بقلم د. رحيم الغرباوي
ســـفونية الانبعــــاث ... قـــراءة في شــعر الدكتورة ســجال الركابي
إنَّ ظاهرة الانبعاث ظاهرة من أخصب الظواهر في شعرنا الحديث , فقد تفشت في شعر الشعراء التموزيين بعد الحرب الكونية الثانية من طريق التأثر بالثقافات الغربية والإفادة منها في تكوين ثقافة عربية خاصة لاسيما في أدبنا العربي بعد الصدمات التي لاقاها أبناء المجتمع بوعود أذيال الاستعمار لهم بالتحضر والتطور وخدمة المجتمع ؛ مما جعل المواطن لاسيما الشاعر يعيش الاغتراب النفسي والمكاني بسبب الضغوط التي مارستها الحكومات أنذاك وقيامها بكبح أصواتهم والسعي إلى قهرها ؛ مما جعلهم ينشدون معاني انبعاث الحياة من جديد مستلهمين من الأساطير والتراث ما يتوافق مع متطلبات موضوعاتهم و نوازعهم في التخفي وعدم إشهار معاني التغيير تفاديا المطاردة كما يذهب الكثير من النقاد لكنني أرى مع ذلك أن الرموز التي كان يستعملها الشاعر هي بنية فنية تمنح القصيدة سر عمقها وقداسة هدفها ؛ لما تحمله من حصاد من مقدسات وقيم الشعوب عبر أزمانها بالغة القِدَم .
ولما كان الشاعر المعاصر يسعى إلى " المواءمة بين شخصيته وفرادته من جهة وكلية حضوره الإنساني من جهة أخرى ؛ مما جعل شعره مزيجاً من الشخصي والكوني , بين الذات والتاريخ , وكأني به يريد أنْ يمسك الذات والأبدية في آن " (1) . ويبدو أنَّ المعاناة والمآسي واحدة في جميع العالم ؛ مما جعل الشاعر ينافح بنزعته الوجودية من أجل السلام والاستقرار ؛ لما لاقاه من ويلات الحروب ومن آثارها المقيتة التي غيرت خريطة السياسات والأحداث , فجعلت دول العالم الثالث مرة أخرى ينضوي تحت سطوتها من خلال اتباعها لسياساتها البغيضة ؛ مما حدا بانساننا العربي ينافح من أجل استقلال بلاده , ونيل حريته لاسيما منهم الشعراء .
لكن بعضهم لم يغرق بكتاباته في خضم الواقع , بل راح يعيش على شواطئ الرومانسية , لكن في الوقت نفسه ظل يتوق إلى الانبعاث من أجل العودة إلى الفطرة التي فطر الله براياه عليها ؛ كونه وُلِد حرَّاً من دون هذه السياسات التبعية المتعامية التي تتخذها الحكومات التابعة بحق رعيتهم من استعباد وظلم , وجور .
والشاعرة الدكتورة سجال الركابي واحدة من الشاعرات اللاتي كتبن الشعر وعشن معاناة الواقع ؛ لكنهن مزجن الواقعية بالرومانسية , فهي المرأة الحالمة التي تستشعر الحياة بوصفها تنعم بالجمال والحب بعدما حينما يطرب الوطن على سمفونية الحرية ويدب السلام بيد أنها في الوقت نفسه تشعرنا أن حياتها شأنها شأن أبناء وطنها غائمة مستباحة ليس فيها من فسحة أمل إلا في رحاب التغيير وانتشال الوطن من ركامات الحاضر , فهي تقول في قصيدتها ( هيَّا ) :
سأجري معكَ بلا هوادة
الطواغيتُ التهمَتْ البراءةَ
الزلزالُ صاخبُ المدِّ
هيّا الى مرجَ البحرِ
نوقد قرابين َالغضَب
نشعلُ قناديلَ الرؤى
عسى الموجَ يهدرُ بجواب
يستأصل بثوراً
أصابها كساح مُزمِن......
وكأن الشاعرة تخاطب في النص رفيقاً لها في الرفض , وهي تجري معه و ( الجري ) هنا يمنحنا دلالة النضال المستمر والهمة العالية من أجل نشدان الهدف , وقد ذكرت الشاعرة رموز الظلم والطغيان منها : الطاغوت وهو يلتهم البراءة , والزلزال الذي يمثل رمز التدمير , لكن جريها يتجه مع جري الجنس الآخر - مشيرة إلى رص الصف نساء ورجالا - إلى مرج البحر ، والمرج لفظة ذكرها قرآننا الكريم : (( مرج البحرين يلتقيان )) ؛ لذلك وظفتها الشاعرة ؛ لتبين لنا قدسية الهدف والمسعى , فضلا عن ذلك لفظة قرابين , والقرابين لاتقدَّم إلا لإله ؛ إيماناً منها بالتحرر بمعونة السماء ؛ كي تتحرر من الطامعين الذين اغتالوا البسمة من الشفاه , ويبدو أنَّ الموج هو رمز الثورة بدلالة الجمل المركبة التي وردت : ( عسى الموج يهدر بجواب , يستأصل بثوراً أصابها كاسح مزمن ) .
و الشاعرة قد استعملت الأفعال المضارعة في أغلب نصوص النص ؛ كونها تدل على الحدوث والتجدد ( سأجري ، نوقد , نشعل ، يهدر ، يستأصل ) وجميعها تدل على التغيير والانبعاث من ركام الموت إلى انبلاج حياة جديدة مفعمة بالخير والسلام .
أما في قصيدتها الأخرى ( إنهمرنا... أطيافاً وطفنا ) التي تقول فيها :
هاهي تتطاير
تشدّني إليكَ
بلابلُ نغماتٍ لؤلؤيّة
آهٍ لو كُنتَ معي
لأمتطينا بساطَ سحرِ البكاء
رفرفَ الفجرُ مِن كفّينا
نراها هنا تبث لواعجها ، وتنشر على كلماتها مراسيم حزنها ؛ لما تعيشه من وحدة أدمت وجدانها , إذ نراها تسبح في أمواه الرومانسية الحزينة ، و تعيش الغربة المشوبة بالألم , فترى نفسها تسكن بهذا العالم كائنا مهجوراً , ضغطت عليه لواعج الزمن وأضرار المحن ؛ وهي الحالمة , بودها أن تعيش عالماً يشع بالأمل مع الحبيب على الرغم من مغادرته صوب المجهول , وقد أشارت إلى البلابل التي تشدها إليه ، والبلابل رمز الجمال والسحر الذي تتباكى عليه الشاعرة ؛ لما تراه من ضياع بدلالة أداة الشرط ( لو ) فهي حرف امتناع لامتناع , فصارت مطالبها أماني تحاول استرجاع أحداثها بالذاكرة , مستوحية من ألف ليلة وليلة أسطورة بساط الريح الذي يسافر في الأماكن التي تسحر اللب والعقل , لكنه اليوم يدل على الحزن بفعل الخراب الذي عمَّ المنطقة بأسرها فصار بساط سحر للبكاء ، إشارة منها إلى الماضي الذي لم يدم ، ثم تؤكد هذه الدلالة بقولها :
سوى...!
أنّكَ... لم تَكُ معي
ومعي كُنتَ!!
إنهمرنا مِن دندناتِ العود
أطيافاً...
... وطِفنا
أعشبَ القمر تحتَ قدميك ...
فالأفعال ( لم تك , انهمرنا , طفنا ، أعشب ) جميعها تدل على ذكرياتها الجميلة المزدهرة بالسحر والجمال والفن والخصب والنماء , وكأننا نرى في النص دلالة الحضارة التي زالت وطوتها مقاليد الأحزان , فصارعلى أهلها يهيمن الضعف بدلا من القوة ، والتشتت والفرقة بدلاً من الوحدة , ثم هي تؤمن بالأمل الذي لا يتحقق إلا بالحب بين النفوس ؛ فتعمر الحياة وتخصب الأرض , فهي تقول :
وأنا...!
روحي... رذاذُ انتظار
عبيرهُ شوقٌ
مجهولُ الإيقاع
تعال نمحو
سمفونيةَ الأحزان
تعالَ نرسم
فردوساً للدربِ الموؤد
رموش الصغار تُرتّلُ
أجنِحةَ قيثارة سلام
إهزِج معُي دموزي
فأنا...
الوتر الأوُلُ
وأنا
الوترُ الأخير
فهي تنتظر من هو يبني لها الحياة الجديدة وهي تنبعث من تحت سماوات الأمل ، فعشتار بانتظار تموز , ومن دونه الأرض يباب , كما أنَّها الباحثة عن السلام والخير والعطاء , ولا يتم ذلك إلا بشريك في العمل والبناء , طالبة من الغائب المنتظر أن يهزج معها أهزوجة الخصب والنماء فهي ( الأول والأخير) إشارة إلى أهزوجة عشتار سيدة الحضارة البابلية التي ينتظر معها الخلق قدوم تموز إله الخصب حتى يعم الحياةَ الخيرُ , وينتعش في أرضنا السلام .
(1) الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر , د. سلام الأوسي : 103
946 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع