلا لِكثيرٍ من قرائِنا الاعزاء ، الذين راسَلونا وهاتفونا ، مُبدين إعجابَهم بالموضوع ، ومؤمّلين في الوقتِ ذاته ، أن نواصِل الحديثِ عن الزمنِ الجميل مِن ستينياتِ القرنِ الفائت ، ونزولاً عِندَ رغبتِهم ، نُكمِل ما بدأناهُ ، ونعودُ إلى الموضوع ( والعَوْدُ أحمَد ) كما يُقال..
كَانَ مِن دَيدَنِ أهلِ القلعة يومذاك وهُم يعيشون أيامَ الشهرِ الفضيل ، بِكل جَوارحِهم وأفعالهم ، أن يتواصلوا فيما بينهم ، ويُولوا التصالح والتسامح شديدَ الاهتمام ، وعَظيم المنزِلة ، فكبيُرهم يَحنو على الصَغير ، وصغيرُهم يُجِّل الكبيَر ، وكَمْ مِن مرةٍ رأيتُ صبية المحلة يلعبون الكرة ، حتى اذا أقبل رجلٌ كبيرٌ في السِّن ، كفوا عن اللعب ، إحتراماً له ، وإذا رأوا رجلَ دين أو شيخَ طريقة أو سيّداً مِن نَسلِ الرَسول أقبلوا عليه يُقبّلون يديهِ ، وكم مِنْ مرّة ٍرأيتُ أحدَهم إذا لمحَ فتّة َخُبزٍ مَرمية على قارعةِ الطريق ، إلتقطها بيده وقبّلها ووضعها في جيبه ، حتى إذا وَجدَ مكاناً ملائماً أو شقاً في جدار دَسّها به لتكونَ طعاماً لطيرٍ أو دَواب .
وإذا استعرضنا صورَ الطيبةِ والأريحية عِندهم لَطالَ المَقالُ وتَشّعبَ الحديثُ ، فخِصالُ الطيبةِ والمحّبة والأخاء التي تتجّسد في شخصيةِ الفرد عندهم ، تسمو وتترّسخ في رمضان ، أكثر مِن أيّ وقتٍ آخر ، وَلمْ تكنْ الفوارق الطبقية والاختلافات الفكرية والعقائدية ، تُشعِرُهم بالغضاضةِ والخَجل ، فالاختلافُ بينهمْ لا يعني خِلافاً ، ولا يُفسِدُ للوّدِ قضية ، والاختلافُ سُنّةٌ كونيةٌ مِنْ سَننِ الله عزّوجل بدأً من إختلافِ الليلِ والنهارِ والفصولِ الأربعة وإختلاف ألوانِ البشروألسنتهم وإختلافِ الطبيعةِ مِن بَلدٍ إلى آخر وإختلاف أذواقِ الناس في المأكل والمَلبس ، وإختيار الالوان.
والاختلافُ أيضاً حالةٌ طبيعيةٌ بلْ وصِحية أيضاً ، وقديماً قيلَ ( لولا إختلافُ الأذواقِ لبَارتِ السِلَع ).
وَكمْ مِن مرةٍ رأيتُ المُسلمَ يُشارك جارَه المسيحي ، أفراحه وأتراحه ، والمسيّحيُ يتوّددُ الى جارِه المُسلم في رَمضان بتبادلِ الهدايا والطعام في أوقاتِ الفطورِ والسَحور ، والساعور ( نعّوم ) في كاتدرائية أم الأحزان ، يتعّمدُ تأخير قَرْعِ الناقوس إلى حين فَراغ مؤّذن جامع النبي دانيال ( دلّي محمود ) مِن آذان العصر او الظهر ، في إحترام مُتبادل قلّ نظيرُه في الوقتِ الحاضرِ بين ساعور الكنيسة ومؤّذن الجامع. ومّما يُجدر ذِكرُه في هذا الصَدد ، أن المرحوم ( ماربين ) المعّلم في مدرسةِ الطاهرةِ الابتدائية للبنين ، بالقلعة كان يتّولى تدريسَ مادةِ ( الدين ) للتلامِذة المسلمين ، حتّى أطلقتْ عليهِ العامة لقبَ ( مُلا ماربين ) وهو المسيحي أباً عنْ جد ..
واليوَم ، حينَ أجولُ بناظرّي في قلعتِنا الشمّاء وقدْ غَدَت أطلالاً ينَعَق الغُرابُ في جنباتِها ،أتذّكرُ تِلك الايام الهانئاتِ مِن سالفِ عهِدنا بها ، وأتذكرُ مَرابِعَ صِباي ومراتعَ شبابي ، فأقولُ في سِّري كما قالَ مَجنون ليلى :
دَعوني أمُتْ غمّاً وهّماً وكربةً .. أيا ويحَ قلبِي مَنْ بِهِ مِثْلُ ما بيا
دَعوني بغّمي وأنهدوا في كلاءةٍ ... مِنَ اللّهِ قد أيقنْتُ أنْ لسْتُ باقِيا
وَراءَ كم .. إني لقيتُ من الهوى ... تباريح أبلت جدتي وشبابيا
سقى الله أطلالاً بناحيةِ الحِمى .. وإن كّن قد أبدين للناسِ ما بيا
مَنَازلُ لو مَرَّتْ عَلْيها جِنَازتِي لقالَ الصَّدَى : يا حَامِلَيَّ انزِلا .. بيا
والى أحاديث رمضانية اخرى ، أن شاء الله تعالى ...
4789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع