(المصاهرات الدبلوماسية) و (الداخلية) في العهد الاشوري الوسيط (١٥٢١-٩١١) ق.م

                                              

                        د.صلاح الصالحي


(المصاهرات الدبلوماسية) و (الداخلية) في العهد الاشوري الوسيط (1521-911) ق.م

    

خريطة توضح موقع تل تابان وتل صبي ابيض في سوريا (اليمين)، عثر على الكثير من ايدي الطين سواء في قصر اشوربانيبال في نينوى، أو في العاصمة كالخو (نمرود) البعض يحمل كتابة مسمارية، والايدي الطينية محفوظة في متاحف بغداد، وبلجيكا، والدنمارك، وأستراليا، وبريطانيا..الخ، ولا زالت وظيفة الايدي الطينية غير واضحة ربما تركيبات معمارية في داخل المباني وتوضع بين الجدران أو السقوف إما لدعم الوزن أو لأغراض الديكور(اليسار).
من المعروف جيداً أن ملوك دول الشرق الأدنى القديمة استفادوا من المصاهرات بينهم لأغراض سياسية و تسمى بـ(الزواج الدبلوماسي) ، كما وردت في النصوص المسمارية مصاهرات بين الأسرة الملكية الاشورية والأسر المحلية التابعة لهم، وهذه الزيجات لها أسباب سياسية الهدف منها فرض سيادة الدولة في المقاطعات التابعة لإمبراطورية، وهذا النوع من (المصاهرات الداخلية) لم يحظى باهتمام الباحثين كما هو الحال مع النوع الأول، ويمكن وصف النوع الثاني بأنه (ممارسة الهيمنة السياسية والثقافية)، فمن خلاله سعت آشور إلى فرض سيادتها وإدارة مقاطعاتها، وكمثال سوف اعتمد على الوثائق الآشورية من العهد الاشوري الوسيط من تل تابان (Tāban) (بالآشوري تابتو Tābetu)، و الوثائق من تل صبي أبيض (Sabi Abyad) (في سوريا).
1- تل تابان / تابتو والسلالة المحلية في بلاد ماري (Mari)
عثر على نصوص آشورية تعود إلى العهد الاشوري الوسيط في موقع تل تابان أو (تابتو القديمة)، وكانت تابان عاصمة لدولة تابعة لآشور وهي شبه مستقلة تسمى بلاد ماري (مدينة ماري تقع على الفرات والمناطق المحصورة بين رافدي الخابور والبليخ يطلق عليها بلاد أو أرض ماري)، والمعروف هذه المنطقة (بين الخابور والبيلخ) جزء لا يتجزأ من الدولة الآشورية في تلك الفترة، علاوة على ذلك ، لم تنحدر السلالة الحاكمة في بلاد ماري من الأسرة الملكية في آشور، انما أصلها محلي، ومع ذلك حملت العائلات المحلية أسماء آشورية، وتصرف ملوكها مثل الملوك الآشوريين ولكن بشكل اقل نسبيا، فقد عاشوا في قصر مزخرف بأسلوب آشوري والزخارف كانت مثل المسامير الطينية التي تزين الجدران، كذلك الأيدي الطينية (الشكل أعلاه)، وقلدوا نقوش الكتابة الاشورية وهي تشبه النقوش التذكارية الآشورية، و كان لديهم مقابر ملكية بنيت بأسلوب مماثل لقبور الملوك الآشوريين المشيدة داخل القصر في مدينة آشور.
من ضمن الرقم الطينية المكتشفة مؤخرا من تل تابان، ورد فيه اسم ادد-بيل-غابي الأول (Adad-bēl-gabbe) (حكم بداية القرن الثالث عشر ق.م)، وهو ابن زومايا (Zumiya)، وحفيد اخيت-تيشوب (Akit-Tessup)، واسماء (Zumiya) و (Akit-Tessup) هي أسماء حورية (Hurrian) ربما سلالتهم تعود لبقايا المملكة الميتانية، ومع ذلك، فإن وريثهم في حكم مملكة تابان الصغيرة يحمل اسم آشوري أداد-بيل-غابي، كما أن خلفاؤه أيضا يحملون أسماء آشورية.
بعبارة أخرى، تعود العائلة المالكة المحلية إلى الفترة الميتانية، ثم تكيفت بعد ذلك مع الغزو الآشوري لمنطقة الخابور، ومع الحماية الآشورية واصلت تلك السلالة حكم أراضيها الصغيرة حول مملكة تابتو بعد سقوط مملكة ميتاني.
2-ابنة الملك في تابتو
من بين النصوص الآشورية المكتشفة من العهد الاشوري الوسيط في تل تابان عام (2005)، هناك 14 نصا على الأقل تدل على شخصية وصفت باسم معرو شاري (معرو تعني بنت، وشاري ملك) (māru šarri) أو دومو مانوس لوكال (DUMU.MUNUS LUGAL)، تترجم حرفياً (ابنة الملك)، أي (الأميرة)، وأشارت تلك النصوص بأن الأميرة لها أنشطة اقتصادية وعلى النحو التالي:
قائمة تضم منسوجات واحجار كريمة وخشب باعتبارها المالكة، وقائمة أخرى تضم منسوجات وخشب وتوابل وخراف تعود لها، أو تقدم كقروض من قبلها، وقائمة أخرى تضم أوعية زيت وطحين باعتبارها البائعة.
ولا يشار إلى الأميرة باسمها الشخصي ابدا، مع العلم تذكر النساء الأخريات باسمهن كما في أرشيفات تل تابان، وعلى الرغم من أن حكام المحليين لمملكة تابتو حملوا لقب (ملك بلاد ماري)، فليس من المعقول أن تكون (بنت الملك) هي ابنة حاكم تابتو، لأن هؤلاء الحكام المحليين تذكر دائما أسمائهم، علاوة على ذلك، لم نعثر على نصوص تشير إلى أسماء بنات الحكام المحليين، بينما أبنائهن الذين لم يستلموا العرش، يشار إليهم بأسمائهم الشخصية مع ذكر اسم والدهم، ولدينا نص مسماري يضم قائمة بأسماء الشهود على صفقة تجارية أجراها الحاكم المحلي أدد- بيل- غابي الثاني ابن أشور-كيتا-ليسير الأول (Assur-ketta-lesir)، ومعهم أدد- موساسري (Adad-musasri) على الأرجح الاسم الأخير ابن آخر لأشور-كيتا- ليسير الاول، وهو أخو ادد-بيل-غابي الثاني، ولم يستلم العرش وذكر اسمه في قائمة الشهود ومع هذا لا يطلق عليه أبداً لقب (ابن الملك).
وعلى العكس من ذلك، عند ذكر الملوك الآشوريين يطلق عليهم (ملك) شار (šarru) بدون اسم كما في النصوص تل تابان، لذلك من المحتمل جداً أن (ابنة الملك) الغامضة هي ابنة ملك آشوري، أي أميرة آشورية، وربما هذه الطريقة في الكتابة هدفها الحفاظ على (مسافة من التقدير والاحترام) مع ابنة الملك الاشوري.
3-الزيجات الأسرية بين البيت الآشوري الملكي والسلالة المحلية في بلاد ماري
تشير النصوص الأرشيفية من تابتو إلى أن الأميرة الآشورية لم تقم بزيارة تابتو(Tābetu) لفترة وجيزة، انما كانت مقيمة في المدينة، وأن وجودها كان طويل الأمد كما وردت في النصوص، وانها كانت متزوجة من الحاكم المحلي أو ربما ابنه ولي العهد، ومن الواضح أن (ابنة الملك) كانت ذات مكانة عالية في القصر الملكي في تابتو، وهو ما يماثل مكانتها في آشور، وكانت الأميرة تحتفظ (بإدارة ممتلكاتها الخاصة) في (بيت الاميرة pittu) ضمن قصر تابتو المحلي، وهذا يفسر القوائم والملاحظات الخاصة بالمواد والسلع التي تمتلكها، ففي قائمة المواد (T05A-177) سجل امتلاك الاميرة (النسيج، والخشب، والحجر)، وفي نفس الوثيقة قائمة المواد الأخرى منفصلة تعود إلى الحاكم المحلي آشور-كيتا-ليسير الأول.
اشتهرت الأميرة الآشورية في النصوص التي تعود إلى أواخر عهد شلمانصر الأول (1274-1245) ق.م والفترة الأولى من عهد توكلتي-ننورتا الأول (1244-1208) ق.م، واعتقد ان هناك أكثر من مصاهرة بين أميرات آشوريات والسلالة الحاكمة في تابتو فهناك وثيقتان من أرشيف (Tābetu) فيهما شهادة على عقد تجاري ذكر فيها (ابنة الملك) والفترة الزمنية بين الشهادتين (70) عام مما يدل بان هناك عدة زيجات ربما أميرتين أو ثلاث أميرات اشوريات تزوجن من الحكام المحليين.
على عموم وردت في الوثائق من عهد الملك المحلي آشور-كيتا –ليسير الأول بأنه زوج (ابنة الملك)، وما يدعم هذا الرأي الوثيقة (Tab T05A-177)، وهي قائمة المواد التي تخص الأميرة إلى جانبها قائمة مواد منفصلة تعود ملكيتها إلى آشور-كيتا-ليسير الأول، ومع هذا لا يمكننا أن نبرهن إذا كان ابن الأميرة الآشورية قد اعتلى عرش بلاد ماري أم لا؟ وبعبارة أخرى، لا نعرف إذا كانت سلالة بلاد ماري قد أصبحت أصولها آشورية تماما أم لا؟ وما نعرفه تلك المصاهرات بانها عززت العلاقات الأسرية بين البيت الاشوري وبيت حاكم مملكة تابتو، وهي بالتأكيد استراتيجية آشورية فعالة، وأصبحت من خلالها السلالة المحلية وثيقة الصلة بالبيت الملكي الآشوري وهذا يفسر بان الحكام المحليون لتابتو كانوا يقلدون الملوك الآشوريين في كل شيء، ربما اعتبروا أنفسهم مرتبطين أو جزء من العائلة المالكة الآشورية، وأصبح الحاكم المحلي تابعا للدولة الاشورية وربط ثرواته باقتصاد أشور، وفي نفس الوقت استفاد من الولاء للآشوريين بشكل واضح: فقد حافظت الأسرة المحلية في تابتو على ولائها للملوك الآشوريين في الأوقات الصعبة، عندما حدثت غزوات آرامية في أواخر القرنين الثاني عشر والحادي عشر ق.م في شرق سوريا وحصلت تابتو على الحماية الاشورية ضد الغزو الآرامي، وهكذا فأن (الزواج الداخلي) كان استراتيجية فعالة لكسب الولاء والتأييد السياسي للجانبين.
4-الزيجات الأسرية الأخرى في آشور
لدينا مصاهرات أخرى بين الملوك ومنها المصاهرة بين الملك بورنابرياش الثاني (Burnaburiaš) ملك بابل الكاشي وموباليتات–شيروا (Muballiṭat-Šerua) ابنة اشور-أوبالط الأول (1365-1330) ق.م، بالإضافة إلى الزواج بين آشور-بيل-كالا ملك آشور(Aššur-bēl-kala) وابنة الملك أدد-أبلي-أدينا (1069-1046) ق.م ملك بابل، والتي ذكرتها الوثائق البابلية، علاوة على ذلك، تشير وثيقة آشورية من العهد الاشوري الوسيط عثر عليها في آشور تحت رقم (A 335)، تذكر الأميرة الآشورية (ابنة الملك) (معرو شاري) (māru šarri) ، ذهبت إلى بابل، نتوقع زواج أميرة آشورية من ملك بابلي أو ولي العهد.
ومع ذلك، لا ينبغي الخلط بين حالة زواج أميرات آشوريات من الحكام المحليين أو أمراء تابتو (Tābetu) مع زواج من أمراء بابليين، لان الملوك البابليين كانوا ملوكاً أجانب مستقلين فالمصاهرة هنا هي (زواج دبلوماسي)، ولدينا مثال آخر على زواج بين أميرة آشورية وحاكم تابع، وتعود هذه الزيجة إلى العصر الآشوري الحديث الثاني (745-612) ق.م، حيث تزوجت آخات-أبيسا (Aḫat-abisa)، ابنة سرجون الثاني (721-705) ق.م من أمبارس (Ambaris) حاكم تابال (Tabal) (المنطقة الجنوبية المطلة على البحر المتوسط في تركيا الحالية) التابع لآشور، وعلاوة على ذلك هناك دراسة حديثة أجراها الباحث (Radner) عن حياة أمير مصري باسم شوشينق (Shoshenq) أو سوزانق (Susanqu)، الذي ربما تم تأسيره في معركة التقية (Eltekeh) عندما حارب سنحاريب جيشا مصريا ربما كانت الحملة المصرية بقيادة شباكا أو شباكا نفركار (معنى اسمه روح رع الجميل) الفرعون المصري من الاسرة الخامسة والعشرين النبتية في عام (701) ق.م، وقد عاش هذا الأمير المصري في نينوى، وكان على ما يبدو متزوجا من أميرة آشورية محتمل ابنة سنحاريب، وربما تم تعيينه لاحقا من قبل اسرحدون ملك آشور ليكون حاكم بوسيريس (Busiris) (أبو صير بنا الحالية) في وسط منطقة الدلتا، ومن الواضح أنه في العصر الآشوري الحديث (تم استخدام) الأميرات الآشوريات ليس فقط لـ(الزواج الدبلوماسي) مع الملوك الأجانب الذين لم يمتثلوا للحكم الآشوري، ولكن أيضاً من أجل (الزواج الداخلي) مع حكام التابعين الذين تعهدوا بالولاء لملوك آشور.
5-المصاهرة مع السوكال-ماخ (sukkalmaḫ) (الوزير الأعظم)
على الرغم من وفرت الوثائق من العهد الآشوري الوسيط، لكنها مع الاسف قدمت معلومات قليلة عن الزيجات الأسرية، إلا أن نصوص (تل صبي أبيض) تعلمنا عن أكثر القضايا إثارة تلك التي تتعلق بالزواج بين البيت الملكي الآشوري واسرة الوزير العظيم (سوكال-ماخ) (أعلى مسؤول في الإمبراطورية والرجل الثاني بعد الملك)، ففي رسالة من تل صبي أبيض تحت رقم (T 93-20)، والتي تتعلق بالعربات المتنقلة فهناك تميز بين قوافل أسرة إيلبادا (Ilī-padâ) ويعمل سوكال-ماخ، وأميرة آشورية (ابنة الملك) (māru šarri) وغيرها من الشخصيات الرفيعة المستوى، ومن المنطقي جدا ذكر قافلة الأميرة الآشورية بعد قافلة إيلبادا الوزير الأعظم، ثم تليها قافلة الأشخاص الاغنياء، لأنها كانت أول زوجة للسوكال-ماخ إيلبادا، ونقرأ في عبارات التحية التي وردت في مقدمة رسالة من تل صبي ابيض (T 04-24)، بأن اسم الأميرة الآشورية هو لاليبي (La-libbi)، وعلى ما يبدو عندما ارسلت الرسالة كانت الاميرة الاشورية تعيش في آشور مع أطفالها.
وأيضا توجد أميرة آشورية أخرى تدعى إبيرات.. (Epirat ...) ذكرت في وثيقة صغيره واحده من تل صبي أبيض، وموضوعها الرئيسي والد إيلبادا (Ilī-padâ)، ويدعى آشور-إدين (Assur-iddin)، وكان هو الآخر (سوكال-ماخ) وزير أعظم، على العموم تحتوي الوثائق التي تعود لآشور-إدين على قروض تؤرخ إلى النصف الأول من عهد توكلتي -ننورتا الأول ملك آشور، ففي وثيقة رقم (T 97-5) من تل صبي ابيض استلمت الأميرة (هدية) شلمانو (Šulmānu) وحسب رغبة الشخص الذي قدمها، وهذا يفسر لماذا تم ذكر أسم الأميرة الآشورية إيبرات .. في هذا السياق بالذات ربما لأنها كانت متزوجة من آشور-إدين الوزير الأعظم.
كان أشور-إدين وابنه إيلبادا، يحتلان منصب سوكال-ماخ (sukkallu rabin) )الوزير العظيم(، وكانا بمثابة فرع جانبي وقوي من البيت الملكي الآشوري والأكثر نفوذاً في المناطق الغربية للمملكة الاشورية، و من المفترض أن آشور-إدين وابنه الوريث إيلبادا تزوجا من أميرات آشوريات، مثلما هو الحال مع حكام تابتو المحليين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3422 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع