بقلم د. رحيم الغرباوي
الحنين وأوراق التوت ، قراءة في المجموعة الشعرية ( مرافئ التعب ) للشاعرة العراقية المغتربة بنفسج محمد علي .
لعل الوجود من وضع الأنا حسب الفيلسوف فشته (1) وأنَّ الجحيم هو الغير عند سارتر (2) , بينما الأدب هو ما يمثل عالم الإنسان الداخلي من خلال مؤثرات المحيط , فيبدو ذلك الإنسان أما قارَّا أو جازعاً مما يعتمله من تلك المؤثرات سلباً أو إيجاباً , وقد تحمَّل الأدب نزعة وجود الإنسان لاسيما الشاعر من خلال قراءة النصوص ومعالجة قضاياها وفتح آفاقها على الدراسات والاتجاهات الفلسفية التي دارت حول ذلك الإنسان , لا سيما إنساننا العربي , وهو يعيش الصراعات بفعل الأزمات السياسية التي تضع عواقبها على وجوده , والآخر الإنسان الذي يحيق بالإخر ظلما في القوت أو العمل أو المنافسة , أو اضطهاد يزمُّه الحبيب على حبيبه بفراق أو ماشابه , أو مآسي الوطن التي تتجدد على مدار الساعات , والعالم يعيش مطلع الألفية الثالثة .
والوجودية " بوصفها مذهباً أو اتجاهاً أو تياراً إنسانياً طرحت قضية الإنسان , وعدَّت الأدب هو القادر على أنْ يتبنى قضيته في العالم ، وهذه القضية ... تتجلى أبرز مظاهرها في تحمُّل هذا الإنسان أعباء الإنسانية في تعاملها مع الكون أو مع الحياة بصيغة تمنحه السعادة والراحة والطمأنينة ...ومن هنا حمَّل الوجوديون الأديب سمة المسؤولية في إدراك هذا المفهوم " (3) , فالأدب هو مايحقق لبني البشر سعادتهم من خلال تعبيره عن ذواتهم ، وما تطمح إليه تطلعاتهم.
ولما كان الأدب فنَّاً , والفن هو القادر على التعبير عن دواخل الإنسان والقادر على تغيير نمطية حياة المجتمعات من خلال توعيتها ذهنياً وروحياً وذوقياً ؛ لذلك كان للأدب دوره الفاعل في تغيير حتى السياسات التي بدورها تقوم بتغيير حياة العالم إلى ماهو أكثر استقراراً وأماناً , والفنان " هو الذي يجعل الغائب حاضراً ؛ لإدراكه أنَّ قدراً أكبر من الحقيقة إنَّما يكمن في الغياب ، والفن بهذا المعنى صرخة في سبيل تحرر الإنسان من عالمه اليومي والسائد والمألوف والسطحي الواضح , والانتقال إلى عالم الباطن , ومواطن الأسرار , وبلوغ الموجود المبدع الكائن في أحشاء هذا العالم " (4) ؛ لذلك يمكن أنْ يحقق الناقد من خلال قراءة نصوص الشاعر ، واستلال ما يعانيه ذلك الشاعر وماتبوح به قريحته الإنسانية من استشعار لمعاناة بني الانسان من الواقع وقسوته التي تحيط به في ظل الاغتراب المكاني والنفسي الذي يعيشه أبناء الأمة .
وشاعرتنا بنفسج محمد علي من الشاعرات اللاتي اختلجنَ الشعر , وتلجلجت روحها فيه ، وهي ترسم من خلال ما تستشعره صورة الصراع الداخلي الذي يحتاش الإنسان حين يفتقر إلى أعِزَّةٍ في وطن أو إلى حبيب غائب ومازالت الذاكرة تستطيبه , فتندى الجراح له , كأنْ يكون أباً أو أمَّاً أو حبيباً , فللمواقف الشعرية وأساليبها التعبيرية القدرة على البروز " بوصفها عناصر رؤيا للشعر المعاصر , إذ يجترح أحد الباحثين مجموعة سمات في الشعر المعاصر تمثل عناصر ( لرؤيا الحداثة ) متمثلة بالصدق والتمرد والرفض والتركيز على وجدان الإنسان وعالمه الخارجي والشعور بإشكالية المصير الإنساني , ثم معاناة الانسلاخ والغربة الروحية , وأخيراً النسبية والتحرر من القواعد " (5) .
وشاعرتنا تطالعنا في العديد من قصائد مجموعتها الشعرية ( مرافئ التعب ) بما تحمله من مشاعر إنسانية مؤداها الرفض والتمرد والحنين لما يمتلكها من حبٍّ إنساني لبني الانسان , وما تستشعره من فداحة الاغتراب الذي ألمَّ بها ؛ لذلك نجد القارئ الذي يعيش نفس المعاناة سيسلو من همومه وجراحاته بالحنين إلى ملاذه الذي يتوق إليه ، فنراها تقول :
ثوب الليل لايستر عورةَ حزني
وبرهةَ فرحي
ورقة توتٍ لاتصمد طويلا أمام ليل المنفى !
كيف أهرب من وزر هذا الليل ؟
كيف لي أن أرتِّق جسد حرف
أكله رثُّ الانتظار ؟.
وهي تحاول أن تعبِّر عن جزعها إزاء غربتها , فالليل الكثيف بظلامه , هو غير قادر على أن يخفي أحزانها , ولا حتى برهة من فرحها ، فهي كورقة التوت الرقيقة التي لاتصمد أمام عصف المنفى وقسوته ، كذلك ليس باستطاعتها أنْ ترتِّق جسد حروفها التي تعبِّر بها عما يجيش في داخلها من حزن تجاه حنينها للوطن بيد أنَّها تعيش في غربة نكداء بعيدة عنه .
ويبدو أنَّ الشاعرة تعبِّر بطريقة فنية عمَّا يعتملها , مستعملة أسلوب الاستعارة في نصوصها , ومنها : ( ثوب الليل , عورة حزني , ليل المنفى , جسد حرف ، رثّ الانتظار ) , كذلك استعمالها الرمز في ( ورقة توت ) , والتوت هو من أعز الأشجار (6) , وأوراقها من أندى الأوراق وأرقِّها ؛ لذلك شبَّهت نفسها بأوراقه , وقد أشاعت في سطورها أصوات هامسة منها صوت التاء , فقد أوردته عشر مرات , وصوت اللام وأوردته تسع مرات معبِّرة بها عن خلجاتها الشفيفة ومعاناتها القاسية لتقدمها برقة وأناة ، كما وردت الأصوات الهوائية ستاً وعشرين مرة , وهي : ( الراء والواو والألف والهاء والحاء والفاء والزاي ) ؛ لتظهر لنا من خلال لاوعيها أنَّها تعيش مع الليل صراعاً مشوباً بالأسى واللوعة , وهي تكتم تلك الآلام مع نفسها الطرية , فتحاول أن تبكي على وسادة الصمت ؛ لما ينتابها من حنين وشوق إلى الغائب البعيد ، حين تستذكره وهو بعيد عنها ( الوطن البعيد أو ممن يسكنه ) , بينما أوردت أصوات الغصَّة والحشرجة واللوعة , وهما صوتا الكاف والعين وهي تُشفع الصوت الأول بالتساؤل بـ اسم الاستفهام ( كيف) في إشارة إلى حيرتها أمام واقعها المعيش وفقدان ضالَّتها المنشودة .
أما قولها :
أنا الحرف
الذي لم يُكتَب بعد أبجديات العشق
أحشو بقايا نبضي بين طيات قلبك
لعلَّه يحيي بعض الرميم .
فنجد في سطورها تحدياً كبيرا وهي تقول قولتها في العشق الأبجدي ، لكنَّ عشقها يفوق أبجديات كل العشاق من خلال ماستسطره من حروف تحمل معاني الشوق والوله والهيمان ، بينما نلمس حنينا ثائراً يعصر حشايا قلبها ، فهي تحاول أن تمنح النص معنى الترجي باستعمالها ( لعل ) مشفوعاً بدلالة الفعلين ( لم يُكتب ) لدلالته على الزمن الماضي والفعل ( أحشو ) للزمن المستمر لعل ذلك يحيي بعض الرميم , والمعنى الذي تستبطنه السطور هو الحنين المفرط للحبيب الذي تكنُّ له أسمى آيات الجمال الروحي .
بينما قولها :
أنا مذ عرفتك
ركبتُ موجَ الله
أعرف سبيل الملقى
وسأبقى رهن انتظارك
ما حييت .
فنجد في ذلك إحساساً عالياً من الحنين والتوق للحبيب ( الوطن ) ،وهي تطعمه بنكهة المقدس ؛ لتسبغ حنينها بسلافته , بيد أنَّها تناسق بين الأفعال الماضية ( عرف ، ركب ) من جهة ؛ للانتقال من زمن الماضي , إلى زمن الحاصر في دلالة الفعل : ( أعرف ) ثم بالفعل المضارع ( سأبقى ) الدال على المستقبل ؛ لتمنحنا استمرارية الانتظار والصبر على لقيا من تكنُّ له حبَّها الشرعي المكين .
ثم تؤكد مجاهرتها لمرارة الألم الممض وتَمَزُّق النفس ؛ لفقدان أملها لعتمة نفق حياتها الذي ليس فيه منفذاً للنور ؛ مما يجعلها تعيش الحيرة والمعاناة , فنراها تقول :
ومن أين نأتي
بكركرات طفلةٍ
تكسر ضلعَ الجحيم ؛
لتضيء بإشراقها
حلكة أفقنا المعتم .
إذ نراها قد نفد صبرها ؛ لتتعلل بالكلمات ، فهي تتساءل عن كيفية جلب كركرات طفلة ، والطفلة تمثل البراءة , وكركراتها تومئ إلى سعادتها ؛ لذا فالشاعرة تتمنى أن تعيش مع مَن تَفتقده ؛ لتتمكن من كسر لسع الجحيم لها ؛ ومما تقاسية من البعاد وظلمة العيش التي تستشعرها بعدما رست أساطيل الوجع في مؤانئ قلبها المفعم بالحب ، و من دون جدوى في إضاءة حلكة أفقها ، بل وبوأد أملها المُنتَظر .
أما قولها :
خارطة أفكاري ضلَّت فتنتها
وتاهت في مداها ظنوني
وحدها سرائري
بقيت تطوف
بغربتي تتشح رداء
الأماني .
والشاعرة هنا تفرق بين الفكر والعاطفة , فهي تريد أنْ تبيِّن أنَّها حينما تتعامل مع المنطق , وهي تعيش الواقع ترى أنْ لامناص لما هي عليه ؛ كونها تعيش الاغتراب المكاني ، بينما تترك للعاطفة إحساسها تجاه توقها ؛ وذلك من خلال سرائرها التي ظلَّتْ تتطوَّف بغربتها ؛ وهي تتشح رداء أمنياتها أملاً في تحققها .
من هنا نستنتج أنَّ شاعرتنا بنفسج في انتظارها للأمل الموعود قد وظَّفت كل ما ينتج لها من حنين بات يشغل عاطفتها ؛ ذلك لما تعانيه من غربةٍ مفرطة , جعلت نصوصها تحمل القلق والحسرة الذي نجم من الاغتراب , ومن ثم الحنين إلى مسقط رأسها وأحبَّتها هناك .
الهوامش :
(1) ينظر : موسوعة الفلسفة ، د. عبد الرحمن بدوي :2/ 627
(2) ينظر : المصدر نفسه : 1/ 568 .
(3) الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر , سلام الأوسي : 157.
(4) دراسات في الشعر والفلسفة , د. سلام كاظم الأوسي : 49.
(5) دراسات في الشعر والفلسفة , د. سلام الأوسي : 52 , وينظر :
الصوت الآخر , فاضل ثامر : 230 .
(6) ينظر عجائب الملكوت ، عبد الله الزاهد : 200
736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع